ملخص
يوليو يعيد شعار "حصرية السلاح" إلى الواجهة، لكن وعود الرئيس جوزاف عون تصطدم بواقع سياسي وأمني معقد. لا نقاش جدياً حول سلاح "حزب الله"، والمتخصصون يؤكدون: نزع السلاح من دون تسليح الجيش وقرار سيادي موحد يبقى طرحاً غير واقعي.
يحل يوليو (تموز) هذا العام على لبنان محملاً بالاستحقاقات، وسط ترقب داخلي وخارجي لما ستفضي إليه أولى محطات العهد الرئاسي الجديد، الذي انطلق بخطاب قسم وصف بالجريء والسيادي، إذ أعلن فيه الرئيس جوزاف عون التزامه الصريح "حصرية السلاح بيد الدولة" وبسط سلطة الجيش على كامل الأراضي اللبنانية وفقاً للدستور والقرارات الدولية، ولا سيما القرار 1701. وبدا الخطاب كأنه لحظة استعادة للدولة، وضعت عليها آمال عريضة للخروج من زمن "الدويلات".
من التصعيد الإعلامي إلى الواقع السياسي
لاحقاً، جاءت سلسلة مقابلات الرئيس لتؤكد هذا المنحى، إذ شدد في أكثر من مناسبة على أن السلاح خارج الدولة لم يعد مبرراً بعد اليوم، وألا شرعية لأي قوة مسلحة غير الجيش، حتى لو كانت مرتبطة بعناوين المقاومة أو تحرير الأرض. وعلى رغم استخدامه خطاباً مموهاً أحياناً، فإن اتجاهه العام عكس قراراً واضحاً بالمواجهة التدرجية مع السلاح غير الشرعي.
في منتصف يونيو (حزيران) الماضي ظن البعض أن أولى خطوات هذا المسار قد بدأت، مع الإعلان عن اتفاق لتسليم سلاح الفصائل الفلسطينية في مخيمات بيروت، بضغط أمني مشترك لبناني - فلسطيني - عربي، ضمن ترتيبات وصفت بأنها "بالون اختبار" قبل فتح الملف الأصعب: سلاح "حزب الله". فسر الحدث على أنه بداية تطبيق واقعي لوعد الرئيس، وربطه بعض المراقبين بالمفاوضات غير المعلنة مع الوسيط الأميركي توم براك.
لكن ها نحن اليوم، في يوليو، أمام مشهد مختلف تماماً. فبعد كل الكلام الكبير وكل الإشارات المتفائلة يتبين ألا جهة رسمية تجرؤ على طرح مسألة نزع السلاح من طاولة القرار. لم يمس سلاح "حزب الله"، ولم يفتح نقاش جدي حول دور الفصائل الفلسطينية في الجنوب، بل زاد الانقسام، وبدأت الدولة تتراجع أمام توازنات الأمر الواقع.
فهل كان خطاب القسم مجرد تمنيات؟ أم أن العهد اصطدم باكراً بحقيقة يعرفها اللبنانيون جيداً: لا دولة في ظل سلاح أقوى منها؟
"حصرية السلاح" بين الشعار والواقع
في السياق رأى العقيد المتقاعد والمتخصص في الشؤون العسكرية والقانون الدولي أكرم سريوي أن "الرئيس عون لم يخطئ عندما رفع شعار حصرية السلاح بيد الدولة، بل أطلقه من قناعة وطنية لا من باب الاستهلاك السياسي، لكنه يدرك أن تنفيذ هذا الشعار يمر أولاً عبر تطبيق القرار 1701 ووقف الأعمال العدائية، وهو أمر لم تلتزمه إسرائيل بعد".
وعما إذا سقط الرئيس اللبناني بفخ تصريحاته، نفى سريوي ذلك، مشدداً على أن "الرئيس عون مقتنع بضرورة حصر السلاح بيد الدولة، لكنه يدرك في المقابل أن إسرائيل ما زالت تحتل أراضي لبنانية، وتمنع عودة السكان إلى قراهم، وتنتهك السيادة يومياً، لذا فإن القفز إلى ملف نزع سلاح الحزب قبل معالجة هذه الأولويات هو مجازفة مرفوضة".
ورأى سريوي أن "الذي تغير فعلياً هو تعنت إسرائيل ومحاولتها فرض اتفاق استسلام على لبنان"، مؤكداً أن "الإصلاحات الداخلية ونزع السلاح شأن سيادي لبناني لا يحق لأحد فرضه من الخارج"، مضيفاً أن "تحميل الرئيس مسؤولية أزمات عمرها نصف قرن أمر غير منطقي"، ومحذراً من "وجود أطراف تدفع الجيش نحو مواجهة مع ’حزب الله‘، وهو خيار أثبتت التجارب أنه لا يجلب إلا الدمار".
سلاح المخيمات: مناورة أم بداية حل؟
أما عن مسار تسليم الأسلحة في بعض مخيمات بيروت في يونيو الماضي، فأوضح سريوي أن الخطوة "ليست سوى بداية جزئية لم تترجم فعلياً، لأن السلاح في المخيمات ما زال خارج الشرعية، وتحول إلى خطر على الفلسطينيين واللبنانيين"، مشيراً إلى أن "الرئيس الفلسطيني محمود عباس قدم تعهدات لا يستطيع تنفيذها، نظراً إلى وجود تنظيمات خارجة عن سلطته"، وشدد على "ضرورة التزام الفصائل القوانين اللبنانية، وإعادة مخافر الدرك إلى داخل المخيمات كما كانت الحال قبل 1969"، قائلاً أيضاً "من غير المقبول أن تبقى المخيمات بؤراً خارجة عن القانون"، لكنه لفت إلى أن "الدولة اللبنانية تفضل حالياً معالجة هذا الملف بالحوار وليس بالقوة، حرصاً على الاستقرار الداخلي وتركيز الجيش على الجنوب".
"حزب الله" وشروط النقاش
في وقت عاد ملف "حصرية السلاح" إلى الواجهة، وسط تصاعد الحديث عن محطات مفصلية عام 2025، وعودة الحرب الإقليمية لتفرض ترتيباً جديداً للأولويات، أكد الصحافي محمد علوش، المطلع على أجواء "حزب الله"، أن "الحزب لا يرفض مناقشة مسألة السلاح، بل يضعها ضمن إطار وطني واستراتيجي، بعيداً من الضغوط الدولية أو الرغبات الإسرائيلية"، ورأى علوش أن "العلاقة بين الحزب ورئيس الجمهورية كانت ممتازة منذ انطلاقتها، ووضعت على قاعدة التفاهم والوضوح"، مشيراً إلى أن "الحزب وافق على خطاب القسم والبيان الوزاري، مما يعكس تقاطعاً على مستوى المبادئ، ومنها مبدأ حصرية السلاح"، لكنه أوضح أن "موقف الحزب من هذا الشعار لا يعني نزع السلاح الآن، بل الاستفادة منه ضمن استراتيجية وطنية للدفاع عن لبنان، باعتباره أحد عناصر القوة، ريثما تتوافر ضمانات وسيادة مكتملة على الأرض".
أما في ما يخص سلاح المخيمات الفلسطينية، فأكد أن "الجدول الزمني الذي وضع كان متسرعاً، إذ سرعان ما برزت خلافات عميقة داخل المكونات الفلسطينية، إضافة إلى تعقيدات تتعلق بولاءات متعددة للفصائل، مما دفع الدولة اللبنانية إلى التريث حرصاً على عدم الانزلاق إلى صدام عسكري داخل المخيمات"، مشيراً إلى أن "تطور الصراع بين إيران وإسرائيل أعاد ترتيب الأولويات في المنطقة"، مضيفاً "معالجة سلاح المخيمات تحتاج إلى دعم عربي ودولي كبير، وهي ليست من اختصاص رئاسة الجمهورية حصراً، بل مسؤولية وطنية جامعة تشمل الحكومة ومجلس النواب". ولفت علوش إلى أن "حزب الله لا يمانع مناقشة ملف سلاحه، شرط أن يكون الحوار من منطلق تعزيز قوة لبنان، لا استجابة لإملاءات خارجية"، وتابع "غياب تسليح فعال للجيش يبقي سلاح المقاومة حاجة موقتة"، معتبراً أن "بعض الأطراف يستخدم شعار حصرية السلاح كورقة ضغط سياسية، ويربطه بالأزمة الاقتصادية لإحراج الحزب داخلياً وخارجياً"، ومؤكداً أن "الحل لا يكون إلا عبر توافق بين الرئاسات يحفظ وحدة الدولة ويمنع الفوضى، لأن لبنان لا مكان له بين الأقوياء إن كان ضعيفاً أمام التهديدات الإسرائيلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ملفات المنطقة وانعكاساتها
في مشهد إقليمي متحول، من سقوط نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، إلى حرب إيران - إسرائيل، ومن تسويات غزة إلى قطار التطبيع، لا يزال لبنان، بحسب الباحث والمحلل السياسي سام منسى "خارج سياق اللحظة، عاجزاً عن إنتاج قرار وطني واضح في شأن موقعه من النزاع، ودوره في ما تبقى من ملفات المنطقة"، مضيفاً "الرئيس عون لم يخطئ في طرح شعار حصرية السلاح بيد الدولة، لكنه اصطدم سريعاً بواقع لبناني غير قابل للتنفيذ، وحكومة غير قادرة على تحويل الخطاب إلى سياسة، بفعل غياب التوافق الوطني، وتعطل المؤسسات، وتوزع الولاءات بين الداخل والخارج"، وتابع منسى "رفع شعار نزع السلاح في بداية العهد لم يكن خطوة عبثية أو مناورة شعبوية، بل جاء في لحظة سياسية اعتبرت مواتية، بعد تراجع نفوذ ’حزب الله‘ نسبياً، وسقوط حلفائه في الإقليم، لكن مع مرور الوقت تبين أن المؤسسات اللبنانية عاجزة عن اتخاذ قرار بهذا الحجم، في ظل وجود مكون سياسي رئيس يرفض مناقشة الملف، ويملك حق التعطيل داخل مجلس الوزراء". وأضاف "حين يعجز مجلس الوزراء عن إصدار بيان يترجم موقف رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، نكون أمام حكومة مشلولة، غير قادرة على تنفيذ ما تعد به أمام الداخل والخارج".
لحظة ضائعة لا محطة حسم
ورأى منسي أن "عام 2025 لم يكن لحظة حاسمة كما رُوج له، بل مهلة موقتة استخدمها الرئيس عون لتأجيل استحقاق لا يملك أدوات معالجته"، مؤكداً أن "لبنان لم يدخل في تسوية فعلية بعد، بخلاف سوريا التي حسمت موقفها. وكيف يمكن الحديث عن نزع السلاح في ظل غياب قرار سيادي واضح يحدد ما إذا كانت الدولة جزءاً من محور المقاومة أم خارج النزاع؟".
سلاح المخيمات ووهم التوقيت
أما عن خطوة تسليم السلاح في بعض المخيمات الفلسطينية منتصف يونيو، فوصفها منسى بـ"مناورة سياسية، إذ إن هذا السلاح مرتبط عضوياً بـ’حزب الله‘ ويمثل امتداداً لوظيفته في الداخل"، مشيراً إلى أن "الرئيس الفلسطيني لا يملك السيطرة الفعلية على التنظيمات داخل المخيمات، مما يجعل تفكيك السلاح الفلسطيني مستحيلاً قبل حل معضلة سلاح الحزب"، ومعتبراً أن "إخفاق الدولة في هذا الملف لا يحمل للعهد وحده، بل يشمل المنظومة السياسية بأكملها، في ظل غياب قرار داخلي جامع وعجز عن مواكبة التحولات الإقليمية"، مؤكداً أن "ملف السلاح تجاوز قدرات الداخل، وبات مرهوناً بتفاهم إقليمي - دولي لم تنضج ظروفه بعد".
محور الخارج يقرر
بدوره أكد المتخصص السياسي جورج العلم أن "وصول الرئيس عون إلى سدة الرئاسة لم يكن نتيجة توافق داخلي، بل قرار خارجي فرضته ظروف الشغور، وهو ما تكرر في تكليف نواف سلام تشكيل الحكومة، مما يعكس هيمنة المحور الخارجي على مفاصل القرار اللبناني"، ورأى أن "خطاب القسم الرئاسي شكل لحظة طموحة، لكنه بقي معلقاً بين هشاشة الداخل وبرودة الخارج، إذ لم تتوفر له بيئة تنفيذية صلبة، لا من جهة المؤسسات المفلسة، ولا من القوى السياسية التي لم تؤمن فعلياً بقيام دولة قوية تنهي نفوذها، ومع انعدام الدعم الدولي الملموس، تحول الخطاب إلى وثيقة نيات لم تجد طريقها إلى التطبيق"، واعتبر العلم أن "ملف السلاح، سواء المرتبط بـ’حزب الله‘ أو بالمخيمات الفلسطينية، بات أكبر من أي عهد، ولا يمكن معالجته بشعارات أو مؤتمرات، بل يحتاج إلى تفاهم دولي - إقليمي غير متوافر حالياً، فالمواقف اللبنانية من نزع السلاح، وإن بدت تصعيدية إعلامياً، لا تعكس رغبة فعلية لدى أي طرف داخلي بالتجريد الكامل، حفاظاً على التوازنات الطائفية والسياسية القائمة".
وفي ظل هذا الجمود برزت مجدداً الوساطة الأميركية من خلال الموفد الجديد توم براك، الذي أطلق دبلوماسية "الخطوة مقابل خطوة"، في محاولة لإحياء التفاوض بين بيروت وتل أبيب ضمن سقف القرار 1701، إلا أن الأجواء، بحسب العلم، "تميل نحو التصعيد لا التهدئة، مع ترقب معركة دبلوماسية في مجلس الأمن حول تجديد ولاية ’اليونيفيل‘ واحتمال توسيع مهامها، مما يثير مخاوف من تدويل أوسع للملف الأمني الجنوبي"، وختم العلم بطرح علامات استفهام حول مدى جدية واشنطن في دعم سيادة لبنان، في ظل ما يعتبره مساراً تطبيعياً تقوده إسرائيل على مستوى الإقليم، محذراً من أن الضغوط المتزايدة قد تفرض تدريجاً على لبنان ما لم تواجه بموقف لبناني موحد ودعم دولي فعلي.