ملخص
"في تقديري أن قرار الحكومة بعودة الموظفين في الوقت الراهن مجحف وغير صائب، لأننا في الأساس أجبرنا على ترك البلاد خوفاً من الانتهاكات الوحشية التي مارسها أفراد (الدعم السريع) بحق المواطنين بخاصة النساء، إضافة إلى صعوبة التعايش مع الانفلاتات التي صاحبت الحرب ولا تزال قائمة بل زادت وباتت في وضح النهار، إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي وتوقف الإمداد المائي".
على رغم دعوة الحكومة السودانية موظفيها في الخرطوم إلى مباشرة مهامهم بعد أقل من ثلاثة أشهر من إعلان العاصمة خالية من "الدعم السريع" إلا أن كثيرين يرون أن تنفيذ هذا القرار يعد ضرباً من ضروب المستحيل لناحية أن البيئة في ولاية الخرطوم غير صالحة للعيش نظراً لما لحق ببنيتها التحتية من دمار هائل، تعطلت معها الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وصحة وتعليم وغيرها، فضلاً عن فقدان معظم المواطنين ممتلكاتهم بسبب عمليات النهب والسلب التي طاولت منازلهم، مما يضطرهم لتهيئة أوضاعهم من جديد بكلفة عالية، وهو أمر غير متاح في ظل ظروفهم المادية المتردية.
مرحلة الإعمار
وكان رئيس الوزراء كامل إدريس الذي يجري مشاورات حالياً لتشكيل حكومة جديدة تتكون من 22 وزارة تحت مسمى "حكومة الأمل"، دعا إلى ضرورة استئناف العمل الحكومي من العاصمة مع تذليل العقبات والتحديات، فضلاً عن عودة بعض الوزارات كوزارة الداخلية، التي جرى تزويدها بالطاقة الشمسية بعد أن تعذر تشغيل محطات الكهرباء الرئيسة، التي تعرضت للنهب والسلب والتخريب.
في المقابل دعا والي الخرطوم أحمد عثمان حمزة المواطنين إلى العودة للعاصمة والمساهمة في استعادة ملامح الحياة، مشيراً إلى أن الجهود الحكومية والأهلية تسير بوتيرة متصاعدة لإعادة الخدمات وتأهيل البنية التحتية التي تضررت جراء الحرب على رغم حجم التحديات التقنية والتمويلية.
وأنهت حكومة ولاية الخرطوم الإجازة المفتوحة التي منحتها للعاملين منذ أبريل (نيسان) 2023 وحددت منتصف يونيو (حزيران) الماضي موعداً نهائياً لعودة الموظفين إلى العمل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقالت حكومة الولاية إن القرار يأتي استجابة لمتطلبات مرحلة إعادة الإعمار وحاجة الولاية الملحة لعودة الكوادر البشرية لإدارة المؤسسات والهيئات الرسمية، في حين منحت الولاية موظفيها فترة زمنية لتسوية أوضاعهم.
وكانت الأمم المتحدة أعلنت في وقت سابق أن العاصمة السودانية لا تزال غير آمنة لاستئناف أنشطتها، وبينت إدارة السلامة والأمن التابعة للأمم المتحدة أن وسط الخرطوم يعاني من دمار واسع بسبب الحرب، ومن الصعب الوصول إليه حتى يناير (كانون الثاني) 2026، نظراً لوجود كميات كبيرة من المتفجرات ومخلفات الحرب، فضلاً عن انهيار البنيات التحتية الأساسية.
مخاوف الرجوع
تقول الموظفة نهى الأمين التي تعمل في إحدى مؤسسات الدولة إنه "منذ اندلاع الحرب في الخرطوم قبل أكثر من عامين والتي عطلت العمل في مؤسسات الدولة، وأدت إلى تشريدنا من منازلنا قسرياً، ظللنا نعاني أوضاعاً معيشية معقدة في دول الجوار التي نزحنا إليها، بسبب تقليص الرواتب الشهرية ووقف المخصصات التي كانت تشكل لنا الاستقرار الأسري".
وأضافت الأمين "في تقديري أن قرار الحكومة بعودة الموظفين في الوقت الراهن مجحف وغير صائب، لأننا في الأساس أجبرنا على ترك البلاد خوفاً من الانتهاكات الوحشية التي مارسها أفراد (الدعم السريع) بحق المواطنين بخاصة النساء، إضافة إلى صعوبة التعايش مع الانفلاتات التي صاحبت الحرب ولا تزال قائمة بل زادت وباتت في وضح النهار، إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي وتوقف الإمداد المائي مما جعل سكان العاصمة يجلبون المياه من مصادر غير آمنة الأمر الذي عرضهم للإصابة بوباء الكوليرا".
وتابعت "فقدنا منازلنا وباتت عبارة عن أشباح، إذ إن إعمارها واسترجاع القليل من الممتلكات يحتاج إلى مبالغ طائلة وهو أمر صعب في ظل الظروف الحالية، وبالتالي فإن مباشرة أعمالنا الحكومية يزيد من أعبائنا المالية لأننا في هذه الحالة سنضطر إلى استئجار منزل مهيأ للسكن بكلفة عالية، إضافة إلى أن أسعار المواد الغذائية في تصاعد بسبب التضخم الاقتصادي، وهنا أتساءل: من أين لنا بالمال لتأمين الحياة، ومن المؤسف أن القرار صاحبته تهديدات بأنه في حال عدم مباشرة العمل سيتم إنهاء خدمات الموظف وحرمانه من مستحقات سنوات الخدمة".
وزادت في القول "هذا القرار المجحف وضعنا أمام معادلات حياتية صعبة للغاية، فإما أن تخاطر الأسرة بالعودة إلى العاصمة وتحمل كل الأعباء المادية وغيرها من أخطار سواء من ناحية الأوبئة والانفلاتات وغيرها، أو يذهب رب الأسرة وحده تاركاً أبناءه في مناطق النزوح واللجوء وتحملهم المسؤولية، أو التضحية بالوظيفة وفقد كل شيء من راتب ونهاية خدمة".
وأشارت الموظفة إلى أن عودة موظفي الدولة في هذه الظروف الاستثنائية مرهونة بتوفيق أوضاعهم المعيشية وضمان تنقلهم الآمن إلى مقار العمل، فضلاً عن استقرار جميع الخدمات الأساسية وهي الخطوة الأساسية لاتخاذ قرار العودة.
أزمات متفاقمة
إلى ذلك، أوضح مدثر عباس، الذي يعمل في إحدى محليات الخرطوم أن "ممارسة العمل في الوقت الحالي والتعايش في بيئة غير مهيأة مسألة في غاية الصعوبة، فالبيئة تتطلب حملات تطهير وتعقيم شاملة حتى الأحياء السكنية، التي تتجمع فيها الجثث المتحللة ومخلفات الحرب، لأن الوضع الراهن أودى بحياة كثير من المواطنين بخاصة الأطفال".
وأردف عباس "من ناحيتي لا أستطيع تنفيذ قرار العودة للخرطوم حتى أضمن سلامة أسرتي وأطفالي، فمعظم المواطنين الذين عادوا صدموا بسوء الأوضاع في العاصمة من ناحية استمرار الانفلات الأمني وعدم توافر الخدمات بخاصة المستشفيات، فضلاً عن تفشي الجوع والاعتماد على المطابخ الجماعية، غير أزمة العطش والكهرباء وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بصورة لا تصدق".
ولفت موظف المحلية إلى أنه "يجب أن تؤخذ الظروف التي أجبرت الموظفين على المغادرة في الاعتبار، فمباشرة المؤسسات الحكومية مهامها في وضع ما زال محفوفاً بالمخاطر أمر غير موفق ولم يدرس بشكل جيد، فمن الصعوبة بمكان عودة الحياة للعاصمة بهذه السرعة في وقت ما زالت تعاني من كل شيء، حيث شمل الدمار كل المؤسسات الخدمية وهي أساس الحياة".
حاجة واضطرار
فتح الرحمن البشير، الذي يعمل في أحد المصارف قال "أجبرتني ظروفي الخاصة على أن أزاول عملي من جديد بعد أن تم نقل مقر العمل من وسط الخرطوم إلى مدينة أم درمان التي تعيش استقراراً نسبياً، لكني اضطررت أن أترك أسرتي في إحدى دول الجوار خوفاً من انتشار الأمراض والأوبئة وعدم توافر الدواء، بخاصة أن لدي أطفالاً، وحتى أتمكن من تأمين متطلباتهم الضرورية وفي الوقت ذاته أضمن سلامتهم من الأخطار".
وأشار الموظف المصرفي إلى أن "ملامح العاصمة الخرطوم الآن تثير المخاوف فمعظم المنازل خاوية ومهجورة فلا حياة داخل الأحياء، كما أن منظر الدمار الذي لحق بالمنازل ومؤسسات الدولة مؤلم للغاية، وفي تقديري فإن عودة الحياة تحتاج لسنوات بالنظر لحجم الخراب الذي طاول كل شيء".
وزاد "صحيح أن الدولة تحتاج لأبنائها لكي ينخرطوا في عمليات إعادة البناء لتعود الحياة من جديد، لكن ما شاهدته من دمار يفوق قدرات المواطن المحدودة، فلا بد من الاستعانة بخبرات خارجية لتأهيل القطاعات على الأقل الحيوية والتي تتعلق بالبنى التحتية كالكهرباء والمياه والطرق والخدمات الصحية وغيرها".
قرار سياسي
وعلى الصعيد ذاته قال شوقي عبد العظيم المتحدث الرسمي لتنسيقية المهنيين والنقابات السودانية في تصريحات صحافية إن "قرار إعادة الموظفين للعمل في ولاية الخرطوم حالياً، في الأصل قرار سياسي، لا سيما أن العودة تتطلب توفير خدمات تلبي حاجاتهم الأساسية".
وبين عبد العظيم أن "هناك مشكلات كبيرة تتعلق بالرواتب والمعاشات، إضافة إلى تدهور الأمن بل انهياره، على رغم سيطرة الجيش على العاصمة، فضلاً عن أن القرار يفرض ضغوطاً كبيرة على الأسر للعودة من المناطق الآمنة سواء داخل البلاد أو خارجها، فالمناطق التي استعادها الجيش من قبضة الدعم السريع تحتاج إلى تأهيل وإعادة إعمار وتنظيف حتى تصبح صالحة للعيش".
واستطرد "في تقديري هذه القرارات تضع الدولة أمام التزامات كبيرة أهمها توفيق أوضاع الموظفين من توفير الظروف الحياتية الملائمة التي كانت متاحة قبل الحرب".
وختم المتحدث الرسمي بالقول "هذا القرار القاضي بمباشرة الموظفين لأعمالهم يهدف في الأساس لإيجاد تمويل من المجتمع الدولي لإعادة الإعمار وتقديم مساعدات للمواطنين بخاصة في ولاية الخرطوم، والأهم من ذلك منع قوات الدعم السريع من مهاجمة الخرطوم مجدداً وتفادي الكلفة البشرية التي تترتب على ذلك".