ملخص
كير ستارمر يفقد زمام المبادرة داخل حزبه مع تزايد تمرّد نواب "الصفوف الخلفية" الذين باتوا يفرضون أجندتهم في ملفات حساسة كإصلاح الرعاية ومدفوعات الاستقلالية. هذا الانفلات الداخلي يمنح اليمين المتطرف فرصة ذهبية ويهدد بتقويض قيادة ستارمر ومستقبل المستفيدين من الدعم الاجتماعي.
لو كنت في موقع تقديم المشورة لزعيمة المعارضة، كيمي بادينوك، حول أفضل الطرق للاستفادة من المأزق الحالي الذي يمر به رئيس الوزراء - وهي، والحق يقال، بحاجة ماسة إلى من ينصحها - لأشرتُ إليها بالرجوع إلى واحدة من أكثر لحظات توني بلير بلاغة حين كان يؤدي دورها قبل 30 عاماً. نعم، مر على ذلك كل هذا الوقت.
فكما يواجه كير ستارمر اليوم متاعب مع"نواب الصفوف الخلفية في حزبه، [تعبير برلماني يشير إلى النواب الذين لا يشغلون مناصب وزارية أو قيادية في الحزب]، واجه المسكين جون ميجور [رئيس الوزراء السابق] الأزمة عينها في ذلك الوقت - والسبب كان أوروبا طبعاً. توني بلير هيمن على الموقف، وانحنى نحو المنصة، والازدراء بادٍ على وجهه، ليقول ببراعة مسرحية واستهانة قصوى: "ثمة فرق كبير واحد – أنا أقود حزبي، أما هو فيتبع حزبه".
وكما هي حال ستارمر اليوم، كان ميجور يعاني في تلك الأيام صعوبة السيطرة على حزبه، ويخوض صراعاً دائماً مع النواب المتمردين، يتأرجح بين معاقبتهم وتهدئتهم، من دون أن يحقق نجاحاً يذكر في أي من الطريقتين.
واعتبرت جملة بلير ذكية بصورة مضاعفة لأنها استغلت الانقسام الواضح في صفوف الخصم، فيما سعت في الوقت نفسه إلى إبراز تباين حاد بين خصمه من جهة وبين قوة زعامته الشخصية والتغييرات التي كان يدخلها إلى حزبه من جهة أخرى.
أما اليوم، فإن التراجعات في ملف بدل الوقود الشتوي للمتقاعدين، والآن في إصلاحات الرعاية الاجتماعية – وإن كان الأمر أقل وضوحاً في تغيير السياسة حول التحقيق في عصابات الاستغلال – كلها تظهر أن ستارمر بات مضطراً إلى أن يتبع حزبه بدلاً من أن يقوده. وهذا ما يثير استياء الرأي العام أكثر من السياسات نفسها.
قد يكون من المفيد التذكير بأن جوهر الانتخابات العامة الأخيرة تمثل في استجابة البلاد لشعار حزب العمال الغامض على نحو محسوب: "التغيير".
فقد سئم الناخبون بالفعل من "الفوضى والارتباك"، كما وصف ستارمر حكم "المحافظين"، ومنحوه تفويضاً ليتولى مسؤولية إدارة البلاد.
وكانت الغالبية البرلمانية – على رغم أنها تضخم نصيب الحزب من التصويت الشعبي – من بين الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وأكثر من كافية لتمرير أية تشريعات لازمة. لكن الواقع كان مختلفاً.
فالحكومة وجدت نفسها رهينة لنوابها في الصفوف الخلفية. وكان يفترض أن كتلة نواب عام 2024 الجديدة ذات توجه وسطي، موالية لستارمر، وتحمل قدراً من الامتنان المتوقع من ديمقراطي اجتماعي فاز بمقعد ريفي ظل في قبضة "المحافظين" منذ عام 1918 أو نحو ذلك.
لكن، ربما لأن نضجهم السياسي – أو بالأحرى عدم نضجهم – تشكل خلال عهد جيريمي كوربين، فقد عادوا لطبيعتهم الأصلية.
هم لم يسبق أن وافقوا على أي خفض في الإنفاق العام، وأدركوا فجأة ما لديهم من سلطة كامنة في أيديهم. ويبدو أنهم يستمتعون بذلك.
شخصيات مغمورة، كانت محظوظة أصلاً بأن تصبح نواباً، تظهر الآن في الحوارات التلفزيونية والتقارير الإخبارية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي والبودكاست، وتعامل بقدر من الاحترام لا تستحقه تماماً.
وعندما يسألون كيف سيتصرفون أو يديرون الأمور لو كانوا مكان [وزيرة العمل والمعاشات] ليز كاندال، يقترحون تفويض عملية وضع السياسات إلى جماعات حقوق ذوي الإعاقة. وهذا، في الواقع، ما يبدو أنه مطروح حالياً.
وقبل القراءة الثانية لمشروع القانون، ستقدم وزيرة العمل والمعاشات تفاصيل جديدة عن تعديلات الحكومة على خطط خفض الرعاية، بخاصة تلك المتعلقة بـ"مدفوعات الاستقلال الشخصي" (PIP) وهذه اللحظة ستشكل نقطة التحول التي لم يعُد فيها رئيس الوزراء يقود حزبه، بل يتبعه.
وسيشارك أحد مساعدي كيندال، الوزير ستيفن تيمز، في "إنتاج مشترك" لنظام جديد لتقييم حاجات ذوي الإعاقة. وهذا ليس أمراً سيئاً في حد ذاته - فالنظام الحالي مجحف وغير إنساني - لكن فكرة أن سياسات حكومة "العمال" باتت خاضعة الآن لحق "فيتو" مزدوج: من جماعات الحقوق ومن نواب الحزب المتمردين، تستحضر بسهولة ذلك الـ"كليشيه" السياسي الشهير: "في الحكم لكن من دون سلطة".
والأسوأ من ذلك، أنه حين يسأل المتمردون عن مصادر التمويل البديلة لتعويض ما لن يدخل الخزانة - وهي مسألة غير هامشية - فإنهم يقدمون واحداً من ثلاثة أجوبة غير مجدية.
أولها هو ببساطة "أماكن أخرى": أية توفيرات محتملة ظلت كامنة داخل القطاع العام، لم تلتفت إليها موجات التقشف المتعاقبة ولا التخفيضات العشوائية التي نفذها وزراء مالية حزب المحافظين.
وثانيها- وهو جواب شبيه- "هذه ليست وظيفتي يا صديقي".
أما ثالثها، وهي محصورة باليسار التقليدي، فهي "ضريبة على الثروة تعادل اثنين في المئة لكل الأصول فوق 10 ملايين جنيه"، من شأنها جمع "مبلغ قد يصل إلى" 24 مليار جنيه. وهذا ما لم يُنتخب "العمال" من أجله.
ومثل نمر فقد الخوف من البشر واعتاد طعم اللحم البشري، خرج حزب العمال البرلماني عن السيطرة.
وبعضهم يتهامس الآن عن "تغيير النظام" في داونينغ ستريت - وكأن قائداً جديداً يمكنه أن يحدث معجزة تنقذ الاقتصاد والمالية العامة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن ناحية السياسة العامة، لا بديل عن ستارمر، ولا عن الفترة الشاقة والمزعجة التي تنتظر حكومة "العمال" بسبب نقص المال.
وقد يرغبون في طرد ستارمر لكن ذلك غير ممكن ولا يمكن لستارمر من جهته أن يطرد 50 أو 100 نائب - فذلك سيجعل حزبه أقلية في الحكومة. ولذلك فالطرفان مرغمان على الاستمرار معاً.
وستزداد هذه الحالات كثيراً وسيستمر ستارمر بالسير وراء حزبه.
لكن ما لا يغتفر لمتمردي "العمال" هو أنهم منحوا المعارضة فرصة - بادينوك تحديداً لكن أيضاً نايجل فاراج.
ويوماً من الأيام، سيدفع نواب "العمال" هؤلاء الثمن وسينتهي مسارهم السياسي باكراً جداً. لكن الثمن الأسوأ بصراحة سيتكبده المعتمدون على مدفوعات الاستقلالية الشخصية إن تولى اليمين المتطرف السلطة في المرة المقبلة.
© The Independent