ملخص
قسمت الدولة العثمانية السكان في العراق إلى "تبعية عثمانية" و"تبعية إيرانية"، لأسباب تتعلق بالسيادة والضرائب والولاء السياسي. ولسوء حظ الفيليين، ونتيجة وجودهم التاريخي في مناطق التماس الحدودي، صُنف كثير منهم تبعاً للسلطات الإيرانية على رغم ولادتهم داخل العراق.
لم يكن ابن عم جعفر صادق بلغ الـ18 بعد حين اتهم بالانتماء إلى تنظيمات "حزب الدعوة"، وهو الحزب الذي كان معارضاً لحكم صدام وقتها. اتهام جرَّد سبعة من أبناء العائلة من حياتهم. أعدم بعضهم رمياً بالرصاص، وقضى آخرون تحت التعذيب داخل الزنازين بالمثقب الكهربائي، ومن نجا من الموت غيب حتى هذه اللحظة. وبقيت آثار تلك التهمة تتنقل في العائلة كوصمة لا تُنسى.
"كلهم أعدموا أو اختفوا، أحدهم كان يسارياً شيوعياً ولا يعي ما يعنيه الولاء لإيران"، يقول جعفر صادق محمد (25 سنة)، وهو كردي فيلي، ولد داخل بغداد وشهد عن قرب كيف يمكن لتهمة سياسية في زمن "البعث" أن تنسف جيل عائلته بأكملها.
جرى تهجير جميع أفراد عائلة جعفر صادق وأقاربه إلى إيران، بعضهم قبل كلاجئ وبعض آخر رفض ونفي حتى من هناك، فاضطر للهرب بطرق غير شرعية إلى أوروبا. عائلات تشتت وجنسيات أسقطت وبيوت صودرت من دون أن يعرفوا حتى اليوم كيف حدث كل ذلك.
يضيف "بقينا في بغداد بمعجزة فقط لأننا كنا ثاني منزل يبنى في حي المشتل شرق بغداد عام 1956، لكن ذلك لم يمنعهم من حجز منزل ثان كان يملكه جدي، فقط لأنه كردي فيلي".
جد جعفر صادق محمد مطلع السبعينيات
خلال السابع من مايو (أيار) عام 1980، أصدر النظام العراقي السابق المرسوم رقم 666 القاضي بسحب الجنسية العراقية من الكرد الفيلية بحجة ما سميت "التبعية الإيرانية أو الأصول الإيرانية". القرار الذي ظاهرياً شكلته الحكومة كفقرة قانونية، تبين أنه أداة منظمة لإسقاط مكون كامل من خريطة المواطنة. المكون الذي استقر داخل محافظات العراق وكردستان منذ قرون، وأسهم في تشكيل الحياة الاقتصادية والثقافية لمدن مثل بغداد وخانقين وواسط، قاوم إحدى أكبر الإبادات في تاريخه.
اتخذ القرار في ذروة التوتر السياسي بين العراق وإيران، فاستخدمت الهويات كأوراق نزاع، ودفعت العائلات الفيلية ثمناً لانتماء أوجدته الحكومة السابقة في عقلها المطبع مع التهديد فحسب. ووفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR فقد جرد أكثر من 300 ألف شخص من جنسيتهم، ورحلوا قسراً إلى إيران من دون محاكمة ومن دون خيار سوى التهجير أو الاختفاء. وتشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 15 ألف فيلي اختفوا خلال تلك الفترة، ما بين معتقلات مغلقة وحدود خطرة ومرعبة ولا تعرف عنهم عائلاتهم شيئاً حتى يومنا هذا.
وعلى رغم أن جد جعفر صادق كان يحمل الجنسية العراقية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ووالده وعمومه ولدوا كأفراد عراقيين، فإنهم عوملوا كمواطنين من الدرجة الثانية، فقط لأنهم ولدوا خلال حكم "البعث". الجدة ظلت بلا جنسية حتى وفاتها تقريباً، كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب، وولدت في مدينة الكوت. ولم تمنح جنسيتها على رغم إقامتها الطويلة، حتى حين انتقلت إلى بغداد وفروا لها إقامة فقط كانت تجدد حتى عام 2008 وكأنها غريبة في بلد ولدت فيه مع أبنائها وأحفادها.
وفي حديث إلى "اندبندنت عربية" يقول جعفر "لم تكن هناك تهمة واضحة ضد والدي، ولكننا بقينا بلا أوراق 10 أعوام. كان علينا انتظار وساطة ودفع مبالغ طائلة لاستعادة الوجود على الورق، فنحن عراقيون حسب الأوراق لكنهم جعلونا نشك حتى في ذلك".
بداية التطهير العرقي
على امتداد الشريط الحدودي الفاصل بين العراق وإيران، نشأ الكرد الفيليون كجماعة عرقية تعود جذورها إلى قرون من الاستقرار في هذه المناطق المتداخلة. ويتحدث الفيليون لهجة خاصة تعرف بـ"الكردية الفيلية"، وهي فرع من الكردية الجنوبية ذات الصلة باللوري والإلامي. حملوا على رغم إدراجهم باعتراف الدستور العراقي رسمياً ضمن مكون الكرد، تنوعاً مهماً لكنه لم يحصنهم من التهميش، وبخاصة حين استخدمت القوانين العثمانية المبكرة كأساس لترسيخ تصنيفات قانونية لاحقة، إذ قسمت الدولة العثمانية السكان في العراق إلى "تبعية عثمانية" و"تبعية إيرانية"، لأسباب تتعلق بالسيادة والضرائب والولاء السياسي. ولسوء حظ الفيليين، ونتيجة وجودهم التاريخي في مناطق التماس الحدودي، صنف كثير منهم تبعاً للسلطات الإيرانية على رغم ولادتهم داخل العراق.
القرار رقم 666 الصادر خلال الرابع من يوليو (تموز) 1980 صار إعلاناً رسمياً عن نزع الجنسية العراقية من نحو 250 إلى 300 ألف فرد من الكرد الفيليين، تحت ذريعة أصولهم الإيرانية ودعمهم لإيران وانعدام "الولاء" للدولة وأهدافها القومية والاجتماعية، كما حددها حزب "البعث". قرار رافقه استيلاء على الممتلكات والترحيل القسري إلى إيران والاختفاء الممنهج لأكثر من 22 ألف شاب، غيبوا وهم في الخدمة العسكرية، ولم يعرف مصيرهم حتى اليوم.
ولم يكن ذلك القرار سوى نتيجة لقرار سبقه بأشهر حمل رقم 10 وصدر خلال الثالث من فبراير (شباط) 1980، والذي روَّج لفتح باب "منح الجنسية" للكرد الفيليين في ما بدا لاحقاً أنه فخ محكم، إذ سجلت أسماء المتقدمين لتكون هذه الخطوة مدخلاً لاعتقالهم ثم مصادرة ممتلكاتهم، وأخيراً ترحيلهم بموجب القرار 666 نفسه.
المسار لم يتوقف عند هذا الحد، استكمل بقرار ثالث يحمل الرقم 474 الصادر خلال الـ15 من أبريل (نيسان) 1981، يجبر العراقي المتزوج من امرأة ذات "أصول غير عربية" على تطليقها قسراً، تحت طائلة الطرد من الوظيفة إن كان موظفاً، أو الفصل من السلك العسكري. الزوجات الفيليات وجدن أنفسهن محرومات من أزواجهن بأمر رسمي، أما الأزواج فكان عليهم أن يثبتوا الطلاق أو التسفير ليحصلوا على مكافأة مالية، وهي عبارة عن 4 آلاف دينار للعسكري، و2500 للمدني مما يعادل حينها بين 6 إلى 12 ألف دولار. وكانت هذه المكافأة مشروطة بعقد زواج جديد من "عراقية". سبقت كل هذا، أعوام من التضييق الإداري والاجتماعي، بدأت منذ أوائل السبعينيات، حين منع الفيليون -الذين أطلق عليهم لقب "التبعية"- من التوظيف، وسحبت جوازاتهم وتعرقل تعليمهم.
أسلحة وزحف نحو المجهول
الباحث والناشط في شأن التنوع عامر ولي يقول في تصريح خاص إن من بين أبشع الأساليب التي مارستها سلطة "البعث" ضد الكرد الفيليين، وتحديداً الشباب الذين اعتقلوا بين عامي 1979 و1980، كان استخدامهم في تجارب الأسلحة الكيماوية. فبينما كان النظام يعمل على تطوير أسلحته، جرى إخضاع مئات المعتقلين الفيليين لتجارب كيماوية مميتة، قضى فيها العشرات تحت وطأة السموم المختبرية.
أما عمليات الترحيل، فقد كانت مفاجئة وفوضوية وغير قابلة للنقاش. العائلات أعطيت مهلة لا تتجاوز بضع ساعات وأحياناً أقل، لتحزم ما يمكن حمله من ثياب وأطعمة قبل أن تصعد إلى شاحنات مجهولة الوجهة.
يستعيد ولي تجربة شخصية من طفولته:
"كنت طفلاً لم أتجاوز السابعة من عمري، ألعب في بيت زميلي في المدرسة اسمه جابر، حين وقفت شاحنة عسكرية أمام دارهم نزل منها رجال، وطلبوا من أهله الصعود إليها مع ما يمكنهم حمله. كدت أرحل معهم، فقط لأني كنت في بيتهم. ولولا تدخل جار تنبه لوجودي وأقنع رجال الأمن بأنني لست من العائلة، لاختُطفت مع جابر وعائلته. وشاهدت بأم عيني كيف صعدوا جميعاً إلى الشاحنة، وتحركت بهم حتى غابت عن الأنظار، ولم يعرف عنهم شيء حتى اليوم".
ويضيف ولي "ما السبب بتهجير أكثر من 300 ألف مواطن من مجموعة واحدة؟ هل يمكن أن نسمي ذلك تطهيراً عرقياً؟ فقد كانوا جالسين في بيوتهم بلا تمرد ولا انقلاب، لا جرم ارتكبوه سوى أنهم أكراد، وينتمون إلى مجموعة دينية وثقافية مختلفة عن السلطة الحاكمة آنذاك".
التقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) عام 1997، قدر عدد الكرد الفيليين الذين هجروا خلال عقود متفرقة بنحو 597 ألف شخص، غير أن عدد العائدين منهم إلى العراق لا يزال غير موثق بدقة.
لم يمنح الكرد الفيليون حتى حق اختيار مصيرهم. ويوضح الباحث عامر أنهم لم يملكوا خياراً سوى التوجه نحو المجهول، فقد اقتيدوا قسراً نحو الحدود العراقية–الإيرانية لكونها الأقرب جغرافياً، وأجبر المهجرون على السير على الأقدام وسط حقول ألغام مزروعة على طول الحدود. ومن رفض أو عجز عن السير، كان مصيره الموت رمياً بالرصاص. انفجرت الألغام تحت أقدام الهاربين، وسقط كثر قبل أن يصلوا حتى إلى حيث يراد نفيهم.
"قبل وصولهم، كانت الإهانة بدأت بالفعل. ونقلوا في شاحنات مكشوفة من دون طعام أو ماء، تركوا في العراء وتحت الشمس، بعدما سلبت أموالهم وجردت نساؤهم من المجوهرات وصودرت منازلهم وأرزاقهم، بل إن أملاكهم تلك بيعت لاحقاً"، يقول عامر ولي. ويضيف أن الأجهزة الأمنية الإيرانية عاملت المهجرين بقسوة ونظرت إليهم كدخلاء، فاقتيدوا إلى معسكرات لجوء حيث عاشوا أعواماً بذل وحرمان، ومنعوا من العمل أو الدراسة أو الحصول على وثائق السفر. وحرموا من تسجيل حالات الولادة والوفاة والزواج. وبعض الكرد الفيليين عندما حاولوا العودة إلى العراق، وضعت السلطات الإيرانية على جوازاتهم ختماً يقول "خروج من دون عودة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
محاولات بلا منفعة
خلال عام 2006، ألغي المرسوم 666 رسمياً مع صدور قانون الجنسية الجديد، الذي نصَّ على إعادة الجنسية لكل من سحبت منه تعسفاً في عهد النظام السابق. ووفقاً لبيانات وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، فقد استعادت منذ عام 2003 نحو 20 ألف عائلة (أي ما يقارب 100 ألف شخص) جنسيتهم العراقية. وكان التحدي الأكبر يكمن في مساعدة من لا يملكون الوثائق اللازمة لإثبات انتمائهم للعراق.
من أجل استعادة الجنسية، يطلب من الكرد الفيليين إثبات تسجيلهم في التعداد السكاني لعام 1957. غير أن كثراً لا يستطيعون توفير هذا الإثبات بسبب تدمير أو فقدان السجلات المدنية خلال فترات الحرب، أو لكونهم لم يدرجوا في التعداد أساساً.
ولا توجد إحصائية حول عدد الذين لم يتمكنوا حتى اليوم من استعادة جنسياتهم، لكن دراسة نشرت خلال سبتمبر (أيلول) 2022 من قبل UNHCR وصندوق Stateless Journeys، وجدت أن العراق يضم 47 ألفاً و515 شخصاً بلا جنسية، بينهم مجموعات عدة، أبرزها الفيليين.
يتوزع الفيليون اليوم بصورة أساس داخل العاصمة بغداد، وفي المحافظات الجنوبية الشرقية، ديالى وواسط وميسان والبصرة، وتوجد تجمعات داخل مدينة السليمانية ضمن إقليم كردستان. وعلى رغم هذا الامتداد الجغرافي، لا تزال أرقامهم غير دقيقة، فإن التقديرات تشير إلى أنهم يتراوحون بين 1.5 إلى 2.5 مليون نسمة من بين سكان العراق البالغ عددهم أكثر من 45 مليون نسمة. وينتمي أكثر الفيلية إلى الطائفة الشيعية الإمامية (الجعفرية)، وهو ما ميزهم دينياً عن غالبية أبناء القومية الكردية الآخرين، الذين يدين معظمهم بالمذهب السني. ومع هذا، تضم الفيلية أيضاً من السنة ولكن بأعداد أقل.
هل يكفي الاعتراف بالإبادة الجماعية؟
يقول جعفر صادق إن والده خدم داخل الجيش العراقي لأعوام "ومع هذا، لم يشفع له ولاؤه ولا خدمته واعتقل بسبب لقبه فحسب، وقضى ستة أشهر داخل أحد سجون البصرة. وبعد ذلك، تمكن من الفرار واختبأ لسبعة أعوام هارباً من الجيش ومن السجن معاً، فقط لأنه فيلي".
ويتابع حديثه "أما عمي، فكان بطلاً للعراق في كمال الأجسام، وحاز المركز الثاني في بطولة آسيا. وعلى رغم ذلك رُفض في اختبار القوة البدنية داخل كلية التربية الرياضية بجامعة بغداد. قالوا له بالحرف ’إذا قبلناك، عدي يعدمك ويعدمنا‘، وكان الرفض لأنه فيلي". وبعد صدمة الإقصاء غادر العم إلى الإمارات عام 1999، واستقر هناك حتى اليوم.
"الذين صدر بحقهم حكم بالإعدام من أقاربنا جميعهم أُعدموا باستثناء واحد فحسب، وهو ابن عمة والدي. وهذا الأخير نجا من الموت لكنه لم ينج من التعذيب، حقن بإبر تمنع الإنجاب وعُذب جسدياً ونفسياً، ثم أفرج عنه لاحقاً فقط لأن والده كان كردياً مندلاوياً بينما والدته فيلية"، يكمل جعفر.
خلال عام 2010، أصدرت المحكمة الجنائية العليا العراقية حكماً يعترف بأن ما تعرض له الكرد الفيليون من تهجير قسري واختفاء ومصادرة للحقوق، يشكل جريمة إبادة جماعية. وبعد عام، صوت مجلس النواب العراقي لمصلحة قرار يعد عمليات التهجير القسري والاختفاء التي طاولت الكرد الفيليين إبادة جماعية رسمياً.
وعلى رغم سقوط النظام البعثي لم يتمكن الكرد الفيليون من استعادة حقوقهم بالكامل، فكثير ممن عادوا إلى العراق بعد أعوام في المنفى، اصطدموا بكثير من المعوقات القانونية والإدارية التي حالت دون استردادهم الجنسية أو ممتلكاتهم. وواحدة من المفارقات التي رسخت الظلم تجاه عائلة جعفر صادق محمد تمثلت في أن التعويض اقتصر، في كثير من الأحيان، على من انخرطوا في الأحزاب الحاكمة أو نالوا دعماً سياسياً، فيما ترك المتضررون الحقيقيون خارج الحسابات، فقط لأنهم لم يكونوا جزءاً من الخريطة الحزبية الجديدة.
ومن بين هؤلاء والده الذي وعلى رغم تقديمه طلب تعويض عام 2011 لم يقابل إلا بعد ثمانية أعوام عام 2019، ليفاجأ بأن اللجنة الرسمية دونت في ملفه أنه "مستفيد من النظام السابق"، وحينها حاول والد جعفر صادق أن يحظى بأي تعويض ولكن دون جدوى.