ملخص
العقوبات الأميركية أشبه بأداة إدارة أزمة لا بتسوية نزاع، ولا سيما أنها لا تقترن بإرادة فعلية لإعادة صياغة المشهد السوداني أو التأثير العميق في ديناميات الحرب، شرائح واسعة من السودانيين المنهكين تحت وطأة الحرب، لا ترى في العقوبات سوى امتداداً لمنظومة دولية تتعامل مع مأساة السودان بانتقائية مفرطة، بينما ينظر آخرون إلى العقوبات باعتبارها آخر سهم في كنانة واشنطن.
عاد السودان، الذي طالما وضع في أدبيات الأمن القومي الأميركي ضمن خانة الأزمات غير العاجلة، هذه المرة من بوابة العقوبات الأميركية، ويعيد فرض نفسه ولو على استحياء في فهرس انشغالات واشنطن التي تتآكل أولوياتها بين الجبهات الكبرى في أوكرانيا وغزة، والحرب بين إيران وإسرائيل.
ويمكن النظر إلى العقوبات التي أكدت وزارة الخارجية الأميركية بدء سريانها على السودان بعد توجيهها اتهامات للجيش السوداني باستخدام الأسلحة الكيماوية في حربها مع قوات الدعم السريع، بوصفها لا تعكس تحولاً جذرياً في مقاربة واشنطن للسودان بقدر ما تجسد محاولة لترميم صورة مهتزة تحت وطأة التقاعس الدولي عن عدم مد السودان بالمساعدات ناهيك عن وضع حد للحرب، فمنذ اندلاع الحرب السودانية في الـ 15 من أبريل (نيسان) 2023، بدت أدوات السياسة الأميركية أقرب إلى ردود فعل متقطعة، فالعقوبات التي صدرت في خمس جولات متفرقة لم تنجح في إنتاج أي أثر يذكر على سلوك طرفي النزاع.
ومع أن إخطار الكونغرس بانتهاك اتفاق حظر الأسلحة الكيمياوية يمنح واشنطن غطاء قانونياً وأخلاقياً لتبرير خطوتها، لكن جوهر الأزمة يبقى خارج نطاق المعالجة، فالسودان لا يمثل تهديداً مباشراً لواشنطن لكنه يظل عقدة جيو-إستراتيجية في شبكة ممتدة من الفوضى الإقليمية، من القرن الأفريقي إلى منطقة البحيرات العظمى، وامتداداً إلى الساحل الأفريقي حيث تتقاطع الجريمة المنظمة مع الإرهاب وتهريب البشر وتدفقات الهجرة غير النظامية.
وعليه تصبح العقوبات أشبه بأداة إدارة أزمة لا بتسوية نزاع، ولا سيما أنها لا تقترن بإرادة فعلية لإعادة صياغة المشهد السوداني أو التأثير العميق في ديناميات الحرب، فبينما التزمت قيادة الجيش السوداني الصمت حيال الاتهامات مفضلة الرهان على امتصاص الصدمة واعتبارها جزءاً من الصراع الدولي، جاء الموقف الشعبي أكثر انقساماً، فشرائح واسعة من السودانيين المنهكين تحت وطأة الحرب، لا ترى في العقوبات إلا امتداداً لمنظومة دولية تتعامل مع مأساة السودان بانتقائية مفرطة، بينما ينظر آخرون إليها باعتبارها آخر سهم في كنانة واشنطن.
تسلسل العقوبات
ومنذ فرض أول حزمة عقوبات في نوفمبر (تشرين الثاني) 1997، اتخذت السياسة الأميركية تجاه السودان طابعاً متدرجاً يمزج بين البعد الأخلاقي المرتبط بحقوق الإنسان وبين البراغماتية الأمنية المرتبطة بضبط الفوضى في مناطق النفوذ الرمادية، وقد مثل القرار الأميركي بحجب ممتلكات الأشخاص المرتبطين بنزاع دارفور عام 2006 نقطة تحول نوعية، إذ انتقلت واشنطن من استهداف كيانات بعينها إلى فرض حظر اقتصادي شامل على الحكومة السودانية، مع استثناءات محسوبة للمناطق التي رسمت في المخيلة الدولية باعتبارها ضحية للتهميش السياسي والاقتصادي والإثني، وكان لافتاً أن تبقى صناعات النفط والبتروكيماويات خطاً أحمر في منظومة الاستثناءات، بما يعكس إدراكاً أميركياً عميقاً بأن الموارد الطبيعية تظل محور الصراع وجذره البنيوي.
وجاء دخول مجلس الأمن الدولي عام 2004 بفرض حظر الأسلحة على الكيانات غير الحكومية في دارفور ليشكل امتداداً لمنطق ضبط النزاعات من دون الدخول المباشر في إعادة صياغة البنى السياسية للدول الفاشلة، ومع تعثر "اتفاق نجامينا" و"بروتوكولات أبوجا"، اتسع نطاق الحظر ليشمل الحكومة السودانية نفسها، وهو تطور يعكس التحول من نهج احتواء الفاعلين من غير الدول إلى مقاربة أكثر شمولاً تستهدف المنظومة الحاكمة ذاتها.
وكان الاتحاد الأوروبي قد مضى في فرض عقوبات منذ عام 1994، مما يؤكد أن السودان ظل منذ ذلك الوقت نموذجاً كلاسيكياً للدولة التي تقع في المنطقة الرمادية بين الشرعية والسيادة من جهة والمساءلة الدولية من جهة أخرى، ومع ذلك جاء رفع العقوبات التدريجي بين 2017 و2021 وخروج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب كمؤشرين على محاولات إعادة دمجه في النظام الدولي، لكن سرعان ما انقلب هذا المسار مع إصدار الرئيس جو بايدن في مايو (أيار) 2023 أمراً تنفيذياً يعيد تفعيل منطق العقوبات ولكن في إطار أكثر تعقيداً، يستهدف الأفراد والكيانات التي تهدد السلام والاستقرار وتقوض المسار الانتقالي، في مشهد يعيد إنتاج المعضلة ذاتها.
تعميق العزلة
وبموجب هذه العقوبات تُفرض قيود صارمة على صادرات السلع والتكنولوجيا الأميركية إلى السودان، بما في ذلك أي مواد أو تقنيات يمكن أن تستخدم لأغراض عسكرية أو أمنية، أو تسهم في تعزيز القدرات اللوجستية للجيش السوداني، كما تحظر بصورة كاملة قدرة السودان على الحصول على قروض أو ضمانات ائتمانية من الحكومة الأميركية، بصورة مباشرة أو عبر المؤسسات المالية التي تشرف عليها واشنطن، مثل "بنك التصدير والاستيراد الأميركي"، ويتجلى الأثر الأبرز لهذه العقوبات في خنق قدرات الجيش السوداني على مواصلة الحصول على التقنيات ذات الاستخدام المزدوج، المدني والعسكري، مثل أنظمة الاتصالات وتقنيات الطائرات المسيرة وقطع الغيار للمعدات الثقيلة، وهي أدوات حيوية في سياق حرب المدن المفتوحة، لكن النظام السابق استطاع أن يلتف على العقوبات ويُنشئ مصانع أسلحة ومعدات عسكرية بمساعدة إيران والصين، كما تمتد التداعيات إلى القطاع المالي، إذ تصبح التعاملات مع البنوك السودانية أكثر تعقيداً وتزداد كلفة التعامل مع النظام المالي السوداني للمؤسسات الدولية خوفاً من التبعات الثانوية للعقوبات الأميركية.
وعلاوة على ذلك ترسل هذه العقوبات إشارة سياسية واضحة إلى حلفاء واشنطن الأوروبيين الذين قد يجدون أنفسهم مضطرين إلى إعادة النظر في مواقفهم، سواء باتجاه تشديد الإجراءات ضد أطراف النزاع في السودان، أو في الأقل في ضبط علاقاتهم التجارية والمالية مع الخرطوم لتجنب التعارض مع السياسات الأميركية.
وعلى رغم أن هذه الإجراءات لا تشمل صراحة حظراً على المساعدات الإنسانية أو على التجارة غير ذات الصلة بالمجال العسكري، لكن الأثر غير المباشر قد يكون مدمراً، فغالباً ما تؤدي العقوبات الواسعة إلى انكماش اقتصادي حاد مع تفاقم أزمة النقد الأجنبي وتعطيل سلاسل الإمداد، مما ينعكس في نهاية المطاف على قدرة السكان المدنيين في الحصول على الحاجات الأساس.
وتعكس هذه العقوبات تحولاً نحو سياسة الاحتواء الصارم للجيش السوداني مع الإبقاء على نافذة ضيقة مفتوحة للضغط السياسي، لكنها في الوقت ذاته تعمق عزلة السودان الدولية وتزيد تعقيدات مسار التسوية السياسية في ظل حرب أهلية مفتوحة الأطراف.
المستفيد الأول
وإن كانت الذاكرة السودانية تحتفظ بسجل طويل من الصراعات والحروب فإن توثيق استخدام الأسلحة الكيماوية يفتح فصلاً بالغ الخطورة، لا على السودان وحده بل على النظام الدولي بأسره، فالولايات المتحدة، عبر تقارير رسمية صادرة عن وزارة خارجيتها، أكدت امتلاكها أدلة قاطعة تثبت أن الحكومة السودانية استخدمت أسلحة كيماوية وبيولوجية ضد المدنيين في انتهاك لمبادئ القانون الدولي واتفاق حظر الأسلحة الكيماوية التي تعد أحد أعمدة النظام القانوني الدولي، وعلى رغم أن هذه ليست المرة الأولى التي تثار فيها الاتهامات باستخدام أسلحة محرمة دولياً، لكن ما يطالب به السودانيون اليوم يتجاوز الإدانة الأخلاقية إلى مطلب أكثر جوهري، وهو كشف الحقيقة وتحقيق العدالة والمحاسبة.
غير أن المسألة لا تنتهي عند حدود الداخل السوداني، إذ إن أي برنامج لتطوير الأسلحة الكيماوية لا يمكن أن ينشأ أو يستمر في سياق دولي معقد من دون شبكات إسناد ودعم تقني وتهريب للمكونات والمواد المحظورة، وهنا ربما تتسع دائرة الاتهام لتشمل أطرافاً خارجية، دولاً أو شركات أو أفراداً، كان لهم دور مباشر أو غير مباشر في بناء هذا البرنامج أو استمراره، سواء عبر تزويد النظام السوداني بالمواد الأولية أو من خلال نقل المعرفة الفنية والتقنية.
وخطورة هذا الملف لا تكمن فقط في البعد الإنساني الكارثي لاستخدام الأسلحة الكيماوية بل في كونه يكشف عن تصدعات عميقة، وهي غض الطرف عن الحرب في السودان والانتظار إلى حين استخدام هذا النوع من الأسلحة، وهنا لا يمكن عزل أصابع الاتهام عن دائرة أوسع تتجاوز حدود المؤسسة العسكرية الحالية، إذ تتجه الأنظار نحو المستفيد الأول والمستثمر الأكبر في اقتصاد الحرب وشبكات السلاح والعلاقات العابرة للحدود، الجهة التي يمكن أن تعيد ترتيب صفوفها وبمقدورها نسج حلقات وصل مركزية بين الجيش وبعض الجهات الخارجية التي يعتقد أنها وفرت المعرفة التقنية أو سهلت تدفق المواد المحظورة، وبهذا تصبح الحرب السودانية ليست مجرد صراع على السلطة بين الجيش و"الدعم السريع" بل انعكاساً لدورة أوسع من الفوضى السياسية، حين تتداخل حسابات السلطة مع توازنات متشابكة بمصالح شبكات الإسلام السياسي، وتقاطعات تجارة السلاح والموارد والفوضى العابرة للحدود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حسابات دقيقة
ويبدو أن القوى الدولية تتعامل مع الأزمة السودانية بمنطق حسابات دقيقة تتجنب الانزلاق إلى مواجهات مفتوحة أو استثمارات محفوفة بالأخطار في بيئة شديدة الهشاشة، وفي هذا السياق يتراجع احتمال دخول الصين وروسيا وإيران بصورة مباشرة أو بزخم كبير كما حدث خلال مراحل سابقة من تاريخ السودان، فالصين التي لعبت دوراً محورياً خلال تسعينيات القرن الماضي في استخراج النفط السوداني، باتت أقل اندفاعاً نحو الدخول العميق في السودان اليوم، وذلك لأسباب موضوعية عدة، أبرزها أن النفط السوداني لم يعد بالأهمية الاستراتيجية نفسها للصين كما كان سابقاً، في ظل تنويع مصادر الطاقة وتراجع الاعتماد على أفريقيا كمصدر رئيس، يضاف إلى ذلك النزاع بين السودان وجنوب السودان حول منطقة أبيي والخلاف المستمر حول رسوم العبور، مما يجعل الاستثمار في هذا القطاع محفوفاً بالأخطار، وكذلك فإن بيئة الحرب الداخلية وانهيار مؤسسات الدولة تتعارضان مع النموذج الصيني الذي يقوم على الاستثمار في الدول المستقرة ذات البنية المؤسسية القادرة على حماية الاستثمارات طويلة الأجل، ولذلك يرجح أن تكتفي بكين بمراقبة المشهد مع الحفاظ على مصالحها التجارية من دون انضمام سياسي أو أمني عميق.
أما روسيا فترى في السودان ساحة محتملة لتوسيع نفوذها لكنها في الوقت نفسه تدرك حدود قدرتها على التورط المكشوف في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا، ولذلك يميل الدور الروسي إلى التموضع في مساحات النفوذ الرمادي عبر شركات أمنية خاصة واتفاقات تعدين وشبكات دعم لوجستية، مع تجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة أو القوى الغربية، كما تبرز فرصة أمام موسكو للعب دور الوسيط بين طرفي النزاع السوداني، مما يمنحها نفوذاً سياسياً واقتصادياً من دون تحمل كلفة الدخول العسكري المباشر أو التورط في صراع مفتوح.
أما إيران، وعلى رغم تقارير متفرقة عن اهتمامها باستعادة نفوذها في السودان، فإن انشغالها العميق بالحرب مع إسرائيل والتوتر الإقليمي غير المسبوق يجعلان أي تحرك إيراني في السودان مؤجلاً أو محدوداً للغاية خلال الوقت الراهن، فأولويات طهران باتت منصبة بالكامل على الجبهة الإسرائيلية وعلى إدارة التوازنات في الخليج العربي ولبنان والعراق وسوريا.