Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الهوية الوطنية: تحول في خطاب النظام الإيراني

من "الأمة الإسلامية" إلى "الأمة الإيرانية"... هل تغيرت المفاهيم القومية لدى خامنئي؟

رجل يحمل صور خامنئي والخميني خلال جنازة القادة العسكريين والعلماء الذين قُتلوا خلال الغارات الإسرائيلية، 28 يونيو 2025 (أ ف ب)

ملخص

مرشد النظام علي خامنئي انتقد مراراً الحديث عن المفاهيم الوطنية فيما لجأ إليها بعد الهجوم الإسرائيلي... فهل هذا التحول ناتج من مراجعة داخلية حقيقية؟ أم أنه مجرد محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الشرعية التي تتهاوى؟

كان النظام الإيراني على مدى أكثر من أربعة عقود لا يرغب في الحديث عن الهوية الوطنية للإيرانيين، وأطلق مشروعاً ممنهجاً حول مفهوم "أمة إسلامية" وتصدير الثورة الإيرانية إلى العالم، لكنه الآن، وبعد سلسلة من الأزمات، خصوصاً بعد الهجوم الإسرائيلي، أجرى تحولاً واضحاً في توجهاته ويبدو للمعارضين مخادعاً من خلال طرح مفاهيم تتعلق بالقومية.

من معالم هذا التوجه ما ورد في الخطاب الثالث لمرشد النظام علي خامنئي بعد الهجوم الإسرائيلي، وكذلك السماح بأداء النشيد الوطني السابق خلال مراسم دينية رسمية، واستخدام رموز من الأساطير الإيرانية مثل "آرش كمانكیر" و"شابور الساساني" لترسيخ الشعور بالوطنية في البلاد.

لكن هل هذا التحول في الخطاب ناتج من مراجعة داخلية حقيقية؟ أم أنه مجرد محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الشرعية التي تتهاوى؟ يتناول هذا التقرير جذور هذا التحول، وتبعاته، وخشية النظام من تشكيل هوة بينه والشعب.

موقف مؤسس النظام من القومية

من أبرز الركائز التي بني عليها النظام الإيراني منذ الأشهر الأولى للثورة، كان رفض المظاهر القومية والتقليل من شأنها. وبدأ هذا الخطاب مع تأسيس النظام بواسطة الخميني واستمر حتى بعد وفاته لأعوام طويلة.

وكان الخميني يعتبر أن القومية لا تتعارض مع الإسلام وحسب، بل كان يصفها بأنها "آفة تهدد وحدة الأمة الإسلامية". فـ"الشعب" في نظره مفهوم علماني مستورد من الغرب يتناقض مع مفهوم "الأمة الإسلامية" باعتبارها كياناً عابراً للحدود وموحداً عالمياً.

وضمن خطاب مؤسس النظام، لم تكُن للحدود الجغرافية أهمية كبيرة، وكان يعتبر أن ثورة عام 1979 لم تكُن تخص إيران وحدها، بل كانت "شرارة لليقظة" في العالم الإسلامي بأسره. لذا، كان بناء "الأمة الإسلامية" وتعزيز الروابط بين المسلمين في مختلف الدول هدفاً أساساً بالنسبة إلى النظام الجديد.

في المقابل، كانت مفاهيم مثل "الشعب الإيراني" و"المصلحة الوطنية" أو "الهوية القومية" مهمشة في الخطاب الرسمي أو يُنظر إليها بريبة، حتى المؤسسات الإعلامية والثقافية الرسمية حاولت تهميش رموز وطنية مثل أعياد النوروز والشاهنامه وكوروش الكبير، أو علم إيران ذي الألوان الثلاثة، كما حاولت أسلمة بعض المفاهيم الوطنية.

وهذا الموقف لم يكُن فقط أيديولوجياً، بل كان وسيلة لتبرير السياسات الإقليمية للنظام لاحقاً، مثل دعم الجماعات الشيعية العابرة للحدود وتصدير الثورة والتدخل في شؤون دول المنطقة، تحت مظلة خطاب "الأمة الإسلامية". وبذلك، زرع الخميني من خلال رفض القومية بذور خطاب أبعد النظام من الالتزامات الوطنية وجعله في خدمة رؤى مثالية عابرة للحدود.

خامنئي وحلم مشروع الأمة

بعد وفاة الخميني، تولى علي خامنئي قيادة النظام، وعلى مدى أكثر من 30 عاماً من الحكم المطلق وبالاعتماد على مبدأ "ولاية الفقيه المطلقة" وأدوات أمنية وعسكرية وإعلامية، واصل خامنئي مشروع بناء الأمة الذي بدأه الخميني.

نظم خامنئي الهيكل السياسي للنظام الإيراني بحيث تخضع كل المؤسسات من السلطات الثلاث إلى القوات المسلحة والهيئات الثقافية لسلطته المباشرة، فالدستور في المادة 110 منحه صلاحيات واسعة، لكنه في الواقع قدم نفسه كسلطة فوق القانون وممثلاً لحكم الله على الأرض، فتصبح طاعته معادلة لطاعة الله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستناداً إلى هذه الصلاحيات التي تتعدى حدود القانون وتضفي صفة التقديس الديني على موقع الولي الفقيه، وسع خامنئي مشروع الأمة الإسلامية وتصدير الثورة، فأسس عملياً ما يعرف بـ"محور المقاومة الشيعي" الممتد من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن وأفغانستان، وتولى "فيلق القدس" بقيادة قاسم سليماني آنذاك تنفيذ هذا التوسع.

وفي الوقت ذاته واصل مهاجمة المفاهيم القومية في البلاد، ولم يكتفِ بتهميش الهوية الإيرانية، بل أفسح المجال لتدمير الرموز القومية أيضاً.

واعتمد خامنئي على جهاز دعاية ضخم شمل الإعلام الرسمي والحوزات الدينية، والقنوات الفضائية الخارجية لترسيخ نموذج خاص من "الإسلام السياسي الاستبدادي". وفي هذا الطريق، جرت التضحية بالمصلحة الوطنية مرات عدة لمصلحة ما سمي "مصلحة الأمة الإسلامية" من إنفاق مليارات الدولارات في سوريا، إلى الدعم المالي والعسكري لـ"حماس" و"حزب الله"، وفرض عقوبات مدمرة بسبب الإصرار على المشاريع النووية والصاروخية.

وعلى رغم الأزمات الاقتصادية والسخط الشعبي الواسع، لم يتراجع خامنئي عن سياساته العابرة للحدود.

خطابان لرؤيتين عالميتين

يعد بناء الأمة والقومية خطابين متجذرين ومتنافسين في التاريخ السياسي المعاصر للعالم الإسلامي، بخاصة إيران. ويستند "بناء الأمة" إلى الرؤية الإسلامية للعالم ويؤكد أن المسلمين، بغض النظر عن الحدود الجغرافية، أو العرق أو اللغة، أعضاء في كيان عالمي واحد يسمى "أمة الإسلام".

وفي هذا الخطاب، يحل الولاء الديني محل الولاء الوطني، وتعتبر الحدود والأعلام والهويات الوطنية غير ذات أهمية أو أنها تشكل عائقاً أمام الوحدة الإسلامية. وتستمد الدول التي تعمل في إطار بناء الأمة شرعيتها لا من الأمة، بل من الشريعة والوصاية الدينية، وتعتبر نفسها ملتزمة مصالح العالم الإسلامي، وليس فقط مصالح بلدها.

في المقابل، تستند "القومية" إلى المفاهيم الحديثة للدولة القومية، وضمن هذا الخطاب تعد الأمة مجموعة من الناس الذين تجمعهم لغة وتاريخ وثقافة وأرض ومصالح مشتركة، والدولة هي ممثلهم السياسي. والولاء للأمة واحترام السيادة الوطنية والدفاع عن المصالح الوطنية وقبول الحدود الرسمية للبلاد تعد مبادئ أساسية للقومية.

وعلى عكس الهوية الدينية، للهوية الوطنية أصل دنيوي، وشرعية الدولة تنبع من إرادة الشعب، لا من تفسير ديني للسلطة. ويكمن الاختلاف الجوهري بين الخطابين أيضاً في نوع الولاء ومصدر الشرعية، فبناء الأمة يدعو إلى تحطيم الحدود باسم الوحدة، بينما تصر القومية على الاهتمام بما هو داخل الحدود والهوية الوطنية.

ويعطي بناء الأمة الأولوية لمصالح المسلمين حول العالم، حتى لو تعارض ذلك مع المصالح الوطنية للبلاد، بينما تعرف القومية السياسة بخدمة الأمة، لا الأمة نفسها. لذلك، كثيراً ما كان هذان الخطابان يشكلان صراعاً محتدماً في النظام الإيراني، أحدهما يسعى إلى توسيع الإسلام السياسي خارج حدوده، والآخر يسعى إلى الحفاظ على إيران كوطن تاريخي وثقافي وسياسي للإيرانيين.

4 عقود من استنزاف المال الوطني

على عكس ما يروج له ظاهرياً تحت عنوان "وحدة العالم الإسلامي"، فإن سياسات النظام الإسلامي لا تهدف إلى توحيد المسلمين، بل إلى توسيع النفوذ الفكري الشيعي بقيادة المرشد الأعلى، سياسات لم تسهم في تضامن الأمة الإسلامية وحسب، بل عمقت أيضاً الانقسامات الطائفية والإقليمية في الشرق الأوسط.

في هذا الصدد، كان مرشد النظام علي خامنئي أهم مهندس ومنفذ لهذا الحلم، فعلى مدى أربعة عقود تقريباً، أنفق ثروة إيران الوطنية على سياسات عابرة للحدود ودعم الميليشيات وتمويل الحروب بالوكالة ومشاريع التسلح والدعاية الأيديولوجية في المنطقة. وتحت قيادته انحرفت إيران عن مسار التنمية الوطنية والرفاهية العامة، وأصبحت دولة ذات اقتصاد منهار، وبدا المجتمع منهكاً من السياسة الخارجية المحفوفة بالأخطار.

وخامنئي الذي انتقد "النوروز" علناً لأنه يعود للزمان الماضي وصف تاريخ إيران وحضارتها ما قبل الإسلام بأن لا قيمة لهما، لكنه أظهر تحولاً ملحوظاً في خطابه بعد الهجوم الإسرائيلي. فخلال رسالته المصورة الثالثة بعد الهجوم الإسرائيلي الخميس الماضي وعلى عكس عادته، أكد على الروح الوطنية للإيرانيين والخلفية الثقافية والحضارية لإيران.

وضمن هذه الرسالة، لم يكتفِ بتجاهل "الأمة الإسلامية" أو "العالم الإسلامي"، بل تضمنت كلماته أيضاً نوعاً من العودة لمفاهيم الهوية المتمركزة حول إيران، وكأنه بعد أعوام من إنكار الهوية الوطنية، اضطر إلى اللجوء لإيران والتمسك بهويته الإيرانية لاستعادة شرعيته التي بدت مفقودة. وفي هذا الصدد، حتى موقعه الإلكتروني المخصص أطلق حملة بعنوان "صوت الأمة الإيرانية".

وهذا التحول ليس نتيجة مراجعة أيديولوجية، بل هو رد فعل تكتيكي لمعالجة الحقائق السياسية والاجتماعية والأمنية، واقع يظهر أن بناء الأمة لم يفشل وحسب، بل فرض ثمناً باهظاً على الإيرانيين.

لذلك، ينبغي النظر إلى إشارة خامنئي إلى الثقافة والحضارة الإيرانية كدليل على مدى حدة الأزمة الداخلية في خطاب النظام الإيراني، أزمة ربما تكون بداية لنهاية حلم الدولة الإسلامية.

نقلاً عن "اندبندنت فارسية"

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير