ملخص
تنتمي رواية "العصامي" إلى سلسلة أعمال للكاتب التشيلي إيرنان ريبيرا لتيلير، خصَّصها لعالم مستوطنات الملح الصخري في صحراء أتاكاما التشيلية، وتحديداً في "بدرو دي بالديبيا"، وفيها يمزج بين سيرته الذاتية والخيال الروائي.
في تقديم ترجمة راوية "العصامي" لإيرنان ريبيرا لتيلير (1950)، من الإسبانية إلى العربية (دار الخان- الكويت) يقول محمد الفولي إن الحقيقة امتزجت بالخيال في هذه الرواية. فالمؤلف؛ شأنه شأن البطل "إلياثار"، بدأ أولى خطواته نحو المجد الأدبي بعد نشأته في عالم مستوطنات الملح الصخري. بل إنه حوَّل مجموعة قصائد "الملكة إيزابيل" المشار إليها في الرواية، إلى قصة قصيرة، ثم إلى رواية نشرتها دار "بلانيتا"، تحت عنوان "الملكة إيزابيل تغني الرانتشيراس"، في بواكير مساره الاحترافي مع الأدب الذي بدأ في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وهو قدم خلاله عدداً من الروايات التي وضعته في مكان متميزة وسط أدباء أميركا اللاتينية، منها "راوية الأفلام"، و"سراب حب مع فرقة موسيقية"، و"الرجل الذي حدَّق في السماء"، وثلاثية "رجال وقرى".
ألحق لتيلير بروايته التي صدرت بالإسبانية عام 2019، ما أسماه "خاتمة لا لزوم لها"، شرح فيها دافعه إلى كتابتها وهو على حد تعبيره إبراز "بطولة هؤلاء الرجال الذين قهروا هذه الأراضي الجهنمية بزجاجةٍ في يد، من دون مأوى سوى ظلالهم أنفسهم" لاستخراج "الذهب الأبيض". وفي هذا السياق يصف لتيلير صحراء كاتاكاما بأنها "معزولة مثل كوكب مهجور، بينما صمتُها يصم الآذان" ص 147. وهذه المستوطنات كانت تقام حول مناجم الملح الصخري التي ظل اقتصاد تشيلي يعتمد عليها بصورة كبيرة منذ 1886 وحتى 1930، لكن حتى بعد ظهور بدائل صناعية – يقول الفولي- ظلت المستوطنات والمناجم قائمة حتى ثمانينيات القرن الماضي، لتعكس تدهوراً في أحوال المرتبطين بها، وهو الأمر الذي عبَّرت عنه رواية "العصامي". تدور الأحداث في إحدى مستوطنات الملح الصخري في شمال تشيلي، في سبعينيات القرن الماضي. والمقصود بالعصامي هنا، هو "إلياثار لونا"، الذي عمل منذ طفولته في مناجم الملح الصخري، ويحصِل ما فاته من تعليم في مدرسة ليلية، ويطالع ما تحويه مكتبة المستوطنة، بشغف، حتى لقبه زملاؤه بـ "آكل الكتب"، سخرية منه، لكنه نجح في كسب احترامهم بعد فوزه في مسابقة للشعر، على المستوى الوطني، ونشرت الصحف صورته.
الشاعر والملاكم
يفسح لتيلير مجالاً للفتاة "ليدا" لتشارك في السرد، على شكل رسائل إلى أختها "أورا" التي توفيت قبل ست سنوات، من بداية أحداث الرواية. وهكذا تتمحور الأحداث التي تستمر لنحو ثلاث سنوات، حول الثلاثي "إلياثار"، و"ليدا"، ابنة صاحب المقصف في المستوطنة والطامحة إلى الفوز بلقب "الملكة" بحسب تقليد فولكلوري سنوي، و"روساريو فييرو"، عامل المنجم الطامح إلى الشهرة في عالم الملاكمة. يتعلق إلياثار بـ "ليدا"، تعلقاً ناعماً يتناسب مع حسه المرهف، لكنها تفضل عليه "فييرو"، لأنه أكثر جرأة في دغدغة مشاعرها، لكنها تندم على ذلك بسبب إهماله لها بعد أن أفقدها عذريتها غداة فوزها باللقب المنشود.
هذا التقليد الفولكلوري يرتبط بالاحتفال ببداية الربيع في هذا الحيز الجغرافي المعزول عن العالم ويتضمن مسابقة لاختيار ملكة رمزية للمستوطنة من بين عدد من الفتيات، وتواكبه زيارة وفد من ملاكمي سانتياغو، لمنازلة ملاكمي المستوطنة، وحفل رقص تنكري وعرض لمركبات الرمزية. وبينما كان "روساريو فييرو" يستعد لأول منازلة رسمية له على الحلبة، كان "إلياثار لونا" يجتهد لكتابة قصيدة في "ليدا" ليلقيها في حفل تتويجها المتوقع بلقب "الملكة". اجتهد في نظم أبيات موزونة ومقفاة لأن أعضاء لجنة التحكيم أساتذة في اللغة الإسبانية ويميلون من ثم إلى الشعر ذي النزعة الكلاسيكية.
سرد توثيقي
قرأ "إلياثار لونا" في مكتبة القرية التي كان من النادر أن يتردد عيها أحد من سكان المستوطنة، أعمال "جيل 27 الإسباني" وبعض شعراء "القرن الذهبي". كان يكتب قصائده في دفتر للرسم البياني، ويخفي عن زملائه في المنجم أنه يكتب الشعر. كان ضمن جماعة "عمال السكة" وهم أشجع مَن في المنجم، مع أن له "يدين رهيفتين كعازف بيانو". و"عمال السكة" يشتهرون بقدرات بدنية تمكنهم من تحمل قسوة العمل، لكن "لونا" نجح في مجاراتهم، والاحتفاظ في الوقت نفسه بعواطفه الجياشة. "روساريو فييرو"، كان عمره 22 عاماً، عندما انضم إلى معسكر العمل في المنجم على أمل أن تكون هذه بداية ليحقق طموحه في عالم الملاكمة، وهو أصلاً كان يعمل راعياً للماعز في جنوب البلاد. وبحسب سرد توثيقي، فإنه لطالما فضَّلت مستوطنات المقاطعة التعاقد مع عمال رياضيين ليبرزوا في دورة ألعاب مناجم الملح الصخري التي تحتضنها منطقة البامبا سنوياً.
"روساريو فييرو" يحلم باحتراف الملاكمة وأن يرعى "قطعاناً من النساء الجميلات المتعطرات من كل الأصناف والألوان، عوضاً عن ماعز الجبل النتنة". لم يصل في التعليم أبعد من الصف الثالث الابتدائي. نشأ "لونا" في مستوطنة بونيا بينتورا، التي صارت بعد نفاد ما في مناجمها قرية شبحية، وأصبح يتيماً من ناحية الأم وهو في التاسعة من عمره. أبوه عامل مناجم وواعظ في الحركة الخمسينية. التحق "لونا" بالعمل في الشركة وعمره 15 عاماً. في البداية عمل مرسالاً. في عمر 13 أحبَّ ماريا مرغريتا (بطلة رواية "راوية الأفلام" للكاتب نفسه) وكانت تكبره بعام واحد. كان الناس يشيعون أنها حبيبة "غرينغو" مدير المستوطنة. كتب "لونا" لها قصائده الأولى، قبل أن يحرقها لا يأسا من أن تبادله الحب، بل لإدراكه اللاحق بأنها ضعيفة فنياً. ثم أحبَّ "ليدا" ابنة صاحب المطعم، ويدعى "دون سيرباندو فلوريس"، وهو أحد حفاري المنجم، ويدير المطعم مع أمها "دونيا ديولفينا ألكانثارا".
رسائل "ليدا"
تتردد، في السياق التوثيقي للعمل، أسماء أعلام في الأدب التشيلي مثل بابلو نيرودا، وألفونسو كالديرون، وغابرييلا مسترال وبيثنتي ويدوبرو. ويأتي ذلك في إطار مونولوغي، على لسان "لونا" الذي كان يلاحظ أن "أي رجل يتعامل بأدب ورقي ليس سوى مخنث بالنسبة إلى عمال المناجم". ومن رسائل "ليدا" نعرف أن علاقتها بأختها كانت مزيجاً من الحب والكراهية، فقد كانا على طرفي نقيض مع أنهما توأمتان. منذ اختيارها "ملكة"، باتت "ليدا" لا تنشغل برجال المستوطنة؛ "لأنهم مجرد موتى من فرط الجوع". المستوطنة نفسها لم تعد تطيب لها. لطالما قالت: "عليَّ الرحيل من مرعى الموت الشيطاني هذا" ص 141.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
و تتردد أغنية "الجرس الصغير" التي كتبها غوستابو كامبانيا في حقبة الثلاثينيات ولحنها خابيير اينيغيفو. أما رئيسة لجنة تحكيم مسابقة "الشاعر المكلل" فكانت هي نفسها مديرة المدرسة الليلية إرينا بريستيلا دي كامبومار. قالت له إن اللجنة رأت أن من المستحيل أن يكون أحد طلاب المدرسة قد كتب هذه القصيدة، "ففيها خصائص كثيرة تدل على أنها منسوخة، من كتاب" ص 107. أما هو فقال لنفسه: "طيلة الوقت الذي كتبت فيه، لم تحظ أي من قصائدي بمثل هذا الثناء". في البداية انجذبت "ليدا" لوقاحة الملاكم "روساريو" الذي فاز في مسابقة الملاكمة على منافسه القادم من سانتياغو، فأمرت إدارة الشركة بألا يكلف سوى بالأعمال الخفيفة، وحبذا لو سمح له بالجلوس طوال فترة العمل في الظل. انتهت الصداقة بين الشاعر والملاكم، بعدما أغوى الأخير الفتاة الملقبة للتو بـ "الملكة ليدا الأولى".
ثم سرعان ما اتضح أن الملاكم هارب من قريته، لأنه ضرب أحدهم ضرباً مبرحا فأصيب بغيبوبة انتهت بموته. تقبض الشرطة على روساريو، ولكنه يعود مجددا إلى مستوطنة الملح الصخري بعد أن قضى عامين في السجن، ولكنه يفشل في استئناف علاقته بـ "الملة ليدا" فينتحر بتفجير إصبع دياميت في جسده. في تلك الأثناء كان الشعر وحده ترياق المرارة التي نخرت "لونا" من الداخل، فقضى أغلب أوقاته محبوساً في سكن العزاب، ليقرأ، بعدما رفضت "ليدا" محاولاته للتقرب منها عقب موت صديقه القديم المروع. "ليدا" نغسها عقب ذلك الحادث أصابها مرض نفسي، فباتت تتوهم أن روح شقيقتها الراحلة تلبستها. أما "بدرو دي بالديبيا" نفسها فتحولت بعد سنوات من تلك الوقائع إلى "واحدة من تلك القرى الشبحية المتناثرة في الصحراء". فيما قرر "لونا" أن يكتب عنها رواية، بعدما انقلبت رؤيته للأدب، على تعبيره، رأساً على عقب؛ "إذ اكتشفت أن القصيدة ليست الوعاء الوحيد للشعر، وأن الشعر قادر على أن يسكن النثر بصورة مثالية"، وبالطبع لا يصعب تقرير أن هذه هي قناعة لتيلير نفسه.