ملخص
تتجه إسرائيل بوضوح إلى "لبننة" الحل في إيران من خلال فرض قواعد اشتباك قائمة على الضرب الوقائي المستمر، وشرعنة العمل السري داخل إيران، وإبقاء اليد على الزناد باتجاه أي مشروع نووي، لكن هذا النموذج، وعلى رغم قوته، هشّ لأنه يعتمد على استمرار توازن القوة والاستخبارات لا أكثر، وأي خلل أو تغير في القيادة الأميركية أو الإسرائيلية، أو انقلاب في الداخل الإيراني، قد يطيح به.
انقشع غبار المعركة وخرج طرفا الحربين "الأسد الصاعد" و"الوعد الصادق-3"، إسرائيل وإيران، منتصرين، ولكن لم يرفع علم أبيض ولم تسجل صورة مصافحة ولم تسقط أية عاصمة، لكن الطرفين خرجا يعلن كل منهما أنه المنتصر.
وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن إسرائيل "حققت نصراً تاريخياً" سيبقى للأجيال المقبلة بعد صراعها الذي استمر 12 يوماً مع إيران، وفي خطابه للأمة قال إن إسرائيل أزالت ما وصفه بالتهديد النووي الوجودي الذي كان يهددها، إضافة إلى آلاف الصواريخ الباليستية الإيرانية، شاكراً الرئيس الأميركي دونالد ترمب على دخول الولايات المتحدة في الصراع الإيراني - الإسرائيلي.
من جهته أيضاً أعلن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان انتهاء الحرب مع إسرائيل بـ "نصر عظيم" للأمة الإيرانية، وأعرب عن استعداده حل الخلافات مع الولايات المتحدة وفق الأطر الدولية، وقال بزشكيان في رسالة مكتوبة إلى الشعب الإيراني نشرتها وكالة الأنباء الرسمية، "اليوم وبعد المقاومة البطولية لأمتنا العظيمة التي تكتب التاريخ بعزيمتها، نشهد إرساء هدنة ونهاية هذه الحرب التي استمرت 12 يوماً، وفرضتها المغامرة والاستفزاز"، مضيفاً أن "العدو الإرهابي هو الذي بدأ الحرب، غير أن نهايتها كتبت بإرادة شعبنا، والعالم رأى عظمة بلادنا".
رواية النصرين
وفي كل مرة تنتهي فيها الحروب من دون توقيع اتفاق رسمي، يبدأ الصراع الحقيقي، صراع على رواية النصر، وعقدة "الطلقة الأخيرة"، فإسرائيل خرجت لتفاخر بتدمير قلب البرنامج النووي الإيراني بضربة خاطفة غير مسبوقة، بينما تزعم طهران أنها أفشلت المؤامرة واحتفظت بنظامها وأظهرت قدرتها على الرد، ولكن هذا التناقض في روايات الانتصار ليس مجرد دعاية بل هو انعكاس لتصورين إستراتيجيين مختلفين، فإسرائيل ترى أن النصر يقاس بالمنشآت المدمرة والاغتيالات الدقيقة والردع المعاد ترسيخه، في حين أن إيران ترى أن النصر يكمن في بقاء النظام واحتواء التصعيد وتحدي الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية.
وبين التصورين تبرز حقيقة أن الحرب لم تنه الصراع بل رسمت مرحلة جديدة منه، مرحلة "النصر المركب" والمشروعية المشروطة، إذ تتعايش الهزيمة والنجاح في خطاب كل طرف، وتعاد صياغة موازين القوة ليس على الأرض فقط، بل في عقول الجماهير وصالونات القرار الدولي.
حدود القوة الإسرائيلية من دون الغطاء الأميركي
وأظهرت الحرب بين إسرائيل وإيران حقيقة كانت خاضعة للتكهنات طوال أعوام، فإسرائيل، وعلى رغم تفوقها العسكري والتقني، لا تستطيع خوض مواجهة شاملة ضد دولة بحجم إيران من دون دعم مباشر من الولايات المتحدة، وصحيح أن إسرائيل تمتلك قدرة استخبارية دقيقة وسلاحاً جوياً متقدماً، إلا أن الضربات الواسعة التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، وفي مقدمها فوردو ونطنز وأصفهان، لم تنفذ بنجاح حاسم إلا بعد تدخل الولايات المتحدة سياسياً وعسكرياً، بما في ذلك استخدام ترسانتها من القنابل الخارقة للتحصينات وتوفير غطاء إستراتيجي عبر الأسطول الخامس والمنصات الجوية، وهذا الواقع يكرس معادلة واضحة هي أن إسرائيل قادرة على تنفيذ عمليات نوعية خاطفة ضد أذرع إيران في سوريا ولبنان، لكنها غير مؤهلة لا سياسياً ولا لوجستياً لتحمل حرب استنزاف أو ضرب عمق دولة إقليمية مثل إيران من دون أن تتكبد أثماناً مرتفعة، سواء على مستوى الجبهة الداخلية أو الجبهة الدبلوماسية.
والدرس الأهم من هذه الحرب هو أن إسرائيل، وعلى رغم قدرتها على فرض قوة نارية هائلة، لا تزال تعتمد وجودياً على المظلة الأميركية، ليس فقط في التسليح والدعم الاستخباري، بل في إدارة الإيقاع السياسي للحرب ومنع تفجرها إلى مواجهة إقليمية شاملة لا يمكن احتواؤها.
ترمب يفرض إيقاعه
وبطبيعة الحال برز دور الرئيس الأميركي دونالد ترمب في وقف التصعيد بين إسرائيل وإيران، ونجح في إنزال الطرفين عن الشجرة، وظهر ترمب كوسيط منتصر ولم يدخل كطرف محايد، بل كزعيم يفاخر بأنه سمح لإسرائيل بتدمير المنشآت النووية الإيرانية خلال 48 ساعة قبل أن يتدخل لضبط الإيقاع، وقدم تدخله كـ "حكمة اللحظة الأخيرة" لمنع حرب شاملة، مما يمنحه أوراق قوة أمام الناخب الأميركي والعالم أجمع، وكأنه يقول إن "الضربة حصلت" وإن إيران تلقت ما تستحق، وإن على الجميع التراجع الآن. وأوضح للصحافيين على متن طائرة الرئاسة عندما طُلب منه توضيح منشوره على مواقع التواصل الاجتماعي خلال عطلة نهاية الأسبوع، والذي طرح فيه إمكان تغيير النظام بالقول "لا، لا أريده، أود أن أرى كل شيء يهدأ في أسرع وقت ممكن"، معتبراً أن "تغيير النظام يتبعه فوضى، ومن الناحية المثالية لا نريد أن نرى كل هذه الفوضى، وكما تعلمون فالإيرانيون تجار بارعون جداً ورجال أعمال ممتازون ولديهم كثير من النفط، ويجب أن يكونوا على ما يرام، يجب أن يكونوا قادرين على إعادة البناء والقيام بعمل جيد، ولن يحصلوا أبداً على سلاح نووي ولكن بخلاف ذلك ينبغي أن يقوموا بعمل رائع".
وكان ترمب أثار احتمال تغيير القيادة في إيران بعد أن ضربت الولايات المتحدة ثلاث منشآت نووية إيرانية، وأشار على منصته "تروث سوشيال" إلى أنه "ليس من الصواب سياسياً استخدام مصطلح تغيير النظام، ولكن إذا كان النظام الإيراني الحالي عاجزاً عن جعل إيران عظيمة مجدداً، فلماذا لا يكون هناك تغيير للنظام؟".
ترمب حدد سقف الرد الإيراني
وكان ترمب استخدم قنوات دبلوماسية مباشرة، عُمان وربما قطر، لإبلاغ إيران بأن أي رد كبير على الضربة الأميركية سيقابل برد أعنف، لكنه في الوقت نفسه عرض مخرجاً مشرفاً لطهران عبر الرد الرمزي المحدود والمعلن مسبقاً، وبالفعل قصفت إيران قاعدة العديد في قطر مساء الإثنين الماضي في عملية سمتها "بشائر الفتح"، رداً على الهجوم الأميركي الذي استهدف منشآتها النووية، وأعلنت الدوحة أن الدفاعات الجوية اعترضت الصواريخ الإيرانية بنجاح، وقال "الحرس الثوري الإيراني" في بيان إنه "بعد العدوان الأميركي على منشآتنا النووية وجهنا ضربة مدمرة لقاعدة العديد الأميركية في قطر".
وبعد الرد الإيراني توجه ترمب بالشكر لإيران وقال، "أود أن أشكر إيران على التحذير الباكر الذي سمح بعدم فقدان أرواح وعدم إصابة أي أحد في قاعدة العديد في قطر، والآن يمكن لإيران أن تتقدم نحو السلام والانسجام في المنطقة، وسأشجع بحماسة إسرائيل على أن تفعل الشيء نفسه"، معتبراً أن "إيران ردت رسمياً على تدميرنا منشآتها النووية برد ضعيف جداً، وهو ما كنا نتوقعه، وقد تصدينا له بفعالية كبيرة، فجرى إطلاق 14 صاروخاً أسقط منها 13، وصاروخ واحد ترك لأنه كان متجهاً نحو وجهة غير مهددة، ويسعدني أن أبلغكم أنه لم يصب أي أميركي بأذى ولم تسجل أضرار تذكر، والأهم من ذلك أنهم أخرجوا ما في صدورهم، ونأمل ألا يكون هناك مزيد من الكراهية"، كما طمأن طهران بأن واشنطن ليست بصدد إسقاط النظام لكنها لن تقبل بإعادة بناء البرنامج النووي.
الضغط على إسرائيل للتهدئة
في المقابل استخدم الرئيس الأميركي نفوذه العسكري والدبلوماسي على تل أبيب ليطلب منها وقف التصعيد بعد تحقيق الأهداف، والرسالة كانت واضحة أن أميركا لا تريد حرباً إقليمية الآن، وقدمت لإسرائيل أكبر ضربة ممكنة وعليها الآن ألا تحرج الحليف الأميركي، وبعد أن تبادلت إسرائيل وإيران الاتهامات بخرق وقف إطلاق النار بعيد ساعات قليلة من دخول اتفاق الهدنة بين الجانبين حيز التنفيذ، قالت إسرائيل إنها رصدت صواريخ جرى إطلاقها من إيران بعد ساعتين ونصف الساعة من بدء وقف إطلاق النار، وهو ما نفاه الجيش الإيراني، لكن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس أمر الجيش بالرد بقوة على انتهاك إيران اتفاق وقف النار، فتدخل ترمب وأعلن أن "إسرائيل لن تهاجم إيران وكل الطائرات ستعود لقواعدها، وستؤدي موجة طائرات ودية تجاه إيران"، وتابع "لن يصاب أحد، وقف إطلاق النار سارٍ، شكراً على اهتمامكم بهذا الأمر"، وذلك بعد اتصال هاتفي أجراه نتنياهو.
ونقل موقع "أكسيوس" عن مسؤول إسرائيلي قوله إن ترمب اتصل بنتنياهو وطلب منه عدم شن أي هجوم على إيران، لكن نتنياهو أجاب بأنه لا يستطيع إلغاء الهجوم بالكامل، وأضاف نتنياهو أن هناك حاجة إلى "رد ما على خرق إيران وقف إطلاق النار"، وتابع المسؤول الإسرائيلي أنه "في نهاية المطاف تقرر تقليص حجم الهجوم بصورة كبيرة وإلغاء استهداف عدد كبير من الأهداف".
إذاً ترمب لم ينزل فقط إيران عن الشجرة بل أنزل إسرائيل أيضاً بعد أن سمح لها أولاً بتسلق أعلى غصن وضرب خصمها بقوة، ثم جاء ليقدم "لحظة التوازن" التي تمنح كل طرف شيئاً، فإسرائيل خرجت منتصرة عسكرياً من دون الغرق في مستنقع، وإيران احتفظت بالنظام وتجنبت حرباً كبرى وقدمت رداً يحفظ ماء الوجه، وظهر ترمب كصانع قرار عالمي ومرشح "السلام من موقع القوة"، وهي صورة مثالية يريد أن يحتفظ بها حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، ولكن لماذا قبلت إسرائيل بوقف الحرب في هذا التوقيت على رغم أنها كانت متفوقة ميدانياً؟
الأهداف الإستراتيجية تحققت
من منظور إسرائيلي جرى تحقيق الأهداف الإستراتيجية الأساس، من تدمير منشآت في نطنز وآراك وفوردو وأصفهان، واغتيال قيادات في "الحرس الثوري" بمن فيهم مسؤولون في برنامج إيران النووي والصاروخي، وأثبتت تل أبيب قدرات استخبارية وجوية هائلة في اختراق العمق الإيراني من دون رد حقيقي، وبالتالي فلا حاجة إلى المخاطرة بفتح جبهات إضافية بعد تحقيق الإنجاز، وهي بهذا تجنبت حرباً استنزافية طويلة. ذلك أنه على رغم التفوق الإسرائيلي فإن حرباً طويلة تعني استنزافاً للداخل الإسرائيلي وتعرّض الجبهة الداخلية للخطر عبر "حزب الله" أو الحوثيين أو حتى الميليشيات في العراق، وقد تكون القبة الحديدية والجيش قادرين على الدفاع، لكن استمرار القصف وتحريك جبهات عدة سيؤدي إلى خسائر سياسية واقتصادية، وهي عملياً لا تريد إحراج واشنطن إذ إن ترمب قدم الغطاء الكامل للهجوم، لكن استمرار الحرب، على رغم طلبه وقفها، سيحرجه داخلياً، وتدرك تل أبيب جيداً أن أي صدام مع الرغبة الأميركية في هذا التوقيت قد يؤثر في الدعم العسكري والسياسي لاحقاً.
وبالتوازي بدأ المجتمع الدولي وأوروبا وروسيا والصين يضغط لوقف التصعيد، وسيحوّل استمرار الضربات إسرائيل من ضحية إلى معتدية في نظر بعض الأطراف، ويمنح إيران غطاء لاستئناف التخصيب، وهذا أكثر ما تخشاه الحكومة الإسرائيلية حالياً.
المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تتحضر لـ "اليوم التالي" في إيران
وكان رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير قد صرح بعيد سريان وقف إطلاق النار أن "الحملة على إيران لم تنته بعد"، ونقلت بعض المنصات الإعلامية الإسرئيلية تقارير عن استعداد المؤسسة الأمنية الإسرائيلية للمرحلة التي تلي الحرب في إيران، وقالت إن "نموذج لبنان يطبق في طهران" ضمن سياسة "عدم التسامح مطلقاً"، والمستوحاة من النموذج المعتمد حالياً في لبنان، وبدعم مباشر من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أطلق وزير الدفاع يسرائيل كاتس مشاورات مع قيادة الجيش وبدأ الإعداد العملي لخطة ما بعد الحرب، والهدف الأساس هو فرض حظر مطلق على أية محاولة إيرانية لإعادة إحياء مشاريعها النووية أو الصاروخية، واعتبرت تلك التقارير أن "النموذج اللبناني ينقل إلى إيران".
ماذا تعني "لبننة الحل" في السياق الإيراني؟
المقصود طبعاً هو أن تسعى إسرائيل إلى فرض خط أحمر دائم في الأجواء الإيرانية يمنع إعادة بناء البرنامج النووي، أي حرية الضرب من دون إعلان الحرب، وشبه سيطرة جوية مدعومة بصمت دولي، وفرض قواعد اشتباك من طرف واحد، والاحتفاظ بحق تنفيذ ضربات دورية، كما في سوريا ولبنان، ضد أي موقع ترى أنه يشكل تهديداً، وفرض منطق "المعركة بين الحروب" داخل إيران نفسها عبر الاغتيالات والضربات الإلكترونية والهجمات الدقيقة، من دون الدخول في حرب شاملة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ملامح الخطة الإسرائيلية لما بعد الحرب
وبعد الضربات الأخيرة على فوردو ونطنز وآراك، أدركت إسرائيل أن إيران لن تتخلى عن مشروعها النووي، وفي السياق قال رئيس "منظمة الطاقة الذرية الإيرانية" محمد إسلامي في تصريح للتلفزيون الرسمي، "اتخذنا التدابير اللازمة مسبقاً ونقيّم الآن حجم الأضرار، وكانت الاستعدادات لإعادة تأهيل المنشآت النووية جزءاً من خطتنا، ويتمثل هدفنا في تفادي أي تعطيل لعمليات الإنتاج أو الصيانة"، لذا يبدو أن تل أبيب بدأت بالفعل بلورة إستراتيجية تقوم على تحويل سماء إيران إلى ميدان مواجهة بلا قيود بعد نجاح الضربات الأخيرة التي جرت جزئياً من داخل إيران أو عبر طائرات شبح، وهناك مؤشرات إلى أن إسرائيل تسعى إلى ترسيخ هذا المسار، بخاصة أن المعلومات أشارت إلى أن إسرائيل اخترقت عمق إيران عبر خلايا تجسس وطائرات من دون طيار متقدمة، وتعاون داخلي من معارضين للنظام.
وعلّق صحافيون إسرائيليون على التقارير الإيرانية التي تحدثت عن أن إسرائيل تنتهك وقف إطلاق النار وتشن هجمات بطائرات مسيرة مفخخة جرى اعتراضها بواسطة الدفاعات الجوية، بأنه "إذا كانت من داخل الأراضي الإيرانية فهي ليست من إسرائيل"، ويضاف إلى تلك المعطيات التقارير الأمنية الإيرانية شبه اليومية التي تتحدث عن إلقاء القبض على إرهابيين وعملاء للـ "موساد".
بناء شرعية دولية لضربات مستقبلية
من هنا تعمل إسرائيل على تأطير تدخلها في إيران بوصفه دفاعاً عن الأمن الدولي وليس فقط عن أمنها، وبعد الضربة الأخيرة بات لدى إسرائيل حجة واضحة، "لقد دمرنا منشآت نووية تهدد العالم والعالم صمت، إذاً لدينا تفويض ضمني"، فهي بهذا ترسخ الردع من دون الحاجة إلى حرب، وكما في لبنان تريد أن تجعل إيران تفكر ألف مرة قبل أن تعيد تخصيب اليورانيوم أو ترميم منشآتها تحت الأرض، لأن كل منشأة جديدة ستصبح هدفاً مشروعاً، وكل نشاط نووي معلن سيعتبر مقدمة لهجوم.
هل تقبل إيران بهذا النموذج؟
تدرك إيران أن الحرب المباشرة غير واردة حالياً لكنها ستقاوم محاولات تحويل أجوائها إلى مسرح حرّ لسلاح الجو الإسرائيلي، وقد تعتمد نموذج الرد غير المباشر عبر الميليشيات أو الهجمات الإلكترونية، أو حتى إعادة تفعيل الحوثيين و"حزب الله" كوسيلة ضغط على إسرائيل وحلفائها، لكن واقع الأمر يقول إن القيادة الإيرانية اليوم أضعف ما تكون وفقدت هيبتها داخلياً وخارجياً، مما يجعلها مكرهة لا مخيّرة على التعايش مع قواعد اشتباك إسرائيلية جديدة، وإسرائيل اختبرت لبنان وسوريا، وهي الآن تجرب نقل هذا النموذج إلى إيران ولكن بنكهة أكثر تعقيداً.
المكاسب الإسرائيلية من هذا النوذج
وذلك الأمر سيبقي إيران تحت السقف النووي من دون حرب، وستنقل المعركة إلى الداخل الإيراني سياسياً وعسكرياً، ليجر النظام إلى معادلة دفاعية، ومن هنا تضغط إسرائيل لتصدير نموذج الردع الجديد، "لا خطوط حمر بعد الآن حتى داخل حدودكم السيادية"، وهذا ما سيحقق نصراً سياسيا لترمب وتحالفه مع اليمين الإسرائيلي على حساب الهيبة الإيرانية.
مقارنة مع لبنان وسوريا
ما تحاول إسرائيل فعله في إيران اليوم ليس جديداً تماماً بل هو امتداد لتجربتين سابقتين مارستهما على مدى أعوام في كل من لبنان وسوريا، ففي لبنان فرضت إسرائيل ومنذ توقيع اتفاق الهدنة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 معادلة ردع قوامها الضربات الجوية المحدودة والاغتيالات، ضمن ما تسميه "المعركة بين الحروب"، من دون الانزلاق إلى حرب شاملة، وفي سوريا مارست سياسة الضربات الدقيقة على شحنات السلاح الإيرانية أو قواعد "الحرس الثوري"، وسط صمت دولي وتواطؤ روسي ضمني، من دون أن تواجه رداً جدياً من النظام السوري البائد أو طهران، أما في إيران فالوضع أكثر تعقيداً، لكنها بعد الضربات الأخيرة كسرت حاجز "الهيبة الأمنية الإيرانية"، وتبدو كأنها تسير في المسار نفسه، فإسرائيل نفذت عمليات اغتيال وهجمات إلكترونية وضربات دقيقة في العمق الإيراني، وردت طهران عليها بردود رمزية ومحدودة، وعلى رغم الدمار الذي أحدثته في الداخل الإسرائيلي لكنه ليس على قدر المتوقع من دولة نووية، حتى إن بعض المراقبين قال إن ردود إيران شبيهة بردود الميليشيات وأشبه بما فعله "حزب الله" في لبنان طوال فترة "حرب الإسناد"، بعض الصواريخ وبعض التصريحات، ثم العودة للصمت.
أما بالنسبة إلى البيئة الدولية فهي متشابهة أيضاً في الحالات الثلاث، لبنان وسوريا وإيران، إذ يقف المجتمع الدولي إما متفرجاً أو صامتاً ويكتفي بالتنديد الشكلي، مما يمنح إسرائيل تفويضاً غير معلن لمواصلة هذا النمط من العمليات، وبمعنى آخر فإن إسرائيل تحاول اليوم نقل نموذج السيطرة الجوية والردع الوقائي من حدودها الشمالية إلى قلب إيران، ولكن هذه المرة من دون الحاجة إلى وجود قوات على الأرض، بل باستخدام التفوق التكنولوجي والاستخباري ومظلة سياسية أميركية واضحة.
وفي المحصلة تتجه إسرائيل بوضوح إلى "لبننة" الحل في إيران من خلال فرض قواعد اشتباك قائمة على الضرب الوقائي المستمر وشرعنة العمل السري داخل إيران، وإبقاء اليد على الزناد باتجاه أي مشروع نووي، ولكن هذا النموذج، وعلى رغم قوته، هشّ لأنه يعتمد على استمرار توازن القوة والاستخبارات لا أكثر، وأي خلل أو تغير في القيادة الأميركية أو الإسرائيلية، أو انقلاب في الداخل الإيراني، قد يطيح به.