ملخص
في هذه القراءة نحاول تلمس الأسباب التاريخية التي جذرت تلك العناصر الدينية في الحياة السياسية الأميركية، ومدى تأثيرها في سياقات الأحداث المتسارعة في الفترة الأخيرة.
من جديد يطفو على السطح هذا التساؤل المثير والخطر في الوقت ذاته: هل الولايات المتحدة الأميركية دولة علمانية أم دينية؟
يبقى الجواب سائراً، وفي كثير من الأحايين حائراً ضمن إشكالية تكافؤ الأضداد في الروح الأميركية الواحدة، ذلك أنه في حين يؤسس الدستور الأميركي لدولة علمانية تفصل بين حرية الاعتقاد الإيماني والروحاني، وتبدأ دستورها بمقولة "نحن الشعب" بكل أطيافه أطرافه، ملله ونحله، طوائفه ومعتقداته، نجد على الجانب الآخر أثراً لا يمحي لمسحة إيمانية، بدءاً من مقولة "نثق في الله"، و"دولة تحت عناية الرب"، وصولاً إلى عديد من العناصر الدينية الكامنة في ثنايا عالم السياسة الأميركية.
على أنه وبنوع خاص تتجلى تلك العناصر في أوقات الأزمات، ولعل نظرة عليا على تاريخ الولايات المتحدة الأميركية في الربع الأخير من القرن الـ20، تظهر تصاعد المد اليميني المرتبط بالأزمات الاستراتيجية لأميركا المعاصرة.
يحاجج كثير من المراقبين الثقات بأن الصحوة الجديدة لتيار اليمين الأميركي بملمسه وملمحه الديني، إنما تعود إلى زمن مستنقع فيتنام، الذي واكب تاريخياً حرب الأيام الستة في الشرق الأوسط.
في هذا الإطار قارن ملايين الأميركيين نجاحات إسرائيل في حربها ضد الدول العربية، بانكسارات أميركا في فيتنام، وساعتها استخدم أنصار هذا التيار تعبير "أميركا فارقتها روح الرب"، وهو تعبير توراتي يعود إلى شخصية شمشون الشهيرة.
في هذه القراءة نحاول تلمس الأسباب التاريخية، التي جذرت تلك العناصر الدينية في الحياة السياسية الأميركية، ومدى تأثيرها في سياقات الأحداث المتسارعة في الفترة الأخيرة.
فهل كانت هناك رسالة بعينها وصلت إلى الرئيس الأميركي من سفيره في إسرائيل، تدفعنا للحفر عميقاً في هذه الإشكالية؟
غالب الظن أن الكلمات التي حملتها رسالة السفير مايك هاكابي، هي الدافع لإعادة قراءة السطور ما بين الدين الأميركي والسياسات الخارجية للولايات المتحدة. ماذا عن هذا؟
تكافؤ الأضداد
ربما يعن لنا قبل الدخول في عمق مشهد هاكابي الأخير، أن نخلص الخيوط، ونفك اشتباك الخطوط بين ما هو سياسي وذاك الذي هو ديني في الداخل الأميركي، وهي عملية صعبة في كل الأحوال، بل ومعقدة، لا سيما أنها تقع في منطقة تنازع بين الوضوح الدستوري الأميركي من جهة، والأثر الفاعل للمعتقدات والتقاليد والقيم الدينية الموروثة عن الآباء البيوريتانيين المؤسسين من جهة ثانية.
والثابت أنه بينما يحظر التعديل الأول من الدستور تأسيس ما يمكن أن نسميه بـ"الدين الوطني" أو "القومية الدينية"، لكن واقع الحال يخبرنا أن وجهات النظر الدينية قد شكلت باستمرار الخطاب السياسي الأميركي ونقاشات السياسات والحركات الاجتماعية، ولا تزال، ويكفي أن يطالع المرء نص القس الأفريقي الأصل مارتن لوثر كينغ المعنون بـ"عندي حلم"، ليدرك أنه أمام ما يشبه نصوص المراثي التوراتية، أو الأسفار الشعرية الكتابية من العهد القديم والجديد معاً.
وبشيء من التفصيل يمكننا القول إن التعديل الأول للدستور الأميركي شمل بند التأسيس، الذي يحظر على الكونغرس تأسيس ديانة وطنية، وبند حرية ممارسة الشعائر الدينية، الذي يحمي حقوق الأفراد في ممارسة دينهم بحرية.
وهنا يبدو واضحاً أن الآباء المؤسسين تجنبوا رسمياً "تديين الجمهورية الأميركية"، لكنهم في الوقت عينه، بممارساتهم وأقوالهم، فتحوا مجالاً واسعاً للتفسير الدقيق وتطبيق هذا المبدأ، الأمر الذي دارت من حوله نقاشات مطولة مستمرة، وتفسيرات قانونية متضاربة.
لم يكن وارداً غياب الأثر الديني في فكر الآباء المؤسسين، وجلهم رحلوا من أوروبا هرباً من التمييز الطائفي داخل المسيحية الواحدة، أو هكذا ادعوا، وهي مسألة تحتاج إلى التدقيق التاريخي واللاهوتي.
غير أنه وفي كافة الأحوال، لعبت المعتقدات الدينية كمحورية أساسية في تأصيل عديد من الحركات الاجتماعية عبر التاريخ الأميركي، بما في ذلك الحركة المناهضة للعبودية، وحركة الحقوق المدنية، وحركات الدفاع عن الحياة.
هل يعني ذلك أن مفهوم "الجدار الفاصل" لم يكن سوى ضرب من ضروب التهافت الكبرى في مسيرة الولايات المتحدة الأميركية؟
يشير مفهوم "الجدار الفاصل" بين الكنيسة والدولة، الذي روج له الرئيس الثالث لأميركا، رجل الضياء الأشهر توماس جيفرسون، إلى فصل صارم بين المؤسسات الدينية والحكومية، ومع ذلك فإن المدى الذي ينبغي أن يتم فيه الحفاظ على هذا الجدار، أو ما إذا كان ينبغي أن تكون هناك درجة ما من التعاون بين الدين والحكومة، هو موضوع نقاش مستمر.
باختصار غير مخل، تظل العلاقة بين الفكر السياسي والحقائق أو العقائد الإيمانية في الداخل الأميركي محل ديناميكية مثيرة للجدل، مع نقاشات مستمرة حول التوازن المناسب بين الحرية الدينية وفصل الدين عن الدولة.
رسالة "صوت السماء"
في الـ18 من يونيو (حزيران) الجاري، انتبه العالم لرسالة نصية من السفير الأميركي في إسرائيل مايك هاكابي، مرسلة إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تدفعه في طريق الانخراط بالمواجهة العسكرية القائمة بين طهران وتل أبيب، متوسلاً بالرؤى الإيمانية التي يعبر عنها وجهه الآخر كقس إنجيلي من طغمة اليمين الأميركي المسيحي.
ما الذي قاله هاكابي؟ وما دلالة كلماته؟ وهل كان لها تبعات بعينها؟
في الرسالة يقول "سيدي الرئيس، لقد نجاك الله في بتلر، بنسلفانيا، لتكون الرئيس الأكثر تأثيراً في قرننا، وربما على الإطلاق". مضيفاً "القرارات التي تقع على عاتقك لا أريد أن يتخذها أحد غيرك. لديك أصوات كثيرة تتحدث إليك يا سيدي. لكن صوتاً واحداً فقط هو المهم. صوته. أنا خادمك المعين في هذه البلاد، ومتاح لك. لكني لا أحاول أن أكون في حضرتك كثيراً لأني أثق بحدسك".
ويكمل "لم يمر رئيس في حياتي بمثل وضعك منذ عهد ترومان عام 1945. لا أتواصل معك لإقناعك بل نتيجة لتشجيعك فقط، أعتقد أنك ستسمع من السماء، وهذا الصوت أهم بكثير من صوتي أو صوت أي شخص آخر. أرسلتني إلى إسرائيل لأكون عينك وآذانك وصوتك، ولأضمن أن علمنا يرفرف فوق سفارتنا. مهمتي أن أكون آخر من يغادر".
تبدو رسالة هاكابي بالنسبة إلى من لديهم علم من كتاب الفكر الديني الأميركي الماورائي، كأن الرجل يحاول التماهي مع كثير من أدبيات العهد القديم، وكتابات أنبياء بني إسرائيل، وربما يكون حقه أن يختر ما يشاء من أصوات.
غير أن الكارثة وليست الحادثة، هي سعيه لوضع الرئيس ترمب في مكانة مثل تلك التي عرفها داريوس ملك الفرس حين أعاد بني إسرائيل إلى القدس بعد عقود طوال من السبي البابلي الشهير.
ولعل من المؤكد جداً أننا لسنا في مجال تحليل رسالة هاكابي، بقدر التوقف أمام علامة استفهام حول دبلوماسي أميركي يتعاطى في مهمته بالكتب المقدسة لا بقواعد وسياسات وزارة الخارجية، ما يعني أن الفكر الديني هنا هو من يقود مسارات السياسة الخارجية الأميركية في هذه اللحظات الملتهبة للغاية.
لا تبدو سطور هاكابي مقبولة أو معقولة بالنسبة إلى الملايين حول العالم، ذلك لخلطها المثير للخطر، وهو ما عبر عنه الصحافي والمؤلف الإسرائيلي إيتان نيشن، بقوله "الخطاب الديني المتشدد للسفير هاكابي كشف عن طموحات اليمين المسيحي المظلمة".
نيشين في عموده بصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، حذر من أن هاكابي وغيره ممن سماهم "المتصهينين المسيحيين" من الأميركيين، يدعون إلى الحرب لتدشين ما يعتقدون أنه نهاية العالم.
كيف نفسر كلام نيشين؟
"من دون الإغراق في الأحاديث الكتابية أو اللاهوتية، يمكننا أن نشير فقط إلى أن هاكابي يتبع مبدأ مسيحياً بروتستانتياً يدعي (اللاهوت التدبيري) Dispensationalism، ذاك الذي يؤكد أن إسرائيل الحديثة تحقق النبوءات التوراتية، ويجب دعمها حتى نهاية العالم. وهم لا يترددون في ذلك"، كما كتب نيشين.
ولم تكن هذه أول مرة يتكلم فيها السفير هاكابي بهذا المنطوق، ففي أبريل (نيسان) الماضي، أعلن وهو يقف على أسوار القدس العتيقة "لدينا الفرصة لنكون ممثلين، ليس فقط لحكومتنا، بل أيضاً ليسوع المسيح".
تمثل الرؤى التي انطلق منها هاكابي، خروجاً على الفكر المسيحي للكنائس المسيحية الكبرى مثل الكاثوليكية والأرثوذكسية، ويبدو نص هاكابي أقل شبهاً بالمشورة الاستراتيجية السياسية التي يقدمها سفير أميركي لرئيسه، وأكثر شبهاً بتتويج لعقود من أفكار يوم القيامة الإنجيلية تجاه إسرائيل والتحول المسيحاني للسياسة الإسرائيلية نفسها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يعد الأمر هنا في حقيقة الأمر مجرد عناصر دينية في عالم السياسة الأميركية، بل اختراق جوهري ديني للعقلية السياسية الأميركية، وهو أمر يعود إلى العقود الأولى للمهاجرين الأوائل.
كتب نيشين "إن اللغة المسيحانية التي تدعي الدفاع عن الديمقراطية، والتي يتناولها السياسيون الإسرائيليون والأميركيون على حد سواء، تكشف عن مفارقة خطرة، فهم لا يعارضون الحكم الديني، بل يعارضون فقط النظام الإسلامي. إنهم ببساطة يغطون تعصبهم الديني بشعارات مثل القيم اليهودية والمسيحية، والغرب".
نص هاكابي في حقيقة الأمر يوضح لنا إلى أي مستوى بلغ الاختراق الديني الماورائي للخطوط السياسية التي تدير عالمنا المعاصر، ما يجعلها بحسب نيشين، "وسيطاً غير نزيه في عملية السلام، ولم يكن من المفترض أن تكون كذلك، بل باتت على نحو متزايد الجناح السياسي لرؤية مسيحية كارثية، إسرائيل في مركزها".
فكيف جرى هذا الخلط في التاريخ السياسي الأميركي؟
حقائق علاقة الدين بالحكومة الأميركية
يقدم لنا مركز "بيو" للأبحاث في واشنطن، قراء معمقة قدمها كل من ريبيكا لبيرت وداليا فهمي، عن الخطوط التي تجمع بين الحياة الحكومية الأميركية والدين، وتجعلنا نتيقن من أن الحديث عن حائط أو جدار الفصل الخاص بتوماس جيفرسون أمر غير حقيقي.
بداية يرى نحو أربعة من كل عشرة بروتستانت (39 في المئة) وهم الأكثرية في الداخل الأميركي، أن سياسات الحكومة يجب أن تدعم القيم والمعتقدات الدينية، بينما يرى 25 في المئة فقط أن سياسات الحكومة ينبغي أن تدعم القيم والمعتقدات الدينية. وبينما ترى غالبية الديمقراطيين والمستقلين ذوي الميول الديمقراطية (84 في المئة) والجمهوريون والمؤيدون لهم (61 في المئة) ضرورة فصل الدين عن سياسات الحكومة، فإن الجمهوريين يميلون أكثر بكثير إلى القول إن الحكومة ينبغي أن تدعم القيم الدينية (38 مقابل 16 في المئة).
ومن بين طلاب المدارس العامة في الولايات المتحدة الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و17 سنة، قال 41 في المئة في استطلاع للرأي أجري أخيراً إن من المناسب أن يقود المعلم فصلاً دراسياً للصلاة، بما في ذلك 29 في المئة من المراهقين الذين يعرفون أن هذه الممارسة محظورة، لكنهم قالوا إنها مقبولة على رغم ذلك.
في عام 2023، قضت المحكمة العليا في قضية أخرى تتعلق بالصلاة في المدارس الحكومية، في تلك القضية حكمت المحكمة العليا بأن مدرب كرة قدم في مدرسة ثانوية في بريمرتون واشنطن له حق دستوري في الصلاة وسط الملعب بعد المباريات.
على أن الأمر اللافت للانتباه بقوة في هذا الحديث، هو أنه في حين أن دستور الولايات المتحدة لا يأتي على ذكر الذات الإلهية، فإن جميع دساتير الولايات الأميركية تقريباً تشير إما إلى الله أو الإله، وفقاً لتحليل آخر أجراه معهد "بيو".
تظهر الذات الإلهية في إعلان الاستقلال، وتعهد الولاء، وعلى العملة الأميركية.
وهنا يعن لنا أن نتساءل "هل مقام الرئاسة بدوره بعيد من المراوحة الدينية؟".
تخبرنا حقائق التاريخ أن جميع رؤساء الولايات المتحدة تقريباً مسيحيون، وفيما كانت الغالبية العظمى منهم من البروتستانت، أسقفيين أو مشيخيين، لم يكن لاثنين من أشهر الرؤساء الأميركيين، توماس جيفرسون وإبراهام لينكولن، أي انتماء ديني رسمي.
ولعل من المفارقات الصارخة حول العناصر الدينية العاصفة بالحياة السياسية الأميركية، أن اللحظات الأولى لأي رئيس أميركي يبدأ مباشرة رئاسته، تبدو مليئة بالرموز الدينية.
لقد أدى معظم الرؤساء الأميركيين اليمين الدستورية مع نسخة من الكتاب المقدس، ويختتمون قسمهم التقليدي بعبارة "فليساعدني الله". فيما يرى أكثر من نصف الأميركيين أنه من المهم جداً أن يكون لدى الرئيس معتقدات دينية قوية، حتى لو كانت مختلفة عن معتقداتهم.
ولطالما كان الكونغرس مسيحياً بغالبية ساحقة، ويُعرف نحو تسعة من كل عشرة نواب (88 في المئة) في الكونغرس بمن فيهم 99 في المئة من الجمهوريين، و78 في المئة من الديمقراطيين، أنفسهم كمسيحيين.
وعلى رغم أن الدستور يضمن ألا يكون الدين شرطاً لتولي المناصب، فإن الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ أزمنة بعيدة لم تعرف قيادة غير مسيحية فوق قمة الأجهزة الكبيرة والحساسة، ما يعني أن الأمر أقرب ما يكون إلى العرف الديني من الالتزام السياسي الدستوري.
ممارسات دينية واستقرار
خلال رئاسته التي امتدت من عام 1992 وحتى عام 2000، أشاد الرئيس الأميركي بيل كلينتون بحرية الدين في المدارس، ورفع من مستوى النقاش حول أهمية الدين في الحياة الأميركية، وهو صاحب التصريح الشهير "لقد حان الوقت لإجراء حوار أعمق حول إسهام الدين في رفاهية الأمة".
يوضح المؤرخ الإنجليزي الشهير بول جونسون في كتاباته، أنه لطالما كانت أميركا دولة متدينة، فقد كان سكانها الأوائل حريصين للغاية على شرح ما يفعلونه وأسبابه. كان المستوطنون الأوائل إلى حد ما أشبه ببني إسرائيل القدماء، واعتبر هؤلاء أنفسهم فاعلين في خدمة العناية الإلهية.
ويقطع جونسون بأنه من المتفق عليه عموماً اليوم، أن أكثر من نصف الشعب الأميركي لا يزالون يرتادون أماكن العبادة خلال عطلة نهاية الأسبوع، وهو مؤشر على ممارسة دينية لا مثيل لها في أي مكان في العالم، ولا سيما في دولة كبرى ومكتظة بالسكان.
الصلاة هي جوهر الممارسة الدينية، فالأميركيون يصلون أكثر مما يذهبون إلى الكنيسة. ووفقاً لمسح مركب لمركز "التراث" في واشنطن، فإن 94 في المئة من السود، و91 في المئة من النساء، و87 في المئة من البيض، و85 في المئة من الرجال، يعتبرون أنفسهم من المواظبين على الصلاة. ويصلي نحو 78 في المئة مرة واحدة في الأقل أسبوعياً، ويصلي 57 في المئة يومياً. وحتى بين 13 في المئة من السكان الذي يسمون أنفسهم لا أدريين أو ملحدين، يصلى نحو 20 في المئة منهم يومياً.
لم تعد العناصر الدينية ممثلاً للبعد الروحي أو النسكي في الحياة اليومية للأميركيين، بل مفصلاً مهماً للغاية في الأنساق الاجتماعية اليومية.
بلغ الأمر أنه عندما ينظر اليوم صناع السياسات إلى المشكلات الاجتماعية الخطرة التي تواجهها أميركا، بما في ذلك تلك الجرائم العنيفة وارتفاع معدلات المواليد غير الشرعيين وتعاطي المخدرات والاعتماد على الرعاية الاجتماعية، يتعين عليهم أن يأخذوا في الاعتبار النتائج الواردة في الأدبيات المهنية بمجال العلوم الاجتماعية حول العواقب الإيجابية المترتبة على ممارسة الدين.
على سبيل المثال ترتبط قوة الأسرة ارتباطاً وثيقاً بممارسة الشعائر الدينية. إنهم يميلون إلى الزواج ويقل احتمال انفصالهم أو عزوبتهم، ويميلون أكثر إلى تحقيق مستويات عالية من الرضى في حياتهم الزوجية.
لقد بات عنصر المواظبة على الصلوات الكنسية أحد المقاييس أو المعايير المهمة لدى قطاع واسع من الأميركيين، حتى بين الذين هم خارج سياق التشدد اليميني، وهو أمر له خصوصيته في "دولة علمانية الهوية، مغرقة في الهوى الديني".
هنا يطفو العنصر الديني في سياق الحياة الاجتماعية، ومنها يتسرب إلى مناحي الحياة الأخرى.
يعتبر الباحثون في مؤسسة "التراث" أن الممارسة الدينية المنتظمة تساعد الفقراء على تجاوز الفقر. فالانتظام في حضور الكنيسة على سبيل المثال يسهم بشكل خاص في مساعدة الشباب على التحرر من فقر الحياة في ضواحي المدن.
عطفاً على ذلك تساعد المعتقدات والممارسات الدينية بشكل كبير في تشكيل المعايير الأخلاقية الشخصية، والحكم الأخلاقي السليم، كما أن الممارسة الدينية المنتظمة تعمل بشكل عام على تحصين الأفراد ضد مجموعة من المشكلات الاجتماعية، بما في ذلك الانتحار، وتعاطي المخدرات، والولادة خارج إطار الزواج، والجريمة، والطلاق.
كما أن الممارسة المنتظمة للدين تشجع أيضاً على حدوث تأثيرات مفيدة على الصحة العقلية، مثل انخفاض معدلات الاكتئاب، وزيادة احترام الذات، وارتفاع مستوى السعادة الأسرية والزوجية.
من هذا المنطلق لم يعد الحديث عن البعد الديني في الداخل الأميركي ضرباً من ضروب الرفاهية الفكرية، بل حاجة أساسية بنيوية، ومنها يتسرب من دون أدنى شك إلى بقية الفاعلين السياسيين والفعاليات السياسية في طول البلاد وعرضها.
ما أراده الآباء المؤسسون
اليوم، وفي حضور خطاب هاكابي وغيره من الأصوات الرؤيوية التي تخلط بين ما هو سياسي وما هو ديني، ربما يعن لنا أن نتساءل "هل تم فهم ما ذهب إليه الآباء المؤسسين من فصل بين الدين والسياسة بطريقة خاطئة؟
غالب الظن، والحديث هنا للمؤلف الألماني الشهير جيكو ميللر، في مؤلفه المهم "الصراع على الله في أميركا"، أن الهدف الأصلي للآباء المؤسسين كان منع الحكومة الفيدرالية من إنشاء دين معتمد من قبل الولاية، وليس منع الدين من ممارسة أعماله في الولاية. وقد أوضح توماس جيفرسون هذا التمييز بوضوح تام في قانون فيرجينيا للحرية الدينية، 16 يناير (كانون الثاني) 1786.
وينص القانون على ما يلي "نحن الجمعية العامة لولاية فيرجينيا نقرر أنه لا يجوز إجبار أي رجل على ارتياد أو دعم أي دار عبادة أو مكان خدمة دينية على الإطلاق، ولا يجوز إجباره أو تقييده أو مضايقته أو تحميله أعباء في جسده أو ممتلكاته، ولا يجوز أن يعاني بأي شكل آخر بسبب آرائه أو معتقداته الدينية، ولكن يجب أن يكون جميع الرجال أحراراً في إعلان آرائهم في الأمور الدينية والحفاظ عليها، وهذا لا يقلل بأية حال من الأحوال أو يوسع أو يؤثر في قدراتهم الدينية".
فهل حان الوقت لمراجعة موقع وموضع الدين في أول خطاب وداع لأول رئيس أميركي، ومحاولة فك شفرات العناصر الدينية الكامنة في أبجديات وروح الحياة السياسية الأميركية، لا سيما في مثل هذه الأوقات، والتي تلتبس فيها خطوط الدين الروحانية بخطوط السياسات الأيديولوجية؟
في سبتمبر (أيلول) عام 1796، لخص جورج واشنطن أهمية الدين للأمة الجديدة في خطاب وداعه، وبعد أن رفض البقاء كرئيس للبلاد مرة وإلى نهاية عمره.
قال واشنطن "من بين جميع العادات والتقاليد التي تؤدي إلى الرخاء السياسي، يعد الدين والأخلاق دعامتين لا غنى عنهما". مضيفاً "عبثاً سيطالب الإنسان بحقوق الوطنية إذا سعى جاهداً لتقويض هذه الركائز الأساسية للسعادة الإنسانية. هذه الركائز هي الأمتن لواجبات الإنسان والمواطن. وينبغي على السياسي المحض، على قدم المساواة مع الرجل المتدين، احترامها وتقديرها".
ويصل واشنطن إلى جزئية مهمة في شرحه بالقول "يمكن أن تكون السياسة مراعية للممارسة الدينية العامة، وللأديان المختلفة في مجتمع تعددي، من دون أن يعني ذلك بأي شكل من الأشكال تأسيس دين معين".
ولعل من المفارقات القدرية أن جورج واشنطن وقبل نحو 225 سنة، دعا الكونغرس الأميركي ومجلس الشيوخ تحديداً إلى أن يقود نقاشاً وطنياً جديداً حول الدور المتجدد للدين في الحياة الأميركية.
هل من خلاصة؟
يبدو أن خطاب هاكابي أعاد مرة أخرى إلى مائدة النقاش دور الدين في الحياة السياسية الأميركية، لا سيما أن هناك صعوداً ملحوظاً للروح اليمينية ضمن إدارة الرئيس ترمب الجديدة، بل إن هناك من التوجهات ما يحمل على القطع بأن عودة أخرى إلى رؤيويات رونالد ريغان تجري بها المقادير. فماذا نعني بذلك؟
باختصار غير مخل، وكما هو معروف، فقد كان غلاة التيار اليميني المسيحي الأميركي في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، من أمثال جيري فالويل وبات روبرتسون ومن لف لفهم، هم الذين أقنعوا الرئيس الجمهوري بأن عليه تجهيز أميركا للحرب النهائية مع قوى الشر التي يمثلها الاتحاد السوفياتي، ولهذا دعا ريغان عام 1983 إلى بناء منظومة حرب النجوم أو حرب الكواكب، والتي تم إغفالها لاحقاً بعد تفكيك حلف وارسو وسقوط الاتحاد السوفياتي.
تأثير العنصر الديني في إدارة ترمب، يبدو أنه اليوم يتجاوز خطاب هاكابي، على رغم أنه يدفع في طريق أبوكاليبسي منحول، في الخارج. أما في الداخل فها هو ترمب يمضي من جديد في إطار القبة الذهبية التي تهيئ أميركا لمعركة هرمجدون.
فهل سقط جدار جيفرسون، أم أنه لم يكن هناك من الأصل؟