ملخص
إن اندلاع أي اضطراب في الجهة الشرقية يُترجم مباشرة إلى غلاء مفاجئ، وشح في البضاعة، وإشاعات ترتجف لها الأسواق. فإلى أي مدى كشفت الحرب الأخيرة عن عمق الاعتماد العراقي على إيران اقتصادياً؟
"حربهم، جوعتنا"... يقول أبو سجاد وهو يمد يده إلى رف فارغ في سوق الشورجة وسط العاصمة بغداد. فـ"المعركة بين إسرائيل وإيران بدأت قبل أيام فقط، لكن نارها وصلت إلى موائدنا بسرعة. الأسعار صعدت فجأة، بخاصة للبضائع الإيرانية لأنها تقريباً كل السوق. فجأة بدأوا يقولون: المخازن قربت تخلص، وصارت الأسعار بيد المحتكرين".
مر أكثر من عشرة أيام على تصاعد المواجهة بين إسرائيل وإيران، وحتى قبل أن تنزاح الصواريخ المارة عبر سماء العراق، كانت قلوب المواطنين قد امتلأت بالخشية في بلد يستورد من إيران كل شيء تقريباً، الغذاء والدواء والكهرباء وحتى الهواء الساخن الذي يندفع عبر المراوح، لذا فإن اندلاع أي اضطراب في الجهة الشرقية يُترجم مباشرة إلى غلاء مفاجئ، وشح في البضاعة، وإشاعات ترتجف لها الأسواق.
ومع غياب بيانات حكومية دقيقة في الأيام الأولى، بدأت التصريحات الرسمية تلمح إلى "أخذ الاحتياطات"، ثم "تشديد الرقابة". وأعلنت وزارة التجارة الأربعاء الماضي، عن خطة شاملة لتعزيز الأمن الغذائي في البلاد على خلفية التوترات الإقليمية.
وقال المتحدث باسم الوزارة محمد حنون، إن "الغرض من إعلان الخطة هو تعزيز قدرة الدولة على مواجهة أية اضطرابات محتملة في الإمدادات الغذائية، وضمان استمرارية تجهيز المواد الأساسية من دون انقطاع أو ارتفاع مفرط في الأسعار".
هذه الحرب، وإن كانت بعيدة من الحدود، لكنها مرآة لكل ما هو هش في الداخل العراقي: اعتماد عميق على الخارج، غياب استراتيجيات إنتاج وطنية، وأسواق يحركها الخوف أكثر من السياسة.
الاعتماد يراكم الفشل
يصف المحلل الاقتصادي نوار السعدي مشهد السوق العراقية، بأنه "انعكاس لعجز منهجي معتمد بشكل غريب على مهارات وأيادي إيران العاملة"، موضحاً "حين تختنق الأسواق يظهر لك السؤال عن البدائل المحلية مدى عمق الاعتماد، وهو أن العراق يعتمد على إيران في كل ما هو يومي وأساسي، الغذاء والكهرباء والأدوية ومواد البناء. هذه هشاشة تنكسر يوماً وتولد حطاماً للجميع".
ويضيف لـ"اندبندنت عربية"، "المفارقة الأوضح ظهرت في صيف 2023، عندما شهد هور الحويزة في الجنوب العراقي نفوقاً واسعاً للأسماك بسبب انخفاض مناسيب المياه. الناشطون خرجوا مطالبين الحكومة بإطلاق كميات إضافية من المياه لإنقاذ الثروة السمكية، لا سيما أن الهور مصدر رزق لآلاف العائلات. لكن شيئاً لم يتحقق، لا استجابة ولا خطة أو حتى اعتراف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والنتيجة، بحسب السعدي، أنه بعد أسابيع قليلة فقط من نفوق الأسماك أعلنت وزارة الزراعة نيتها استيراد كميات من الأسماك من إيران لتغطية العجز في السوق. وفي بيان نُشر في سبتمبر (أيلول) 2023، قالت الوزارة إنها تسعى لـ"ضبط أسعار الأسماك بسبب الشح"، من دون أية إشارة للمأساة البيئية التي سبقت القرار، أو لضحاياها من الصيادين المحليين الذين ماتت شبكاتهم قبل أسماكهم. جاء القرار كأن شيئاً لم يحدث، من دون أن يسبقه تحقيق في أسباب النفوق، أو دعم للمتضررين، أو حتى مراجعة للسياسات المائية التي أوصلت الأهوار إلى هذه المرحلة.
"نحن بلد يُهمل ما لديه ثم يعود ليشتريه من جارٍ آخر". يقول السعدي، مضيفاً "لم تكن الأسماك فقط، الطماطم أيضاً، والبيض، والألبان، وحتى النخيل. كلها ماتت في صمت، وتم تعويضها بفاتورة استيراد جديدة، من دون أن نسأل: لماذا؟ ومن المسؤول؟".
يستورد كل شيء
تنهار القطاعات، وتأتي على شكل إهمال مزمن، والكارثة متدرجة، ثم رد فعل متأخر، وأحياناً لا يأتي. لم يضيع العراق، على مدى السنوات الماضية، فرصة تراجع إلا واستثمرها في مزيد من الاعتماد. وبدل أن يُصلح قطاعه الصناعي والغذائي، ذهب إلى الأسواق الإيرانية باحثاً عما يمكن أن يُنتَج هنا، فيُشترى من هناك.
يقول المحلل الاقتصادي، إن الواردات الإيرانية أضعفت قدرة العراق على بناء قطاعه الخاص. وبدل أن تنهض الدولة بمصانع الألبان ومعامل الأغذية والمزارع الوطنية، تبنت تبعية تجارية تجاه طرف واحد، فخسرت المسارين: الإنتاج، والسيادة الغذائية.
ويتابع السعدي "هناك ارتباط طويل الأمد بين ضعف الإنتاج المحلي، وتضخم الاعتماد على الاستيراد الإيراني، حيث إن هذا الاعتماد حرم العراق من فرص إعادة بناء قطاعه الخاص، وخصوصاً الصناعات الغذائية والزراعية".
"المؤسسات الرسمية تمسكت بخيارات سياسية واقتصادية وقررت تأجيل الحل. لهذا، حين تتحدث الحكومة عن دعم المنتج المحلي، فإن المتلقي لا يثق كثيراً بمنتوجه الوطني لقلة التركيز عليه، وأحياناً لضعف جودته مقارنة بما يأتي من خارج الحدود"، هكذا يرى السعدي، مؤكداً أنه مهما حاولت المصانع أن تنتج، فإنها تعمل بنصف طاقتها، وأحياناً أقل، لأن السوق محجوزة سلفاً للبضائع المستوردة. المنتج المحلي يواجه منافسة غير عادلة، من حيث الأسعار، والدعم، وشبكة التوزيع. ومع كل شحنة جديدة تمر من المنافذ الحدودية، تتراجع فرص عشرات المصانع الصغيرة في البقاء.
الهيمنة بالأرقام
بحسب محمد رضا بني طبا، المتحدث باسم جمعية صناعات الألبان الإيرانية، فإن منتجات الألبان الإيرانية وصلت خلال النصف الأول من العام الحالي إلى39 دولة، وكانت العراق الوجهة الأولى من حيث العائد المالي، مستحوذة على58 في المئة من القيمة و30.5 في المئة من الحجم الكلي للصادرات. كذلك فإن80 في المئة من صادرات الألبان الإيرانية المتجهة للخارج تذهب إلى العراق، ثم باكستان وأفغانستان، بحسب الجمعية الصناعية الإيرانية.
ولا تقتصر السيطرة الإيرانية على قطاع الأغذية وحده. فالعراق يُعد مستورداً رئيساً للسلع غير النفطية من إيران، بقيمة تقدر بـنحو 20 مليار دولار سنوياً. وفي الأشهر الأولى فقط من العام الحالي – مارس (آذار)، مايو (أيار)، بلغت واردات العراق1.5 مليار دولار، وفق بيانات مصلحة الجمارك الإيرانية.
أما على مستوى قطاع الألبان تحديداً، فقد بلغت صادرات إيران381 مليون دولار خلال الفترة ذاتها، بوزن وصل إلى 281 ألف طن، ما يمثل زيادة بنسبة16.4 في المئة بالقيمة و17.3 في المئة بالحجم مقارنة بالعام السابق.
وبالنظر إلى البيانات العراقية، يلاحظ البنك المركزي أن الواردات العراقية ارتفعت بنسبة 158.1 في المئة خلال الربع الأول من عام 2024 مقارنة بالفترة نفسها من 2023، مع ارتفاع السلع الاستهلاكية بنسبة 93 في المئة، مقابل انخفاض طفيف في واردات المنتجات النفطية.
خلال ثمانية أشهر فقط، بلغت قيمة الصادرات الإيرانية إلى العراق نحو 8 مليارات دولار، بحسب تقارير التجارة الخارجية الإيرانية، فيما سجل شهر واحد فقط - بين 22 سبتمبر (أيلول) و21 أكتوبر (تشرين الأول) 2024 - رقماً قياسياً بقيمة2.78 مليار دولار.
صادرات العراق الخجولة
يقول م. س، وهو مصدر من وزارة التجارة العراقية يفضل عدم ذكر اسمه، أنه أعيد تشغيل أكثر من5600 مصنع في العراق خلال العامين الماضيين ضمن برنامج حكومي لإحياء المنتج المحلي في قطاعات متنوعة تشمل تصنيع الغذاء ومواد البناء والدواء، لكنها كانت بالكاد تكفي لسد حاجة السوق. وبعضها يعمل بأقل من طاقته القصوى بسبب ضغوط السوق على المصنع المحلي بشكل مستمر.
نتيجة المخاوف الشعبية من نقص السلع بسبب توتر الوضع في إيران، ظهرت وزارة التجارة العراقية وأكدت أن المخزون الاستراتيجي من الحبوب والقمح يكفي لتغطية الاستهلاك المحلي لمدة ستة أشهر، وأن البلاد حققت الاكتفاء الذاتي من مادة الحنطة منذ ثلاث سنوات. "الدولة تملك الاكتفاء لبعض المنتجات، لكنه غير كاف لديمومة سوق الإنتاج، وأقل أزمة تكشف ذلك، وتزداد الأسعار ويستغل التجار الأمر لإيجاد بدائل فورية، وإلا سندخل دوامة تضخم صامت"، يبين المصدر.
وفق منصة OECكانت الصادرات العراقية الإجمالية لإيران عام 2022 تقدر بنحو 457 مليون دولار، غالبها من الحبوب والخامات المعدنية، مقارنة بإيرادات7.34 مليار دولار من واردات إيران طوال العام نفسه.
العراق استورد ثلث صادرات إيران الزراعية والغذائية خلال تسعة أشهر، بنحو1.405 مليار دولار من أصل4.312 مليار إجمالي. وتقريباً كان هذا الرقم هو الأكبر بين سنوات التعاون العراقي- الإيراني التجاري.
منذ عام 2003 ومع سقوط النظام السابق، بدأت العلاقات بين العراق وإيران تأخذ مساراً تصاعدياً، لكن نقطة التحول الحقيقية ظهرت في 2005، حين أجرت بغداد وطهران أولى الاتفاقيات الرسمية لتوريد الغاز والكهرباء، ضمن خطة تهدف إلى دعم البنى التحتية في العراق التي دمرتها حرب السنوات السابقة.
منذ ذلك الحين، ازدهر التعاون الاقتصادي بشكل كبير. ففي غضون العقدين الماضيين ارتفعت صادرات إيران للعراق15 مرة، من نحو600 مليون دولار في 2003 إلى أكثر من 10 مليارات دولار خلال عام واحد.
ما الذي يستورده العراق؟
من بين كل ما يستورده العراق من إيران يتصدر الحديد الخام القائمة، إذ بلغت قيمة واردات عروق الحديد Raw Iron Bars وحدها نحو820 مليون دولار عام 2022، بحسب بيانات مرصد التجارة الدولي. في وقت تشهد السوق المحلية ضعفاً في إنتاج المواد الأولية.
بعد ذلك يأتي الغاز الطبيعي المُسال، الذي بلغت وارداته من إيران نحو795 مليون دولار، ما يجعل العراق مكشوفاً بشكل حاد في ملف الطاقة، خصوصاً أن أكثر من 60 في المئة من محطات الكهرباء تعمل بالغاز الإيراني، بحسب تقارير رسمية.
ولا يقتصر الاستيراد على البُنى التحتية والطاقة، فالعراق يستورد أيضاً كميات ضخمة من السيراميك والبلاط غير المزجج المستخدمين في التبليط والبناء. وفي مجال الزراعة والغذاء تظهر إيران بوصفها الشريك الأول، إذ تُشير تقارير إيرانية إلى أن العراق كان الوجهة الرئيسة للفواكه والخضر الإيرانية خلال العام الماضي، بما في ذلك الطماطم والتفاح والبطيخ، وهي منتجات تُشكل أحياناً أكثر من30 في المئة من صادرات إيران الزراعية.
أما على مستوى الاستهلاك اليومي، فيكاد لا تخلو سوق عراقية من أجهزة كهربائية منزلية، ومكيفات، وإطارات سيارات، وقطع غيار مستوردة من إيران يتم تسويقها باعتبارها خياراً "متوسط الكلفة والجودة"، لكنها تفرض حضوراً شبه حصري في ظل غياب صناعة وطنية قادرة على المنافسة.
الغاز الإيراني... القنبلة الموقوتة
بحسب المحلل الاقتصادي أمجد الغزي، فإن مجمل الاستيراد من إيران يمكن أن يكون ممكناً وقادراً على الاستبدال، لكن القنبلة الموقوتة التي ستظهر نتائجها بشكل كارثي على الشعب والحكومة ذاتها هي استيراد الغاز. موضحاً "منذ عقود، بات الغاز الإيراني قلب محطات الكهرباء العراقية، ولا سيما خلال الصيف، حين ترتفع الحاجة إلى الطاقة بشكل كبير. لكن هذه التبعية تسببت في هشاشة كبيرة لأنظمة توليد الطاقة، وأضحت تهدد صلاحية الكهرباء في البلاد".
ويضيف لـ"اندبندنت عربية"، "في مارس (آذار) 2024 تم توقيع اتفاقية لمدة 5 سنوات تمنح إيران الحق بتزويد العراق حتى50 مليون متر مكعب من الغاز يومياً، بكلفة سنوية تتراوح بين 4 – 5 مليارات دولار. هذه الصفقة لم تساعد الدولة مطلقاً على تعويض نقص البنية التحتية المحلية فحسب، وإنما وضعت أمنها الطاقي تحت رحمة أزمات إقليمية".
بحسب وزير الكهرباء زياد علي فاضل، يعتمد العراق على الغاز الإيراني بنسبة تقارب 40–60 في المئة من إجمالي توليده الكهربائي. أي انقطاع يعادل خسارة قدرها 3500 – 8000 ميغاواط من الطاقة المولدة، ما يؤدي فوراً إلى انقطاعات واسعة وانتكاسات اجتماعية. في مارس ومايو 2025 قلصت إيران الإمداد إلى نحو 20 مليون متر مكعب يومياً، أي أقل من النصف، ما أسهم بخسارة تقارب5500 ميغاواط في توليد الكهرباء الوطني، ما أثر بشكل مباشر في مناطق تشمل بغداد والفرات الأوسط. وتم خفض الإمداد مرات عدة للضغط الداخلي أو لأسباب غير معلنة، ما دفع بغداد إلى اللجوء إلى استيراد وقود طارئ مثل الديزل، وتجربة محطات عائمة لتخفيف الأخطار.
كانت أوجه القصور في إدارة منظومة إنتاج الطاقة واضحة منذ سنوات، بدءاً من محطات توليد الكهرباء، مروراً بشبكات النقل التي توصل الكهرباء إلى مراكز السكان، وصولاً إلى شبكات التوزيع النهائية للمستهلكين. يقول الغزي، إن الوزارة كانت تخطط لرفع القدرة الإنتاجية إلى 27000 ميغاواط لصيف 2025، لكن نقص الوقود أفشل هذه الخطة، مما أدى إلى تراجع القدرة الحقيقية إلى ما دون 23000 ميغاواط. إن محطات الكهرباء العراقية تعتمد على مزيج من الغاز المحلي والمستورد، ومن دون الغاز الإيراني فإن المنظومة تتوقف فعلياً عن العمل.
في 13 يونيو (حزيران) 2025، شنت إسرائيل ضربات على منشآت الطاقة الإيرانية وصفت بأنها "استهداف لحقل South Pars العملاق"، والمرحلة 14 من الحقل البحري الذي يشكل جزءاً رئيساً من إمدادات الغاز الإيرانية الداخلية والخارجية. هذه الضربات أدت إلى إيقاف إنتاج نحو12 مليون متر مكعب في اليوم من الحقل، مما يعني نقصاً في قدرة تصدير الغاز. يقول الغزي "إذا استمرت الضربات أو تكررت الصواريخ على South Pars أو منشآت الغاز الإقليمية، أو حدث أي عطل تقني، فإن الضربة قد تفقد العراق آلاف الميغاواط، ما يعرضه لعواصف تقنين كهربائي حادة، ثم صيف مظلم يفضح هشاشة فكرة الاستيراد الكلي.