Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تغلغل وديناميكيات شرعنة الإرهاب في الساحل الأفريقي

تقوم الأنظمة العسكرية الانقلابية بتوظيف الخطر المتطرف لتبرير بناء أنظمة أمنية مغلقة

أفرزت الانقلابات العسكرية المتتالية في منطقة الساحل الأفريقي، فراغاً أمنياً واستراتيجياً بالغ الخطورة اندبندنت عربية)

ملخص

تظهر التجربة السياسية والأمنية في دول الساحل، تطوراً لافتاً في العلاقة بين الأنظمة العسكرية الانقلابية والجماعات الإرهابية المسلحة، يتجاوز منطق المواجهة الكلاسيكية إلى ما يشبه التوظيف المتبادل والتحالف الضمني في سياق صراع مركب على السلطة والشرعية.

شهدت منطقة الساحل الأفريقي، تحديداً دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو، سلسلة متوالية من الانقلابات العسكرية خلال الأعوام الأخيرة، كشفت عن عمق الهشاشة البنيوية في نظم الحكم، وأعادت للواجهة إشكالية الدولة ما بعد الاستعمار في أفريقيا. ففي مالي، كانت البداية في أغسطس (آب) عام 2020 حين أطاح عسكريون، بقيادة العقيد أسيمي غويتا، بالرئيس المدني إبراهيم بوبكر كيتا، في انقلاب جاء على خلفية احتجاجات شعبية واسعة ضد الفساد وسوء إدارة الحرب على الجماعات المسلحة. ثم أعقب ذلك انقلاب ثانٍ في مايو (أيار) 2021 أزاح الحكومة الانتقالية التي شكلها العسكريون أنفسهم، إثر إقدام رئيس الحكومة الانتقالية باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان، على إجراء تعديلات لبعض الوزارات التي كان يشغلها العسكريون (وزارتا الدفاع والأمن)، مما كرس هيمنة المؤسسة العسكرية على السلطة.

أما في بوركينا فاسو، فأطاح الجيش في يناير (كانون الثاني) عام 2022 بالرئيس المنتخب روش مارك كريستيان كابوري، متذرعاً بفشله في التصدي لتصاعد الهجمات الإرهابية التي شلت الحياة في مناطق واسعة من البلاد. ولم يدُم استقرار الحكم العسكري طويلاً، إذ أطاح ضباط آخرون في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه بالرئيس العسكري الانتقالي بول هنري سانداوغو داميبا، وحل محله النقيب إبراهيم تراوري الذي لا يزال يتولى السلطة.

وفي النيجر، مثّل انقلاب يوليو (تموز) عام 2023 صدمة سياسية وأمنية واسعة، إذ أطاح الحرس الرئاسي بقيادة الجنرال عبدالرحمن تشياني بالرئيس المدني المنتخب محمد بازوم في سابقة لافتة، بالنظر إلى أن النيجر كانت تعد آخر حليف ديمقراطي موثوق للغرب في منطقة الساحل. وبرر الانقلابيون تحركهم بفشل الحكومة في التصدي للتمردات المسلحة وبالادعاء بحماية "أمن الدولة ووحدتها الوطنية".

تتعدد أسباب هذه الانقلابات، غير أن القاسم المشترك بينها هو فشل الحكومات المدنية في إدارة الأزمات الأمنية والاقتصادية، وسط تصاعد النقمة الشعبية ضد النفوذ الفرنسي الذي ارتبط في أذهان كثير من المواطنين المحليين بالفشل والتبعية. كما أسهمت طبيعة النظم السياسية الضعيفة والمؤسسات العسكرية القوية والمهيمنة، في توفير بيئة مناسبة لتقديم الجيوش نفسها كقوة إنقاذ وطنية. وتعكس هذه الانقلابات فشلاً مستمراً في مشروع بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال، وتكشف عن تحديات عميقة في شرعية السلطة وإعادة تعريف دور الدولة في منطقة تموج بالعنف والتدخلات الخارجية والانقسامات الاجتماعية.

انحسار الرقابة

أفرزت الانقلابات العسكرية المتتالية في منطقة الساحل الأفريقي فراغاً أمنياً واستراتيجياً بالغ الخطورة، تحول إلى بيئة مثالية لنمو الجماعات الإرهابية وتوسع نفوذها الجغرافي والتكتيكي. فعندما استولى العسكريون على السلطة في هذه الدول، انتقل تركيزهم من جبهات القتال ضد التمردات المسلحة إلى الداخل السياسي، حيث انشغلت السلطات الجديدة بإعادة هيكلة المؤسسات وتثبيت أركان الحكم وتهميش النخب المدنية، في سياق داخلي بالغ التعقيد. وهذا التحول في الأولويات سمح للجماعات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم "داعش في الصحراء الكبرى" و"جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، بإعادة ترتيب صفوفها، وتنفيذ عمليات نوعية في مناطق كانت سابقاً تحت سيطرة نسبية للجيش أو القوات الأجنبية.

هذه التطورات أدت إلى تراجع التنسيق الاستخباراتي مع القوى الغربية، خصوصاً بعد انسحاب القوات الفرنسية من مالي عام 2022، ثم من بوركينا فاسو والنيجر لاحقاً، مما أدى إلى فقدان تلك الدول للغطاء الجوي والدعم اللوجستي والتقني الذي كانت تعتمد عليه بصورة كبيرة. ومع غياب المراقبة، باتت الجماعات الإرهابية تتحرك بحرية أكبر، وتعيد التمركز في مناطق التعدين والممرات الصحراوية وحتى قرب المراكز الحضرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما أن الانقلابات ضربت مصداقية الشراكات الدولية طويلة الأمد، فجمدت الولايات المتحدة وأوروبا جزءاً كبيراً من مساعداتها الأمنية والتنموية، مما عمق العجز المالي والبشري لدى القوات المسلحة في تلك الدول. في هذا السياق، أصبح من المعتاد أن تسيطر الجماعات المتطرفة على قرى بأكملها في شمال مالي أو شرق بوركينا فاسو، أو أن تفرض إتاوات على السكان المحليين في ظل غياب الدولة. وهذه التحولات لا تعني فقط نمو الإرهاب، بل تعني كذلك تفكك النظام الإقليمي للأمن وانكشاف العمق الاستراتيجي لغرب أفريقيا، مما قد يمهد لصعود كيانات مسلحة هجينة تتغذى على انهيار الشرعية، وتعيد إنتاج النموذج السوري أو الليبي بصيغة أفريقية أكثر مرونة وخطورة.

شراكة اضطرارية

تظهر التجربة السياسية والأمنية في دول الساحل تطوراً لافتاً في العلاقة بين الأنظمة العسكرية الانقلابية والجماعات الإرهابية المسلحة، يتجاوز منطق المواجهة الكلاسيكية إلى ما يشبه التوظيف المتبادل والتحالف الضمني في سياق صراع مركب على السلطة والشرعية. فوسط واقع هش ومتشظٍ، حيث تتآكل مفاهيم الدولة الحديثة وتتداخل شبكات العنف النظامي وغير النظامي، بات واضحاً أن بعض الأنظمة العسكرية تجد في الجماعات الإرهابية أداة غير مباشرة لتصفية خصومها الداخليين، أو في الأقل لإعادة رسم معادلات القوة داخل المؤسسة العسكرية والدولة.

وتشير تقارير صادرة عن مراكز أبحاث مثل "أفريكا كونفيدنشال" إلى حالات موثقة في مالي وبوركينا فاسو، جرى خلالها غض الطرف عن تحركات الجماعات المتطرفة في مناطق معينة، في مقابل سحبها من مناطق استراتيجية أو اقتصادية، أو منعها من استهداف مواقع عسكرية أساسية. وبرز ذلك بعد محاولات انقلاب فاشلة ضد النقيب إبراهيم تراوري في بوركينا فاسو، حيث أُشير إلى أن بعض الفصائل داخل الجيش اتهمت القيادة بالتواطؤ أو بتساهل مريب مع عناصر متطرفة، ولا سيما في شمال البلاد.

وفي مالي، تكررت الإشارات إلى استخدام الحكومة الانقلابية التحالفات المحلية مع جماعات مسلحة، بعضها كان في الأصل متمرداً أو ذا صلة بتنظيمات متشددة، لضبط مناطق خارجة عن سيطرة الدولة.  وفسرت هذه السياسة بوصفها تكتيكاً قصير المدى يهدف إلى تأمين الجبهة الداخلية ضد تمردات مناوئة للقيادة العسكرية، في وقت تعاني الجيوش من انقسامات حادة.

وهذا النمط من الاستعانة غير المعلنة بالجماعات الإرهابية يعكس محاولة مستترة من الأنظمة العسكرية لصناعة "توازنات قوة مرنة"، تتيح لها البقاء في الحكم تحت ذريعة مواجهة "عدو خارجي مشترك"، بينما ما يحصل في الواقع إعادة توزيع النفوذ داخل الدولة. كما أن هذا التحالف الضمني يعزز من هشاشة الدولة على المدى الطويل، ويؤسس لنموذج سياسي شديد الخطورة تتحول فيه الجماعات المتطرفة من خصم إلى "شريك اضطراري"، في معادلة لا تخدم الأمن القومي، بل تؤسس للعنف كوسيلة لإدارة الحكم.

تحالف تكتيكي

تتجاوز دينامكيات شرعنة الإرهاب في مالي وبوركينا فاسو والنيجر حدود التواطؤ الضمني أو التحالف التكتيكي مع الجماعات المسلحة، لتصل إلى تحولات عميقة في البنية السياسية والاجتماعية والأمنية تسهم في إعادة تعريف العنف المتطرف بوصفه فاعلاً مشروعاً أو مقبولاً ضمنياً في بعض السياقات. أولاً، الانهيار التدريجي لسلطة الدولة في الأطراف، فوسط غياب الدولة في أجزاء واسعة من الريف والمناطق الحدودية، ملأت الجماعات المتطرفة هذا الفراغ بتقديم "خدمات موازية"، كالعدالة المحلية أو الأمن أو حتى توزيع الموارد، مما منحها نوعاً من القبول المجتمعي، ليس دعماً لأيديولوجيتها بل كبديل عن انعدام البدائل. وبهذا، تُشرعن الجماعات المسلحة تدريجاً كفاعلين غير رسميين في إدارة الشأن المحلي.

ثانياً، مع تصدع الخطاب الرسمي وتحوله نحو لغة مزدوجة، وتزايد الضغط على الأنظمة العسكرية من الداخل والخارج، بدأت هذه الأنظمة تتبنى خطاباً براغماتياً يخفف من حدة العداء العلني للجماعات الإرهابية، مقابل دعوات إلى الحوار أو "التهدئة". وتحدث قادة عسكريون في مالي وبوركينا فاسو عن "فتح قنوات مع مقاتلين محليين" أو "الفصل بين المتشددين الأجانب وأبناء البلد"، وهي مقاربات تعيد تشكيل صورة العدو وتخلق منطقة رمادية تسهم في شرعنة بعض الجماعات.

ثالثاً، توظيف الهويات الدينية والإثنية، إذ تلعب الجماعات الإرهابية على توتر الهويات في المنطقة، فتتغلغل داخل مجتمعات مهمشة إثنياً (مثل الفولاني والطوارق)، مقدمة نفسها كحامية لحقوقهم أو كرافعة لكرامتهم المهدورة. وفي المقابل، تغض الأنظمة العسكرية الطرف عن هذا التمدد، خصوصاً حين تستفيد منه في تهميش قبائل أو مناطق تشكل تهديداً لحكمها.

رابعاً، تآكل شرعية الدولة وانتقال مفاهيم "المشروعية" إلى الفعل. فعندما تفقد الدولة سيادتها على الأرض وتفشل في تحقيق الحد الأدنى من الأمن والعدالة، تنتقل المشروعية من القانون والمؤسسات إلى القدرة على الفعل، من يحكم الواقع هو صاحب الشرعية. في هذا الإطار، تُشرعن الجماعات الإرهابية عبر سيطرتها الفعلية وقدرتها على فرض النظام بالقوة، لا عبر خطابها العقائدي.

سيناريوهات محتملة

 في ضوء التفاعلات المركبة بين الانقلابات العسكرية والجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، تتبدى سيناريوهات استراتيجية محتملة عدة.

السيناريو الأول، الانكماش السيادي وصعود كيانات هجينة، وفيه تتحول مناطق واسعة من مالي وبوركينا فاسو والنيجر إلى مناطق "رمادية"، تحكم فعلياً من قبل جماعات مسلحة، تتبنى خطاباً دينياً أو إثنياً، وتفرض أنظمة محلية بديلة عن الدولة المركزية. ولا تكون هذه الكيانات مجرد فروع لتنظيمات عابرة للحدود، بل مؤسسات محلية هجينة تدير الموارد وتفرض الضرائب وتبرم صفقات غير رسمية مع السلطة المركزية. ويشبه هذا النموذج "داعش" في بداياته، لكنه أقرب إلى ما تنبأ به صمويل هنتنغتون من تشظٍّ سياسي قائم على الهويات.

والسيناريو الثاني، العسكرة المتوحشة وبناء أنظمة استبدادية "مؤدلجة"، فتقوم الأنظمة العسكرية الانقلابية بتوظيف الخطر الإرهابي لتبرير بناء أنظمة أمنية مغلقة، تخضع الدولة والمجتمع تحت شعارات مكافحة الإرهاب وحماية السيادة. ومع مرور الوقت، تتماهى "الدولة" مع "الجهاز العسكري"، ويجري تأطير العلاقة مع الجماعات الإرهابية وفق سياسة "الإدارة بالحرب الدائمة"، تماماً كما فعلت أنظمة في أميركا اللاتينية خلال الحرب الباردة. هنا، الإرهاب لا يهزم، بل يدار.

والثالث، سيناريو التدخل الخارجي متعدد الأقطاب، ويحدث بفعل هشاشة الأنظمة وتصاعد الخطر الإرهابي، فمن الممكن أن تتحول منطقة الساحل إلى ساحة تنافس جيوسياسي بين روسيا (عبر "فاغنر" أو بدائلها) والصين (من خلال الحزام والطريق والموارد) والغرب الباحث عن موطئ قدم جديد، مما قد يؤدي إلى تثبيت الوضع القائم، عبر دعم أنظمة انقلابية مقابل منع سقوطها بيد الجماعات المسلحة، في تكرار لمعادلة "الاستقرار مقابل الشرعية".

أما السيناريو الرابع، فهو التفاوض والدمج السياسي للجماعات المتطرفة، إذ إنه تحت ضغط الواقع، قد تتجه الأنظمة العسكرية إلى فتح قنوات تفاوض معلنة أو غير معلنة مع الجماعات المتشددة بهدف دمجها في ترتيبات الحكم المحلي أو منحها نوعاً من الحكم الذاتي مقابل وقف العمليات المسلحة. وسيؤدي ذلك إلى إعادة تعريف الإرهاب ذاته، وتحويله من تهديد إلى مكون في المشهد السياسي، كما حدث مع حركة "طالبان" أو بعض الميليشيات العراقية.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير