Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين تستهدف الضربة الثقة لا البنية التحتية فقط

توقيت الغارات تحت جنح الظلام يربك الدفاعات ويضخم الأثر النفسي والإعلامي

الهجمات الليلية غالباً ما تنفذ لدوافع رمزية ونفسية تتعمد إرباك المجتمع المستهدف (رويترز)

 

ملخص

الظلام يوفر غطاءً فعالاً للطائرات المسيرة والأجسام الطائرة، إذ تنخفض البصمة الحرارية والبصرية في الليل، حتى على أنظمة الرصد المتقدمة والأقمار الاصطناعية، مما يصعب من عملية اكتشافها ويمنحها هامشاً أوسع للوصول إلى أهدافها دون اعتراض. ويضيف أن التصوير الفضائي يصبح أكثر فاعلية خلال ساعات النهار، بينما يتراجع نشاط الأقمار الاصطناعية ليلاً، وهو عامل مساعد آخر يعزز فرص نجاح الضربات الليلية.

بينما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب مساء أمس انتهاء الحرب بقيت مشاهد الضرب الإيراني حاضرة في ذاكرة الأسبوعين الماضيين، حين اختارت طهران ظلمة الليل لتوجيه ضرباتها الجوية تجاه إسرائيل، وكأنها أرادت أن تبقي أثرها الأخير عالقاً في السكون.

فعلى امتداد الأسبوعين الماضيين تحولت سماء الشرق الأوسط إلى مسرح ميداني مفتوح، بعدما تطورت المواجهة بين طهران وتل أبيب إلى تبادل مباشر للغارات استخدمت فيه إيران الطائرات المسيرة والصواريخ، واخترقت من خلاله الأجواء الإقليمية المحيطة.

الضربات الإيرانية كانت تتركز في ساعات الليل المتأخرة، وهو توقيت لم يكن عشوائياً، بل تكرر على نحو لافت، مستهدفاً المجال الجوي الإسرائيلي حين تكون حركة الرصد أضعف، مما استدعى تفعيل الإنذارات في مدن كبرى مثل القدس وتل أبيب، وفتح الملاجئ للسكان في أوقات الذعر.

اختيار الليل كساحة دائمة للهجوم يثير أسئلة تتجاوز الجانب العسكري ليصل إلى ما هو أبعد: هل كان الهدف فقط التمويه والمباغتة أم أن الضربات الليلية كانت رسالة نفسية وميدانية معاً؟ وهل كانت طهران تدير معركتها الأخيرة من موقع تكتيكي محدود أم ضمن استراتيجية محسوبة تقيس التأثير بالصوت والصدى لا بعدد الصواريخ؟

وفي حين تشير واشنطن إلى أن العمليات العسكرية قد توقفت رسمياً فإن الذاكرة القريبة لا تزال تختزن صورة الحرب كما أرادتها طهران: صامتة، مباغتة، وموقعة على أوراق الليل.

دلالات نفسية عميقة

قد يخيل للبعض أن توقيت الضربات العسكرية في الليل يحمل دلالات تكتيكية محضة تتصل بقدرات الرصد والمباغتة، إلا أن أبعاد هذا الخيار تتجاوز الحسابات العسكرية لتبلغ عمقاً نفسياً بالغ التأثير، كما يشير استشاري الطب النفسي الدكتور عبدالله المضيان، الذي يؤكد أن "الهجمات الليلية غالباً ما تنفذ لدوافع رمزية ونفسية تتعمد إرباك المجتمع المستهدف".

وعلى رغم أن الأثر الفيزيائي للضربات قد لا يختلف كثيراً بين الليل والنهار، فإن وقعها في ساعات السكون له تأثير مضاعف. ففي حين يمثل الليل وقتاً للراحة والانفصال عن التهديدات، فإن استهدافه عسكرياً يزرع شعوراً عميقاً بأن الخطر قد يدهمك في أكثر لحظاتك خصوصية، في السرير، بين أفراد أسرتك، داخل المساحات التي يفترض أن تكون آمنة. ويرى المضيان أن الرسالة التي تبثها هذه الضربات تكون واضحة، "لا وقت للراحة، ولا ملجأ لك، حتى في فراشك".

الليل في ذاته عامل مضاعف للخوف، فغريزة الإنسان تميل إلى الشعور بالخطر في الظلام، حيث تضعف قدرته على إدراك التفاصيل البصرية والسمعية. بالتالي، فإن الضربات الليلية تحرم الأفراد من شعورهم الأساس بالأمان، وتدخلهم في حال من "الإنذار الليلي المستمر"، وهي حال نفسية موثقة تؤدي مع الوقت إلى إرهاق الجهاز العصبي، وتفاقم اضطرابات القلق والتوتر.

ووفق دراسات منشورة في دورية "Psychological Trauma Journal"، فإن الضربات العسكرية التي تنفذ في الليل ترتبط بزيادة احتمالات الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مقارنة بالضربات التي تقع في وضح النهار. ويعزو الباحثون ذلك إلى عنصر المفاجأة، وضعف الاستجابة الحسية، وغياب الرؤية الواضحة أثناء الهجوم، وهي عوامل تعوق قدرة الأفراد على التفاعل النفسي مع ما يحدث وتزيد من أثر الصدمة لاحقاً.

اعتبارات تكتيكية واستراتيجية

يعلق المتخصص في الدراسات الأمنية والاستراتيجية عبدالله القحطاني في حديثه إلى "اندبندنت عربية" بأن اختيار توقيت العمليات العسكرية ليلاً لا يعد سمة خاصة بإيران، بل يمثل نهجاً معتمداً لدى غالبية الدول والقوى المتحاربة، انطلاقاً من اعتبارات تكتيكية واستراتيجية متشابكة.

ويشير القحطاني إلى أن الظلام يوفر غطاءً فعالاً للطائرات المسيرة والأجسام الطائرة، إذ تنخفض البصمة الحرارية والبصرية في الليل، حتى على أنظمة الرصد المتقدمة والأقمار الاصطناعية، مما يصعب من عملية اكتشافها ويمنحها هامشاً أوسع للوصول إلى أهدافها دون اعتراض. ويضيف أن التصوير الفضائي يصبح أكثر فاعلية خلال ساعات النهار، بينما يتراجع نشاط الأقمار الاصطناعية ليلاً، وهو عامل مساعد آخر يعزز فرص نجاح الضربات الليلية.

ويتفق القحطاني مع ما طرحه الدكتور عبدالله المضيان في شأن الأثر النفسي للهجمات الليلية، موضحاً أن توقيت الهجوم في ساعات الراحة والسكون يعزز من فاعلية الحرب النفسية، إذ تباغت المجتمعات في لحظات هشة، وتضاعف من وقع الضربة على المستويين الشعبي والمعنوي. كما يشير إلى أن المشهد البصري ذاته يلعب دوراً في التأثير، إذ تترك الصواريخ المتوهجة في السماء ليلاً أثراً مرعباً ومشاهد درامية تستثمر بسهولة في الحملات الإعلامية.

ويضيف أن الجهد البشري في ساعات الليل غالباً ما يكون أقل يقظة، فالعاملون على أنظمة الرصد والرادارات ومنصات الدفاع يكونون في حال إنهاك نسبي بعد يوم طويل، مما ينعكس على سرعة الاستجابة ودقتها. كذلك، تسهم البرودة النسبية في الليل في تحسين أداء المعدات العسكرية، سواء أنظمة الدفاع الجوي أو وحدات الطائرات المسيرة، إذ تعمل في ظروف تشغيل أكثر استقراراً.

ويختم القحطاني بالإشارة إلى أن منصات الإطلاق والعناصر القائمة على تنفيذ الضربات تستفيد من جنح الظلام للتمركز أو الانسحاب من دون أن تكون عرضة للرصد المباشر. وعلى رغم إمكان تتبع البصمة الحرارية ليلاً، فإنها تبقى أقل وضوحاً مقارنة بالنهار. ويؤكد أن مشاهد الضربات الليلية غالباً ما تترك أثراً بصرياً ونفسياً مضاعفاً، مما يجعلها أداة فعالة في التأثير الإعلامي وفي بث الرهبة لدى الخصوم.

الليل أيضاً ورقة اقتصادية

لا يقتصر اختيار التوقيت الليلي للهجمات على الجوانب العسكرية والنفسية فحسب، بل يمتد أثره ليطاول المجال الاقتصادي، كما يوضح المتخصص في الشأن المالي عبدالله الصقعبي، الذي يرى أن الضربات الإيرانية في منتصف الليل لا تخلو من بعد اقتصادي مدروس يستهدف الأسواق العالمية بقدر ما يستهدف الأهداف العسكرية.

ويشير الصقعبي في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إلى أن توقيت الضربات الإيرانية ليس خياراً لوجيستياً عابراً، بل خطوة محسوبة بدقة، تتقاطع زمنياً مع افتتاح جلسات التداول في الأسواق الآسيوية، والتي تعد أحد أهم شرايين الاقتصاد العالمي. ومع بدء يوم العمل المالي في طوكيو وسنغافورة، تتلقف الشاشات العناوين العاجلة: "صواريخ إيرانية" و"اعتراضات إسرائيلية" و"تهديدات بالتصعيد"، فتأتي ردود الفعل سريعة وواسعة النطاق: ارتفاع في أسعار النفط والذهب، وتراجع في عملة الشيكل، وهبوط مؤشرات العقود الآجلة في البورصات.

هذه اللحظة، بحسب الصقعبي، تمثل ضربة أخرى غير مرئية: ضربة للثقة، وهي العملة الأهم في الاقتصاد العالمي. ويشرح أن اهتزاز الثقة يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع كلفة المال، وهو قانون اقتصادي غير مكتوب تعرفه طهران جيداً. فالهجوم الليلي يعيد برمجة يوم الأسواق العالمية على إيقاع الخطر، مما يدفع المستثمرين في إسرائيل إلى طلب عوائد أعلى، وترفع شركات التأمين أقساطها، وتعيد البنوك المركزية في دول الجوار تقييم الأخطار الإقليمية.

ويحذر الصقعبي من أن الخطورة لا تكمن فقط في وقع الحدث، بل في عنصر المفاجأة. فما يعرف اقتصادياً بـ"الصدمة خارج التوقع" يولد شعوراً بأن الخطر بلا موعد، وهو ما يدفع المستثمرين إلى التريث وتأجيل القرارات، سواء كانوا في تل أبيب أو في مراكز مالية بعيدة. شركة تتردد، صندوق استثماري يعيد الحسابات، ورجل أعمال يجمد مشروعاً... قرارات تبدو صغيرة، لكنها تنعكس خسائر غير مباشرة، عميقة وطويلة الأثر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما تمتد تداعيات الضربات الليلية إلى البنية التحتية التشغيلية التي تعتمد على الاستمرارية، من محطات الطاقة إلى منشآت النفط ومراكز البيانات. ويكفي إجراء احترازي، كإغلاق وقائي أو انقطاع في التيار الكهربائي، لإحداث خلل في الإنتاج أو تعطل سلاسل التوريد، وهي آثار تترجم لاحقاً في مؤشرات النمو والتضخم.

ويختم الصقعبي بالقول إن إيران، حين تضرب في الليل، لا تستهدف فقط الرادارات أو البنى العسكرية، بل توجه رسائل مباشرة إلى الأسواق والفاعلين الاقتصاديين: "لن نفاجئكم بالصاروخ فحسب، بل بتوقيت التأثير". ففي عالم المال، ليس حجم الضربة هو ما يؤلم، بل توقيتها.

السهر لمراقبة تطوراتها

وعلى رغم أن المؤشرات السياسية والعسكرية قد توحي باقتراب نهاية الجولة الحالية من الحرب، فإن آثارها ستظل حاضرة في ذاكرة من تابعها لحظة بلحظة، لا سيما أولئك الذين واظبوا على السهر لمراقبة تطوراتها تحت ضغط القلق والتساؤلات المستمرة. سيشكو كثر من قلة نومهم خلال تلك الليالي الطويلة، حيث تحولت الشاشات إلى مصدر توتر لا ينطفئ، وتنازعتهم الرغبة في الفهم مع الحاجة إلى الراحة.

أما أولئك الذين استهدفوا مباشرة، فسيحملون في ذاكرتهم رعب الإنذارات الليلية، والهواجس التي كانت تزورهم مع كل صفارة، وكل ظل في السماء. وسيظل سكان المدن المحيطة والمراقبون من بعيد يتذكرون كيف غلبت متابعة الحرب ساعات النوم، وكيف كانوا يبدأون صباحهم منهكين، يحاولون موازنة حياتهم اليومية مع واقع لا يهدأ.

فالحرب حتى حين تتوقف تترك وراءها ما يشبه الزمن المكسور: ليالي لم تنم، وأياماً تبدأ متأخرة، وأثراً لا يقاس فقط بحجم الدمار، بل بكيفية عبور الشعوب منه.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير