ملخص
من يرى أن الكتابة، وبخاصة الأدبية الإبداعية، عمل فردي في الإنتاج والتلقي، وأنها عمل إنساني لا غضاضة من احتوائه على نقاط ضعف هي جزء جوهري من طبيعتنا البشرية، فلا بد من أن ينظر بشيء من الريبة إلى المحرر، أو إلى بعض جوانب مهنته، ويخشى من تعكيرها صفو هذه العلاقة الثنائية بين كاتب وقارئ.
كتبت الروائية الأفروأميركية توني موريسون إلى روائي شاب عام 1977 رسالة عن مخطوطة رواية له فقالت "وجدتها شديدة الصدق، حادة، مؤثرة بصورة لم أتوقعها، لكنها مفزعة، لا تتيح مهرباً لأي قارئ".
كانت موريسون آنذاك محررة في دار "راندوم هاوس"، وقد أعجبتها مخطوطة تلك الرواية إعجاباً كبيراً، لكنها قبل الرد على صاحبها استطلعت آراء زملائها في المكتب طامعة في دعمهم، وكان قرارهم أنها رواية "ذكية" ولكنها أيضاً محبطة للغاية وتبعث على الاكتئاب ومثبطة روحياً. وانتهوا إلى أن الرواية، على رغم جودة كتابتها، فيها مزيج من الخيبة والغضب والحزن كفيل بأن يحد من جاذبيتها تجارياً، ووافقتهم موريسون الرأي مرغمة فكتبت لصاحب المخطوطة "إنك لا تريد مهرباً، وأنا مثلك لا أريد مهرباً، لكن لعل القراء يريدون، ولعل عملنا هو أن نساعدهم في العثور على مهرب".
ذلك ما كتبته ميلينا مو في مارس (آذار) 2024 بلوس أنجليس رفيو أوف بوكس عن مراسلات موريسون المهنية المحفوظة في أرشيف "دار راندوم" بمكتبة المخطوطات والكتب النادرة بجامعة كولومبيا، وهذه المراسلات تغطي الأعوام التي عملت فيها موريسون في الدار محررة أدبية.
وقد ركزت ميلينا مو في مقالتها الجميلة على رسائل رفض المخطوطات التي كتبتها موريسون وحرصت أن تكون "طويلة وكريمة بالاقتراحات، وواضحة في النقد"، ولكن عمل موريسون التحريري في "راندوم" لم يقتصر بطبيعة الحال على هذه المهمة القاسية.
وصدر أخيراً كتاب عن عمل موريسون التحريري في قرابة 370 صفحة بعنوان "توني في راندوم: أيقونة الكتابة وأسطورة التحرير" للكاتبة دانا آيه وليمز عن دار "أميستاد".
كان حوار مجلة "ذي باريس رفيو" مع توني موريسون المنشور عام 1993 قد عرض لعملها التحريري، إذ سألتها إليسا شابيل وكلوديا برودسكي لاكور عما لو أن عملها بالتحرير قد ترك أثراً عليها في الكتابة، فقالت "لا أعرف، قلل رهبتي من صناعة النشر، وجعلني أفهم العلاقة العدائية التي تنشأ أحياناً بين الكتاب والناشرين، لكنه علمني مدى أهمية المحرر، وهو ما لم أكن أعرفه قبل ذلك".
تنطلق مارثا ساوثغيت في استعراضها الكتاب في "نيويورك تايمز" في الـ17 من يونيو (حزيران) الجاري من كلمة الأيقونة التي ترد في العنوان، فتقول إن آلة الأيقونات لم تستعمل كاتباً بقدر ما استعملت توني موريسون، وبخاصة منذ وفاتها عام 2019، فصورتها تزين أشياء كثيرة، من زينة الكريسماس إلى مغناطيسات الثلاجات إلى القمصان وغيرها كثير، وكلمات موريسون تستل من محاضراتها ورواياتها المسبوكة بإحكام وتقدم بمعزل عن سياقها مصدراً للإلهام".
"وفي كتابها الجديد تبذل الكاتبة دانا وليمز جهداً كبيراً لتخليص الكاتبة من حبائل هذا الشرك، وعلى رغم أن عنوان الكتاب الفرعي يحوي كلمتي الأيقونة والأسطورة، فمن فضائل الكتاب الكبرى أنه لا يعامل موريسون بوصفها أياً من الاثنتين، بل إنه يستغرق في إنسانيتها العادية، وباحترام بالغ وبحث دقيق، تكشف دانا وليمز عن موريسون العاملة المجدة، والأديبة المتفانية، وبوصفها أيضاً من أهم محرري الكتب في القرن الـ20".
في حين أن مسيرة موريسون الكاتبة لقيت قدراً عظيماً من الثناء والدرس، فإن كتاب وليمز هذا هو أول كتاب يركز على أعوام عملها في دار نشر راندوم، "محررة تجارية لمختلف الإصدارات منذ عام 1965 وحتى عام 1983، كانت بدايتها المهنية في سيراكيوز في قسم ’أل دبليو سنغر‘ لنشر الكتب المدرسية بعدما اشترتها راندوم، وكان قبولها للوظيفة مخاطرة، وهي والدة عزباء لطفلين، وتعيش آنذاك في ولاية أوهايو"، وفق وليمز.
و"كانت فكرة الرجوع إلى شمال نيويورك برفقة ولدين صغيرين وبلا أسرة تعينها في تربيتهما أمراً شاقاً"، بحسب ما تكتب وليمز، لكنها كانت في حاجة إلى العمل، ومثلما توضح وليمز "كان تلقي أجراً على العمل في الكتب طول النهار جذاباً بلا أدنى شك".
عملت موريسون لعامين مع سيراكيوز قبل أن تنتقل إلى نيويورك لتنضم لفريق تحرير "دار راندوم" في 1967 "فلم تجد هنالك الوظيفة فقط وإنما الامتلاء، وبدأت بدعم فريق ’راندوم‘ مهمة نشر كتب المؤلفين السود عن الحياة السوداء".
"يلقي كتاب ’توني في راندوم’ الضوء على دور موريسون في صياغة كثير من الكتب التي تصدت لتلك المهمة ومنها ’سيرة أنجيلا ديفيس‘ وأنطولوجيا ’الكتاب الأسود‘، وقد اعتمدت وليمز في بحثها على مصادر عدة، من بينها كم هائل من مراسلات العمل اليومية، والمذكرات المكتبية، وكذلك مراسلات موريسون مع الكتاب، وكل ذلك في مجموعة ’راندوم هاوس‘ بمكتبة الكتب النادرة والمخطوطات في جامعة كولومبيا، وهي تصوغ من كنز المواد هذا رؤية ملهمة لبراعة موريسون ودأبها في التحرير، كما تقدم رؤية تفصيلية للعمل اليومي في عالم النشر في القرن الـ20".
تكتب مارثا ساوثغيت أنه من أكثر حالات التعاون إثماراً بين موريسون والكتاب عملها مع توني كيد بامبرا "فمن خلال التعاون في العمل أصبحتا صديقتين مقربتين بقدر كونهما كاتبة ومحررة، حتى بامبرا، في مرحلة معينة، أقامت في بيت موريسون لثلاثة أيام متتالية لمراجعة روايتها ’آكلو الملح‘، وتصف موريسون تفاعلهما بقولها إن ’بامبرا كانت تصعد الدرج لتعمل ثم تجري نازلة وهي تقول: ما رأيك في هذا؟، فأجلس لأستعرضه، ثم تجري صاعدة الدرج، لم يكن عليّ إلا أن أهمهم وأشير فتعرف بالضبط ما أقترحه عليها‘".
"كان بين الاثنتين حب، ولكن كلما لزم الأمر أو دعا الداعي، كانت بينهما أيضاً قبضة حديدية، فقد حدث أن كتبت موريسون إلى بامبرا وقد تأخرت الصفحات الأخيرة من الرواية عن موعدها الواجب تقول ’لقد أزف الوقت، وأحتاج إلى أن تصلني الفقرات الثلاث الأخيرة بالأمس، وعما قريب ستفقدين طاقة ما قبل النشر وإثارته ونقوده، وبعد الحب ستأتي طلقات الرصاص‘، وبمثل تلك اللهجة تكتمل المخطوطة على طاولة المحرر".
تحكى دانا وليمز عن أول حوار أجرته مع موريسون حول عملها في التحرير فتقول إن ذلك اللقاء تم في سبتمبر (أيلول) 2005 في مكتبها بالمبنى الغربي في جامعة برينستن الذي ستعاد تسميته في 2017 ليصبح قاعة موريسون "ولم تغب عني حقيقة أنني أوشك أن أجلس قبالة عملاقة أدبية، تشتهر في العالم كله برواياتها ولا يكاد أحد يعرف شيئاً عن عملها الرائد في تحرير الكتب، ذكرني قلقي بسؤال كثيراً ما راودني عن إحساس الكتاب إذ تكون محررتهم هي توني موريسون".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن الأمر لم يكن صعباً على الكتاب في حقيقة الأمر، ولو في بدايته، إذ حرصت موريسون بحسب ما تقول في حوار "باريس رفيو" على أن تخفي حقيقتها عن دار راندوم "في واقع الأمر، وأنا في راندوم، لم أقل قط إنني كاتبة"، وتسألها المحاورتان عن السبب فتقول "كان ذلك ليصبح أمراً رهيباً، فأصلاً ما كانوا ليوظفوني، ما كانوا ليسمحوا لي أن أكون واحدة منهم، أعتقد أنهم كانوا سيطردونني"، وتندهش المحررتان فتؤكد موريسون "لم يكن في الدار محررون وكتاب في الوقت نفسه كان هناك إي أل دوكترو واستقال، ولا أحد غيره".
وتحكي دانا وليمز عن الكاتب جون آيه مكلوسكي الابن إذ التقي موريسون للمرة الأولى عام 1971، ولم تكن قد نشرت غير رواية "العين الأكثر زرقة"، و"كان هو في الـ30 من عمره، ولم ير فيها الكاتبة التي ستحصل لاحقاً على بوليتزر وإنما محض كاتبة زميلة من أوهايو تحاول أن تترك بصمة في مهنة التحرير، وكانت أيضاً مثلما اكتشف لاحقاً شخصاً طيباً إذ أثارت جلبة كبيرة حينما عرفت أن زوجة مكلوسكي وابنه ينتظرانه في السيارة إلى أن ينهي لقاءه الأول مع محررته للنقاش في روايته الأولى ’انظروا ماذا فعلوا بأغنيتي‘".
ضربت موريسون عرض الحائط بجدول مواعيدها ومضت لكي "تحيي أودري ومالك، وقد رأت أن ذلك هو أقل ما يمكن أن تفعله لهما، وقد صاحبا مكلوسكي في رحلته الطويلة بالسيارة من الغرب الأوسط إلى منهاتن".
وتمضي وليمز فتقول إن أهم أعمال موريسون التحريرية اكتملت قبل أن تحقق الشهرة الأدبية العملاقة، فلم تكن بالنسبة إلى الكتاب الذين عملت معهم نجمة أدبية وإنما كانت شخصاً قادراً على أن يساعدهم في إنتاج كتاب أفضل، وأعجبتهم مهارتها التحريرية وقدروا دأبها وعمق مشاركتها لهم في مخطوطاتهم، ثم لما نشرت رواية ’نشيد الإنشاد‘ عام 1977 بات يستحيل تجاهل أهميتها المتزايدة ككاتبة، ولكن حتى بعد ذلك، صارت تحرص أن تستغل صورتها العامة في ترويج الكتب التي تساعد في نشرها".
تكتب وليمز أن من أكثر ما أثار موريسون في العمل لدار "راندوم" هو الفرصة التي سنحت لها للبحث عن كتب توثق حياة السود وثقافتهم وتعكس دواخلهم، وليست الكتب المليئة بالغضب من القهر العنصري أو الدعوة إلى مقاومته، وكان أكثر الكتب تجسيداً لذلك الهدف هو الكتاب الصادر عام 1974 بعنوان "الكتاب الأسود"، "والمهم أيضاً في هذا الكتاب أنه أنهى خرافة أن السود لا يشترون الكتب (وأن البيض لا يشترون الكتب السوداء)، وتقول موريسون إن ’إخراج هذا الكتاب إلى النور لم يبد لي عملاً، لقد كان أكثر من عمل، كان بهجة خالصة’".
في ذلك الوقت كان يبدو أن "روايات الكتاب السود التي تحظى بأكبر الاهتمام تندرج في فئتين متضادتين تشير إليهما موريسون بفئة ’اللعنة على الأبيض‘ وفئة ’تعال لأصلح شأنك يا أبيضي الحبيب‘، ولم تكن موريسون تبالي بكلتا الفئتين، فهذه الكتب في نهاية المطاف كتب عن البيض، وما كانت تريد نشره حقاً سواء ككاتبة أو كمحررة هو الكتب التي تتوجه إلى السود".
تكتب مارثا ساوثغيت أن "الكتابة حصرياً عن فترة عمل موريسون محررة لكتب المؤلفين السود يمنح كتاب ’توني في راندوم‘ إطاراً منطقياً وكاشفاً، ولكنه يقتضي إغفال جانب مهم من عمل موريسون، فقد كانت محررة وفي الوقت نفسه كاتبة تعمل مع محرر، ذلك أنها في فترة عملها في ’راندوم هاوس‘، كتبت ونشرت روايات ’العين الأكثر زرقة‘ و’سولا‘ و’نشيد الإنشاد‘ و’طفلة القطران‘ محققة مزيداً من المجد مع كل رواية"، فكيف كانت علاقة موريسون الكاتبة بمحرري رواياتها؟
تكتب مارثا ساوثغيت أن هذا السؤال ليس جزءاً من مهمة وليمز، ولذا فإن عدم تناولها له لا يقلل من قيمة منجزها، "لكن الفضول جعلني أنشد الإجابة في سيرة غوتليب الصادرة بعنوان ’القارئ النهم‘، فوجدت أن شراكتهما الأدبية بحسب ما يحكيها (وقد دامت لأكثر من 40 عاماً) كانت شراكة مثالية فهو يكتب قائلاً ’لقد كنا مخلوقين لأحدنا الآخر، كنا نقرأ بطريقة واحدة، فكنت كلما اقترحت عليها شيئاً فهمت على الفور سبب ذلك، سواء أتعلق الاقتراح بجملة أم بمسألة بنيوية كبيرة’".
غير أن لهذا السؤال إجابة أخرى، عند موريسون نفسها لا غوتليب، فهي تقول في حوار "باريس رفيو"، "لقد كان لدي محرر جيد للغاية، هو بوب غوتليب. وسر جودته بالنسبة إليّ أنه كان يمثل جملة من الأمور، فهو يعرف ما لا ينبغي أن يمسه، ويطرح كل الأسئلة التي لعل الكاتب كان ليطرحها على نفسه لو سنحت الفرصة، والمحرر الجيد هو دائماً عين ثالثة، هادئة ومحايدة، لا يحبك أو يحب كتابك، ولا يجاملك، وهذا بالنسبة إليّ هو الأهم، والغريب في بعض الأحيان أن المحرر يضع إصبعه بالضبط على الموضع الذي يعرف الكاتب أنه ضعيف لكنه لا يستطيع تحسينه في ذلك الوقت، أو لعل الكاتب يحسب أنه قد يفلت به، لكنه غير متأكد، والمحررون الجيدون هم الذين يضعون أصابعهم على هذه المواضع ويقدمون في بعض الأحيان مقترحات، وبعض المقترحات لا يكون مفيداً لأن الكاتب لا يستطيع أن يشرح للمحرر كل شيء عما يريد القيام به، ولكن في ثنايا العلاقة بين الكاتب والمحرر، وإذا ما توافرت الثقة وبعض الاستعداد للإنصات فإن أشياء لافتة قد تحدث، وأنأ أقرأ طوال الوقت كتباً أعرف أنها كانت لتنتفع كثيراً لا من محرر بالذات وإنما من شخص يتكلم معه الكاتب عنها".
تكتب مارثا ساوثغيت أن بوسع المرء أن يتخيل أن مهارة موريسون الكاتبة ومهارة موريسون المحررة تواشجتا في عقلها المتقد، فكانت إحداهما غذاء للأخرى، لكن من ذا الذي يقطع بشيء؟ غاية ما يمكن قوله هو أنها كانت تعرف أن كل كاتب يحتاج إلى محرر جيد وأنها وجدت ذلك المحرر في روبرت غوتليب مثلما وجده كثر فيها، "فقد أحبت موريسون عملها في التحرير، وكانت تحارب من أجل كتابها ومعهم كلما لزم الأمر، كانت ظريفة وذكية ولاذعة وعطوفة، وكانت تتودد وتمدح وتحسن وتغمس يديها في الحبر وتغرقها في الكلمات، وساعدت أصواتاً سوداء على البروز ولم تركن أبداً إلى ما حظيت به من إجلال، وهذا ما جعلها، مثلما يتبين من هذا الكتاب، عظيمة القيمة".
والحق أن من يرى مثلي أن الكتابة، وبخاصة الأدبية الإبداعية، عمل فردي، فردي في الإنتاج، وفردي في التلقي، وأنها عمل إنساني لا غضاضة من احتوائه على نقاط ضعف هي جزء جوهري من طبيعتنا البشرية، فلا بد منأن ينظر بشيء من الريبة إلى المحرر، أو إلى بعض جوانب مهنته، ويخشى من تعكيرها صفو هذه العلاقة الثنائية بين كاتب وقارئ، ولعل هذا ما يجعلني ألوذ بكلمات لتوني موريسون نفسها في حوار "باريس رفيو"، "إن المحرر الأدبي شبيه بالقسيس أو الطبيب النفسي، إذا كان من النوع الخاطئ، فخير للكاتب أن يكون وحده".
العنوان: Toni at Random: The Iconic Writer's Legendary
تأليف: Dana A. Williams
الناشر: Amistad