ملخص
في مشهد يستعيد ذكريات أحداث مرّ عليها أكثر من عقدين، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن القاذفات الإستراتيجية الأميركية أبادت منشأة فوردو النووية الإيرانية، مدعياً أن البرنامج النووي الإيراني قد "انتهى إلى الأبد"، وسط شكوك العسكريين والمراقبين، ما أعاد إلى الأذهان جدلاً مماثلاً بعد فشل استهداف الجيش الأميركي رأس تنظيم القاعدة في تلك المعركة، بما جعله مثار انتقادات تتجدد حتى اليوم.
حتى هذه اللحظة فإن مصير "اليورانيوم" عالي التخصيب الذي كانت منشأة فوردو النووية الحصينة تضمه قبل استهدافها بالغارات الأميركية الفتاكة غير معروف، بل إن الشك طاول حتى صلاحية مرافق التخصيب الواقعة تحت سلسلة جبال "قم" المحروسة بهالات القداسة والاحتياطات العسكرية لدى الإيرانيين، حين دفنوا سرهم الثمين هناك قبل 14 عاماً، بعيداً من أعين مستهدفيه اليوم، قبل أن ينكشف الستار لاحقاً.
ففي مشهد يستعيد ذكريات أحداث مرّ عليها أكثر من عقدين، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن القاذفات الإستراتيجية الأميركية أبادت منشأة فوردو النووية الإيرانية، مدعياً أن البرنامج النووي الإيراني قد "انتهى إلى الأبد".
لكن هذا الإعلان الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية، استدعى إلى الأذهان درساً قديماً من تورا بورا، حيث فشلت القوة الجوية وحدها في تحقيق النصر الحاسم، ففي عام 2001 شنت الولايات المتحدة هجمات جوية مكثفة على كهوف تورا بورا في جبال أفغانستان بعد التأكد من احتماء أسامة بن لادن بحصونها، وعلى رغم إسقاط آلاف الأطنان من القنابل فقد تمكن بن لادن من الفرار، في واحدة من أبرز الهفوات العسكرية في "الحرب على الإرهاب"، ووثق تقرير لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي هذا الفشل واصفاً إياه بـ "فرصة ضائعة" كان يمكن أن تغير مسار التاريخ، وأكد ضباط من وحدة "دلتا فورس" لاحقاً أن غياب التنسيق البري والدعم الاستخباراتي جعل القصف الجوي غير كاف مهما بلغت دقته.
الاحتماء بالجغرافيا من أفغانستان إلى إيران
اليوم تعود منشأة فوردو المحصنة بعمق داخل جبال قم لتكون محور الجدل، فمع الإعلان عن استخدام قنابل خارقة للتحصينات، أثارت تقارير إعلامية أميركية تساؤلات حول الضرر الفعلي الذي لحق بالمنشأة، فصحيفة "نيويورك تايمز" وصفت العملية بأنها "محاولة جريئة ولكنها غير مضمونة النتائج"، مشيرة إلى أن "فوردو" صممت لتتحمل مثل هذه الهجمات بفضل موقعها الجغرافي المحصن، وبدورها ذكرت "واشنطن بوست" في إحدى تقاريرها أن المخابرات الأميركية لم تؤكد بعد تدمير البنية التحتية الحيوية للمنشأة، مما يعزز الشكوك حول تصريحات ترمب بأن البرنامج النووي الإيراني قد انتهى.
وفي سياق متصل لم تبلغ "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" عن أي تسرب إشعاعي عقب الهجوم، مما يشير وفقاً لمحللين إلى أن إيران ربما أخلت المنشأة أو حيدت معداتها الحساسة تحسباً للضربة، كما أن غياب صور أقمار اصطناعية واضحة تظهر دماراً شاملاً، كما نقلت "بلومبيرغ"، يعزز التشكيك في فعالية العملية، وقد أشار المحلل العسكري ديفيد أكس في مقالة له بمجلة "فورين أفيرز"، إلى أن "الضربات الجوية وحدها نادراً ما تنهي برامج نووية، بخاصة عندما تكون مدعومة بإرادة سياسية قوية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي تقرير موسع لـ "نيويورك تايمز" حول هذه الجزئية، يتضح أن الغموض لا يزال يكتنف مصير البرنامج النووي الإيراني بعد يوم واحد فقط من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن الضربات الجوية "دمرت بالكامل" قدرة إيران النووية، لكن مسؤولين كباراً، بمن فيهم نائب الرئيس جيه دي فانس، أقروا بأن مصير مخزون إيران من اليورانيوم عالي التخصيب لا يزال غير معروف بدقة.
وأشار فانس إلى أن إيران تملك كمية تكفي لصنع تسع إلى 10 قنابل نووية، لكنها فقدت، بحسب التقدير الأميركي، المعدات اللازمة لتحويل هذا الوقود إلى أسلحة فعالة، مضيفاً أن هذا الملف سيكون محور نقاشات مستقبلية مع إيران على رغم أنها رفضت استئناف المحادثات، متهمة واشنطن باستخدام الحوار كغطاء للتحضير للهجوم.
من جهتها تجنبت وزارة الدفاع الأميركية تبني خطاب ترمب التصعيدي واكتفت بالقول إن الضربات على ثلاث منشآت نووية، بينها "فوردو" المدفونة تحت الجبل، "ألحقت أضراراً بالغة"، لكنها لم تنه قدرات إيران بصورة نهائية، وأظهرت صور الأقمار الاصطناعية ثقوباً عميقة أحدثتها قنابل خارقة، لكن إسرائيل قدرت أن الموقع لم يدمر بالكامل.
هرب بن لادن في مقابل اختفاء اليورانيوم
المفاجأة الأبرز، بحسب مصادر إسرائيلية، أن إيران نقلت بالفعل قبيل الهجوم نحو 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة من "فوردو" إلى منشأة أكثر أماناً قرب أصفهان، وهو ما أكده مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، وهذا المخزون الذي يمكن تخزينه في حاويات صغيرة داخل 10 سيارات، لا يزال يعد إحدى أوراق إيران النووية الأهم في أية مفاوضات مقبلة، مما يعني أن درس "تورا بورا" لا يزال حاضراً، فالقنابل مهما كانت فتاكة قد تهدم الجدران والقلاع الحصينة، لكنها لا تبلغ في كثير من الأحيان درجة اليقين التي ينشدها السياسيون، ففي عالم تعتمد فيه القدرات النووية على التخصيب، تبقى المنشآت أهدافاً مادية، لكن المشروع النووي الإيراني أعمق من أن يطوى تحت الأنقاض، بحسب الإيرانيين.
ومع تصاعد التوترات بين واشنطن وطهران يرى مراقبون، كما نقلت "سي إن إن"، أن العملية قد تكون جزءاً من حرب نفسية تهدف إلى الضغط على إيران أكثر من كونها ضربة حاسمة، غير أن الإصرار الإسرائيلي على حسم ملف "فوردو" قد يجعل فرص نجاح العملية، على رغم التعقيدات الجغرافية، أفضل من نظيرتها في تورا بورا التي أفضت إلى انتكاسة في ملف محاربة الإرهاب حينها، ودفعت التنظيم الدموي إلى إعلان المواجهة بشراسة أكبر في مدريد ولندن وكثير من المواقع بعد نجاة قادته من موت محقق، في حين صار فشل الجيش الأميركي في تلك المهمة مثار انتقاد لا يغتفر تروى قصصه حتى اليوم، ومن ذلك ما صوره الفيلم الوثائقي "مطاردة أميركية" الذي يعرض هذه الأيام على "نتفليكس" حول شهادات المسؤولين عن مطاردة بن لادن بعد الـ 11 من سبتمبر (أيلول) 2001، إذ قدم مسؤولون من البيت الأبيض ووكالة الاستخبارات المركزية والـ "بنتاغون" تفاصيل دقيقة حول مطاردة رأس الإرهاب في جبال تورا بورا حينئذ، مع التركيز على التحديات والإخفاقات التي واجهتهم خلال تلك العملية.
وأعرب مدير مكافحة الإرهاب في وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي أي) كوفر بلادك، عن غضبه من قرار وزارة الدفاع، وتحديداً وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، عدم إرسال دعم عسكري كاف لعملاء "سي آي أي" في تورا بورا، ووفقاً لبلاك فقد كان بن لادن في مرمى البصر، لكن الافتقار إلى الدعم العسكري بسبب السياسات الداخلية سمح له بالهرب.
ويصف المستشار في مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض وقت العملية، ريتشارد كلارك، المعركة بأنها شكلت "حالاً من الإهمال العسكري"، مؤكداً أن الجيش الأميركي كان لديه الوقت والموارد والمعلومات الكافية للقبض على بن لادن، لكن القادة العسكريين، بما في ذلك الجنرال تومي فرانكس، قرروا عدم تخصيص قوات كافية لأنهم لم يروا في ذلك جزءاً من مهمتهم، معرباً عن استيائه من عدم استخدام مشاة البحرية المتمركزين في قندهار والذين كانوا على مقربة من المنطقة.
"كانت درساً قاسياً"
وفي هذا الصدد لفت قائد العمليات الخاصة الذي أشرف على غارة "أبوت آباد" الأدميرال ويليام ماكريفن إلى أن الدروس المستفادة من تورا بورا هي التي أثرت في التخطيط لعمليات لاحقة، مؤكداً أن نقص القوات البرية في تورا بورا أبرز الحاجة إلى تنسيق أفضل بين العمليات الجوية والبرية، وهو ما جرى تطبيقه بنجاح في غارة أبوت آباد عام 2011 والتي انتهت بمقتل بن لادن، في وقت أكد مدير وكالة الاستخبارات المركزية في حينه، ليون بانيتا، أن تورا بورا كانت درساً قاسياً دفع "سي آي أي" إلى تعزيز قدراتها.
التحديات اللوجستية والاستخباراتية ليست هامشية هي الأخرى، إذ أشار المسؤولون إلى أن التحديات الجغرافية في تورا بورا، مع تضاريسها الجبلية المعقدة وشبكة الأنفاق المحصنة، جعلت من الصعب تحديد موقع بن لادن بدقة، كما أن المعلومات الاستخباراتية كانت غير كاملة مما أعاق التخطيط الفعال، وذكر أحد المسؤولين السابقين في "سي آي أي" أن "الثقة المفرطة" في القوة الجوية، مثل استخدام القنابل الثقيلة، لم تأخذ في الاعتبار قدرة بن لادن على التنقل بسرعة عبر الطرق الجبلية.
فوردو... قلعة نووية إيرانية محصنة في باطن الجبل، ماذا نعرف عنها بعد الضربة الأميركية؟#نكمن_في_التفاصيل pic.twitter.com/Vty8NpfIIC
— اندبندنت عربية الآن (@indya_now) June 22, 2025
وكان نائب مدينة قم في البرلمان الإيراني أفاد أن المنشأة تحت الأرض لم تتعرض لأي أضرار، وأن حجم الخسائر ليس كما يروج له ترمب، فيما قال مستشار رئيس مجلس النواب الإيراني مهدي محمدي "كانت إيران تنتظر الهجوم على فوردو ليلاً"، مشيراً إلى أنه جرى إخلاء الموقع منذ فترة طويلة ولم يتعرض لأي أضرار لا يمكن إصلاحها جراء الهجوم، بينما أشار مستشار في البرلمان الإيراني إلى أن "هناك أمران مؤكدان: أولاً أن المعرفة لا تُقهر، وثانياً أن المقامر سيخسر هذه المرة"، بحسب ما أوردت وسائل الإعلام الإيرانية.
كل ذلك يعيدنا إلى المشهد اليوم، فهل هرب اليورانيوم المخصب من قبضة أميركا في "فوردو" كما هرب منها بن لادن قبل عقدين؟
هذا ما يخشاه الجميع، ولا سيما الأميركيون والإسرائيليون، وهو ما يمني به الإيرانيون أنفسهم وهم يرون في البرنامج النووي بوجه عام رمزاً للكرامة والاستقلال، لكن العودة لاستهداف القلعة الحصينة من جانب إسرائيل يشير إلى تضاؤل فرص نجاة المشروع جله أو كله، وهذا ما جعل الكاتب الأميركي توماس فريدمان المناهض لسياسات نتنياهو يعود للتأكيد على أن "إسرائيل مصممة على تجريد إيران من جميع قدراتها على صنع القنابل النووية، بما في ذلك منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم المدفونة في أعماق جبل قم"، والسؤال بحسب تقديره هو كيف سيفعلون ذلك؟