ملخص
في زمن تتقدم فيه الكلمة على الرصاصة، تحولت الحرب بين إيران وإسرائيل إلى معركة نفسية تخاض عبر التصريحات والتهديدات المدروسة. من نبرة "سوف" الإيرانية إلى تغريدات أفيخاي أدرعي وأقوال ترمب المتقلبة، تتكشف إستراتيجيات دعائية تستهدف الوعي قبل الجبهة.
في زمن صار فيه الميكروفون أخطر من المدفع، والكلمة الملقاة أمام كاميرا قد تسبق طائرة مسيرة في إحداث الضجيج والتأثير، تبرز الحرب الكلامية كواجهة براقة، حتى لو كانت مزيفة في أحيان كثيرة للصراع الحقيقي. وليس المقصود مشادات كلامية على وسائل التواصل الاجتماعي، بل ترسانة كاملة من الدعاية السياسية تطلق عبر الأثير بدقة قد لا تقل عن الصواريخ.
منذ أيام الحرب العالمية الأولى، عرفت الدعاية (Propaganda) بأنها أداة لتشكيل الرأي العام في زمن الحرب. وبحسب أحد أبرز منظري الدعاية جاك إيلل، فإن وظيفتها ليست فقط إقناع الناس، بل إشباعهم حتى الغثيان برسائل مدروسة كي لا يفكروا أصلاً.
اليوم، حين نتابع تصريحات الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل، نرى كيف تحولت بيانات التهديد والوعيد إلى مسرحية دعائية أبطالها قادة كلا الطرفين، في عمليات حربية سماها الإسرائيليون "الأسد الصاعد"، والإيرانيون "عملية العقاب الشديد" ثم "الوعد الصادق 3". وقد اختتم الطرفان المشهد بإعلان النصر، في مشهد سريالي لحربٍ خيضت بالكلام والدعاية بقدر ما خيضت بالصواريخ والمسيرات، حتى باتت الإثارة والتضليل جزءاً من الذخيرة.
من "صوت العرب" إلى "تويتر"
كان المذيع المصري أحمد سعيد يصيح في 1967 "طائراتنا تقصف تل أبيب"، بينما كانت السماء تسيل بالنيران فوق مطارات مصر. لقد كانت "كذبة إستراتيجية" ونوعاً من الدعاية التي تحاول رفع المعنويات، حتى لو على حساب الحقيقة القاسية.
السيناريو نفسه، ولكن بتقنيات حديثة، نشهده الآن مع تغريدات قادة الحرس الثوري، وفيديوهات الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، الذي يبدو وكأنه يحاول كسب جمهور عربي أكثر من صد الصواريخ. وقنوات تلفزيونية تتحول إلى أبواق متبادلة لحرب المعلومات.
الحرب الكلامية بين إيران وإسرائيل عرض مسرحي من نوع خاص، فما بين مناورات إعلامية ومراوغات لفظية، يتضح أن الطرفين يعتمدان على الدعاية ليس فقط لإقناع الشعوب، بل للتأثير في قرارات دولية. فإيران ربما تبالغ في قوتها لتردع تدخلاً خارجياً، وإسرائيل تمارس دورها المعتاد في تصوير نفسها كضحية مستهدفة لتبرير عملياتها العسكرية.
فما جذور الحروب الكلامية؟ وكيف استعملتها إيران وإسرائيل؟
ارعب عدوك ولو بالكذب
ليست الحرب الدعائية اختراعاً حديثاً، بل توازي عمر الحرب نفسها. منذ رسوم الكهوف وأسطورة الآلهة في بلاد ما بين النهرين ومصر، مروراً بالطبول العربية والقصائد الملتهبة، ووصولاً إلى الحملات الصليبية والعملات الرومانية، استخدمت الرموز والكلمات والتأثير النفسي لحشد الجماهير وشرعنة المعارك. ومع القرن الـ20 تحولت البروباغندا إلى علم قائم بذاته، فأنشأت الدول وزارات ومنصات إعلامية كاملة لبث الرسائل وإثارة العواطف، كما فعلت فرنسا وأميركا وبريطانيا خلال الحربين العالميتين، حتى هتلر أفرد فصولاً في كتابه "كفاحي" للحديث عن قوة الدعاية، فاللغة في الحروب ليست مجرد وسيلة شرح، إنما سلاح تعبئة يحرك الناس، ويرفع معنويات المحاربين ومجتمعهم ويحطم معنويات الخصوم.
وعندما قرر المفكرون تعريف "الدعاية"، بدا كأنهم يصفون مخلوقاً خفياً متعدد الرؤوس. فالبعض رآها تنويماً مغناطيسياً ناعماً، وآخرون وصفوها بمطرقة ثقيلة تهوي على العقل الجمعي، واعتبرها عالم النفس فريدريك بارتليت، زرعاً لأفكار تجعلنا نتصرف من دون أن نسأل لماذا، أما ليونارد دووب فلم يتردد بوصفها وسيلة مشبوهة للتلاعب بالسلوك البشري.
بول لينبارغر صاحب أول كتاب عن الحرب النفسية رأى فيها مخططاً إعلامياً يستخدم لتحقيق غايات في السياسة أو الحرب، بينما اعتبرها هارولد لاسويل سلاحاً لغوياً يصوغ سلوك الجماهير. أما الألماني فرديناند طونيز فقلق من حجم الكذب داخلها، وفيليب تايلور مؤلف كتاب "قصف العقول" وصفها بأنها وسيلة مدروسة لجعل الناس يفكرون بالطريقة التي يريدها المرسل. في حين رأى الفرنسي غي دورندين أن هدفها النهائي هو إطلاق الفعل، سواء لشراء منتج أو شن حرب.
أما عربياً، فالدعاية لم تسلم من نبرة الشك، إذ وصفها المفكر حامد ربيع بـ"التلاعب بالمنطق"، ومدير الاستخبارات أيام عبدالناصر صلاح نصر رآها أداة لإشعال العقول والعواطف في وقت واحد، أما المعاجم السياسية فاعترفت بها كوسيلة "مقصودة ومنظمة لتوجيه الرأي العام".
في زمن النهضة، لم يكن نيقولا ماكيافللي يكتفي بالخطب الفلسفية حول القوة والسياسة، بل قدم درساً عملياً في الرعب الإستراتيجي. ففي كتابه "فن الحرب"، اقترح وصفة كلاسيكية للانتصار، "ارعب عدوك، ولو بالكذب. يمكنك أن تفعل ذلك إما من طريق نشر الأخبار بأنك ستصلك إمدادات قادمة، أو تقوم بعرض كاذب تمثل فيه وصول إمدادات. وهذا غالباً ما قام ببث الرعب في الجيوش التي كانت تهزم في الحال"، هكذا كتب ماكيافللي وكأنه يدرب فرقة مسرحية أكثر من جيش. فالخداع، بالنسبة إليه ليس عيباً بل أداة حرب. من يدري؟ فقد يكون هو أول من علمنا كيف نستخدم البروباغندا كقنبلة دخانية في وجه العدو.
أساتذة الرعب الإستراتيجي
أما وزير الدعاية النازية وداهية الحرب النفسية، جوزيف غوبلز، فلم يخف يوماً طبيعة سلاحه الحقيقي. لم يكن يعتمد على المدافع أو الطائرات، بل على شيء أكثر فتكاً، هو العقل البشري. وينقل عنه قوله بكل وضوح وصراحة "إن أسلحتنا هي الاضطراب الفكري وتناقض المشاعر والحيرة والتردد والرعب الذي ندخله في قلوب الأعداء، فعندما يتخاذلون بالداخل وتهددهم الفوضى تحين الساعة لنفتك بهم". بهذه العبارة يكشف غوبلز عن فلسفة كاملة في تقويض العدو من الداخل، حيث لا حاجة إلى الرصاص حين يتولى الخوف والانقسام تفكيك الصفوف.
خبير الحرب النفسية الإسرائيلي البروفيسور رون شلايفير، يقدم الحرب النفسية كأداة إستراتيجية لا تقل خطراً عن السلاح التقليدي، بل أكثر جدوى منه أحياناً. ويراها "قوة مضاعفة" تمنح من يستخدمها بذكاء أفضلية واضحة، وتحقق أهدافاً تفوق كلفتها الضئيلة مقارنة بالمعارك الدامية. شلايفير يذهب أبعد من ذلك في توصيفها كـ"حرب أخلاقية" لأنها تفتح باباً لإنهاء القتال بسرعة وتقليل الخسائر البشرية والمادية، ما دامت قادرة على تقويض معنويات العدو من الداخل.
إذاً هي الكلمة، السلاح الذي رافق الحروب ورجح فوز بعضها، وباع أوهام الانتصارات في بعض المعارك والحروب، حتى لتظنها أحياناً كثيرة منفصلة عن الواقع، بل نقيضة له تماماً. فهل تصل الكلمات إلى ما لا تصل إليه الطائرات؟ وهل يمكن لتغريدة أن توازي في وقعها صاروخاً على الأرض؟
الحروب لم تكن يوماً مجرد سيوف أو بنادق أو قذائف أو صواريخ تطلق، بل كلمات يبثها الناطقون عبر الإعلام التقليدي ووسائل التواصل، لذا فإن فصاحة البعض وكاريزمته واختياره الألفاظ والأسوب كلها أدوات تؤدي دوراً كبيراً في تشكيل الحرب وإيصال مفاهيمها إلى أذهان الجمهور الموالي وجمهور العدو. بعض الكلمات يمهد للهجوم، وبعضها يغطي على الهزيمة، وبعضها يخدع العدو قبل أن يصحو الجمهور.
وبين التصريحات الحقيقية والإنذارات والتهديدات والبلاغات والتضليلات تتنقل الكلمات لتنسج شكل الحرب، فتخوض حربها على هواها أو على ألسنة الناطقين باسم كل فريق أو داعميه أو مهلليه.
ففي حرب 1967 كان صوت المذيع أحمد سعيد الحماسي والجهوري على إذاعة "صوت العرب" يرفع معنويات الشعوب العربية بينما الجيوش تنهار. إنه الصوت الذي دوى في زمن الهزائم واعداً بالنصر، مضللاً أمة كاملة بوصفه تقدم الجيوش إلى تل أبيب وإسقاط 100 طائرة. وكان سعيد يعد أحد أعمدة البروباغندا الصوتية التي غذت المشاعر القومية، ورفعت منسوب الثقة حتى لحظة الصدمة، وسمي مذيع النكسة.
يشير عبدالرحمن غنيم في كتابه "مدفعية إسرائيل النفسية وحرب حزيران"، إلى أنه عام 1967، لم يكن المواطن العربي يشعر بأي خوف من وقوع الحرب، فقد عبأته أجهزة الإعلام العربية ليكون مستعداً نفسياً للمعركة، التي لا بد من أن تكون نتيجتها الانتصار. لكن التعبئة العسكرية العربية لم تكن بمستوى ما أدركه المواطن العربي عنها، وقد جاء الهجوم الإسرائيلي على الجبهات خاطفاً وسريعاً بما يمكن اعتباره بحد ذاته حرباً نفسية.
عام 2003 كان محمد الصحاف وزير الإعلام العراقي يعلن النصر في بغداد فيما الدبابات الأميركية تظهر خلفه مباشرة على الشاشات التي يشاهدها الملايين حول العالم. واشتهرت جملته عن القوات الأميركية "إنهم ينتحرون على أسوار بغداد"، وبات محطاً للسخرية ورمزاً للتضليل العميق، بعدما كان الناس ينتظرونه لفصاحته وعبارته الفريدة في وصف الأميركيين بالعلوج، ولكن في النهاية دون التاريخ اسمه بصورة مرادفة للحرب الإعلامية المنفصلة عن الواقع.
نصرالله أبو الحرب النفسية
عام 2000 ووصف الباحث الاجتماعي الإسرائيلي ياريف بن أليعازر أمين عام "حزب الله" الراحل حسن نصرالله، بأنه "يقوم بعمله بصورة ممتازة وناجحة، ويعمل مع أناس متخصصين بالحرب النفسية"، كما وصفه مراسل القناة الثانية للشؤون العربية أهارون برنيع بأنه أحد كبار المتخصصين في الحرب النفسية. أما المتخصص الإسرائيلي في علم النفس السياسي أودي ليبل، فقد عد نصرالله "أبا الحرب النفسية" كما أوردت عنه صحيفة "معاريف" في الأول من فبراير (شباط) 2007. وقال العميد احتياط في الجيش الإسرائيلي شمعون شابيرا المتخصص في شؤون "حزب الله" ومؤلف كتاب "حزب الله بين لبنان وإيران"، إن "السيد نصرالله محترف في الحرب النفسية، ومتخصص في هذا المجال، والحرب النفسية تحولت أثناء توليه قيادة الحزب إلى مكانة مهمة، وشكلت مفاجأة، واستطاع أن يوصلها إلى مستوى احترافي عال".
ما ميز نصرلله حينها أنه لم يبع الكلام لدرجة اعتراف عدوه بصدقيته وقوة كلامه، وكان ينفذ كل ما يعد به. وفي مقابلة لزئيف شيف مع القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي عام 1996 قال "بدلاً من أن يقوم قائد الجبهة الشمالية عميرام ليفين بإبلاغ السكان بالنزول إلى الملاجئ، فقد قام هذه المرة الأمين العام لـ’حزب الله‘ حسن نصرالله شخصياً بإبلاغ سكان الشمال بالنزول إلى الملاجئ، وهو يقوم بذلك لأنه يشن حرباً نفسية علينا، وهذه المرة الأولى التي يحدث فيها أمر كهذا".
وقال المراسل العسكري للقناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي روني دانئيل، إن "نصرالله يأمر سكان القرى الشمالية بالبقاء في الملاجئ ثلاثة أيام، والواقع أن الإحساس داخل الجيش أن من يملي الأمور على هذا الخط الشمالي، هو تحديداً ’حزب الله‘".
لقد لعب نصرالله حرباً نفسية بصورة احترافية في مواقف عدة من أسر العقيد الإسرائيلي إلحنان تننباوم، إلى جملته الشهيرة عام 2006 متحدثاً عن الباخرة "ساعر"، "انظروا إليها تحترق"، إلى "حيفا وما بعد ما بعد حيفا"، وكلها مواقف جعلت كلام وخطاب نصرلله يؤخذ في الاعتبار، إذ يصدقه الجمهور الإسرائيلي أكثر مما يصدق قادته، وذلك حسب كتاب "أسرى في لبنان" للكاتبين الإسرائيليين يؤاف ليمور وعوفر شيلح.
التحول الإسرائيلي وتدريب الناطقين
لكن جرت الرياح الإسرائيلية واستخبارتها بعكس شراع نصرلله وثقته عام 2024، بعد اختراق "الموساد" الإسرائيلي "حزب الله" بصورة غير مسبوقة أدت إلى عملية "البيجر" الشهيرة، ثم إلى اغتيال نصرلله نفسه المحصن تحت الأرض مع عدد كبير من قادة الصف الأول والثاني والثالث وعناصر كثر في الحزب. وذهب حلم صاحب مقولة "سأصلي في القدس" أدراج ريح عاتية.
فما حصل منذ عام 2006 عندما اعترفت إسرائيل بفشلها في الحرب النفسية وعدم تحقيق أهداف حربها، كما ذكر الإعلام الإسرائيلي نفسه ولجنة فينوغراد، أن تل أبيب انكبت على دراسة إخفاقها، وحولته بعد 18 عاماً إلى نصر ساحق عام 2024.
وفي حين نالت أقلامها الإعلامية من الناطقة الرسمية باسم الجيش الإسرائيلي عام 2006 العميد ميري ريغيف ومن أسلوبها ومعلوماتها التي أثارت السخرية، التي بررتها ريغيف نفسها قائلة "لم أولد أمام الكاميرا، ومن الصعب على البعض حتى داخل المؤسسة العسكرية تقبل وجود امرأة في منصب أمني". فإن إسرائيل نجحت في تدريب أفيخاي أدرعي ليكون المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي.
وباتت تغريداته على منصة "إكس" تخلي الأماكن في الجنوب والبقاع والضاحية، مهدداً بالقصف منذ عام 2023، وسيذكره الشعب اللبناني لردح طويل من الزمن على أنه وجه الخراب. ولكن الرجل كان دقيقاً وصادقاً في كل التوجيهات، على رغم تجاهله إنذارات كثيرة بحجة أنها عملية عسكرية للقضاء إما على مخازن أسلحة "حزب الله" أو على قادته وعناصره.
يتقن أفيخاي لغة عدوه، ويعرف كيف يستفزه، ويوظف أية تغريدة لشخصيات معروفة للاستفادة من أي اختلاف بوجهات النظر وخلق شرخ في المجتمع، وفي الواقع عرف الرجل كيف يستخدم حساباته الرسمية لتحطيم المعنويات وخلق البلبلة كما هي وظيفته تماماً. لم يظهر أدرعي كأنه يبيع الكلام فالإنجاز العسكري الإسرائيلي ألبس كلامه عباءة القوة والجدية، بعكس ما حصل مع ريغيف التي لم تسعفها الإنجازات العسكرية كما يجب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما زال أدرعي يقود الحرب الكلامية ضد إيران منذ أن بدأت إسرائيل القصف عليها في الـ13 من يونيو (حزيران) الجاري، مما أدى إلى اندلاع حرب بين بلدين لا تربطهما أية حدود. وتبدو آليات الحرب النفسية أكثر تنظيماً وأقل ارتجالية، لا تكتفي بالتصريحات العسكرية بل تعتمد على الخطاب العاطفي الموجه للجمهور العربي.
باتت إسرائيل تصدر تحذيرات من أنها "لن تتردد في ضرب طهران"، لكنها ترفقها برسائل ردع إستراتيجية تهدف إلى زعزعة الجبهة الداخلية الإيرانية وزيادة الضغط الدولي على طهران.
ولكن أدرعي ليس وحده في هذا البازار الإعلامي من ناحية إسرائيل، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يترك فرصة للتهديد والوعيد، ومثله رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب، من جهة، والإيرانيون من جهة ثانية.
استعراض إيراني - إسرائيلي
خلال أيام معدودة، تفوق قادة إيران وإسرائيل، ومعهم دونالد ترمب، بحروبهم الكلامية. فحشدوا تهديدات، ثم تبادلوا نيراناً قد تكون محسوبة، وانهالوا بتصريحات بطلتها كلمة "سوف"، وعلى رغم تنفيذ بعضها فإن حجم الكلام يبدو أكبر من الفعل.
فقد أعلن التلفزيون الإيراني الرسمي الثلاثاء الماضي أن هناك مفاجأة الليلة سيتذكرها العالم لقرون. وقبلها بيوم كان التهديد الذي أصدره مجلس الأمن القومي الإيراني "سنحول ليل إسرائيل نهاراً"، و"القادم سيكون أعنف"، وصرح قائد الحرس الثوري الجديد بأن "أبواب الجحيم ستفتح على الإسرائيليين."
من جهته قال نتنياهو إن "الضربة التي نفذناها ضد إيران ستدخل التاريخ مثل ضربة البيجر ضد ’حزب الله‘" في اليوم الأول للهجوم. وبعد أول رد قال مسؤول إسرائيلي للقناة 12 إن إيران ستدفع ثمناً باهظاً لاستهدافها وسط إسرائيل، والسبت الـ14 من يونيو (حزيران) الجاري قال مسؤول أمني للقناة 14 إن طهران هي عنوان هذه الليلة.
هذه التصريحات لا تهدف دائماً للتنفيذ، بل لـ"التأثير الإعلامي" وإرباك العدو، وشحن الجمهور المحلي، وكسب موقف إقليمي أو دولي، لتصبح الحرب الكلامية أداة في حقيبة الحرب النفسية.
أما الرئيس الأميركي دونالد ترمب وقبل أن يضرب المنشآت النووية الإيرانية ويعلن بعدها وقف إطلاق النار وانتهاء الحرب، كانت تصريحاته قد تأرجت وتبدلت بين ليلة ضحاها، أو بالأحرى مرات عدة في اليوم، حتى بات لا يفهم إن كان سيخوض الحرب أم لا، تماماً كرقصة تانغو تتقدم مواقفه وتتراجع، تتصاعد وتهبط.
ففي اليوم الأول قال "ليس واضحاً ما إذا كانت إيران لا يزال لديها برنامج نووي". وفي أقل من 10 أيام انتقل الرجل من التحذير من "كارثة إقليمية وشيكة" إلى التهليل لـ"عملية ناجحة لإعادة ضبط الردع"، قبل أن يستقر على خطاب عنوانه "أنا كنت أعرف".
وعلى رغم أن ترمب سوق نفسه سابقاً كحمامة سلام، محذراً من أن "بايدن يقودنا إلى حرب لا مفر منها"، وقائلاً إنه لو كان هو في البيت الأبيض لما تجرأت إيران على رفع نبرة التهديد، ولا تجرأت إسرائيل على التحرك من دون غطائه. انقلب الخطاب كلياً بعد الضربة الإسرائيلية على مواقع إيرانية، ليتحول ترمب فجأة إلى صقر، مصفقاً للخطوة ومطالباً بـ"مزيد من الحزم"، وقائلاً إن "إيران لا تفهم إلا لغة القوة"، ثم لمح إلى أن الضربة تمت بالتنسيق مع البنتاغون، وأنه شخصياً كان على علم بالتفاصيل منذ البداية.
بدا ترمب، كعادته، يمارس هوايته المفضلة التي تتجلى بالتصعيد اللفظي ثم التراجع الموارب، في رقصة إعلامية لا تبحث عن الحقيقة بقدر ما تبحث عن التصفيق.
في النهاية، فإن ما نشهده ليس فقط مواجهة عسكرية، بل حرباً نفسية متقنة الأدوات، متعددة الجبهات، تعتمد على التخويف أكثر من القصف، وعلى السيطرة على السردية أكثر من الأرض. وسقف هذه الحرب الكلامية لا يعكس بالضرورة الواقع الميداني، بقدر ما يعكس صراع الإرادات والنفوذ في شرق أوسط متحول لا أحد يدري بعد إلى ماذا؟ أما التهديدات فهي، على ما يبدو، عملة شائعة في السوق السياسية، كلما طبعت أكثر فقدت قيمتها.