ملخص
"المدار" رواية الكاتبة البريطانية سامنثا هارفي التي حازت جائزة البوكر العالمية للرواية العام 2024 صدرت في ترجمة عربية أنجزتها زينة إدريس.
كثيرة هي الرسائل التي تنطوي عليها رواية "المدار" للكاتبة البريطانية سامانثا هارفي التي صدرت عن الدار العربية للعلوم "ناشرون"، في ترجمة عربية لزينة إدريس. و"المدار" الحائزة جائزة البوكر العالمية للرواية لعام 2024 هي الخامسة لصاحبتها بعد "البرية"، و"الكل أغنية"، و"عزيزي اللص"، و"الريح الغربية". وقد حظيت بتقدير الصحافة الغربية فور صدورها، فوصفتها "صنداي تايمز" بأنها "رائعة وملهمة". ورأت "نيويورك تايمز" أنها "جميلة تفيض بالسحر"، وأشارت "الغارديان" إلى أن هارفي " تبحر في رحلة مدهشة، وتنظر إلى الأرض بعين عاشقة".
هارفي كاتبة روائية وأستاذة جامعية بريطانية، ولدت في كينت عام 1975، ودرست الفلسفة في جامعة يورك، ونالت الدكتوراه من جامعة باث سبا، وحظيت رواياتها بحسن التلقي، وتم ترشيحها إلى جوائز محترمة، ووصل بعضها إلى القائمة القصيرة لبعض الجوائز. ولعل انشغالها بالقضايا الكبرى وحسن التعبير عنها روائياً هما السبب في ذلك، لا سيما أنها تتمحور حول الأرض والإنسان. وهو ما عبرت عنه بإهدائها الفوز "إلى أولئك الذين يتحدثون باسم الأرض ولصالح كرامة البشر الآخرين، والحياة الأخرى، وجميع الأشخاص الذين يتحدثون عن السلام ويدعون إلى العمل من أجله".
بالدخول إلى الرواية من عتبة العنوان الرئيسة، نشير إلى أن "المدار" في الاصطلاح الجغرافي هو المسار المنحني الذي يسلكه جسم ما حول جسم آخر في الفضاء بفعل الجاذبية، سواء كان طبيعياً كالقمر حول الأرض أو صناعياً كالأقمار الاصطناعية. أما في الاستعمال الروائي فتتعدد دلالاته، وتراوح ما بين المكان الذي ينتظر فيه رائد فضاء ستة أشهر قبل العودة إلى الأرض (ص 62)، والحيز الذي يشعر الموجود فيه أنه بخير و"لن يشعر بالإحباط ولو لمرة واحدة" (ص 117)، والمطل الذي يطل منه المشاهد على الأرض، فلا يحس بالخواء، ويدرك مدى قابليته للامتلاء (ص 118). وبذلك، تتوزع دلالة المفردة على الانتظار والاستقرار والامتلاء والإشراف من عل، وتنزاح في الاستعمال عنها في الاصطلاح، من دون أن تحدث قطيعة بين المجالين.
متون الرواية
تتناول هارفي في روايتها رحلة فضائية حول الأرض، يقوم بها ستة رواد فضاء مختلفو الجنسيات، فتجمع بين شون الأميركي، وتشييه اليابانية، وبياترو الإيطالي، ونيل البريطانية، ورومان وأنطون الروسيين، ولكل منهم مهمة فرعية مختلفة عن الآخر، وتتكامل المهام الفرعية في ما بينها، في إطار المهمة الرئيسة، المتمثلة بدراسة انعكاسات انعدام الجاذبية على الإنسان والحيوان والنبات. ولعل هذا الجمع بين مختلفين قومياً وجغرافياً وسياسياً ودينياً ومتفقين إنسانياً، يشي بمنظور يوتوبي، إنساني، تصدر عنه الرواية، وهو ما يشكل الرسالة الأولى التي تنطوي عليها. والمفارق أن هؤلاء الرواد المتحدرين من أصول مختلفة، والمنتمين إلى دول يناصب بعضها بعضاً التنافس، وتتنازعها المصالح المختلفة، يشكلون على متن المركبة الفضائية عائلة واحدة عابرة للجنسيات، ويدخلون في علاقات وشيجة، ويحملون هوية واحدة هي الإنسانية. وهو ما يتمظهر في الرواية من خلال ما يتبادلونه من أحاديث، ويتوزعونه من مهام، ويستعيدونه من ذكريات، ويحضرونه من وجبات، ويشتركون فيه من طعام وشراب، ويفضون به من لواعج واهتمامات. فهل هو الابتعاد عن الأرض ما يوحد بينهم أم هو التضامن في مواجهة الأخطار المحدقة والمصير الواحد؟
رحلة فضائية
بمعزل عن الإجابة، ترصد الرواية الرواد الستة في رحلتهم الفضائية، بدءاً من انطلاقهم من كازاخستان، مروراً بدورانهم حول الأرض 16 مرة خلال يوم واحد، وانتهاء بتحليقهم فوق الفيليبين وإندونيسيا. وتقوم على جدلية العلاقة بين الفضاء والأرض، وتترجح بين السرد والوصف، فيتناول السرد حركة رواد الفضاء الستة الخارجية داخل المركبة وخارجها، وحركتهم الداخلية بما هي أفكار ومشاعر ولواعج وهموم واهتمامات. ويتناول الوصف الأرض منظوراً إليها من فوق، بقاراتها ودولها وبرها وبحرها، وتتمخض عن هذا الترجح بين السرد والوصف روائية الرواية. وبنتيجة هذا الرصد المزدوج سرداً ووصفاً، تقول الرواية فضول الإنسان العلمي ونزوعه إلى المغامرة واجتراحه الآفاق الجديدة، من جهة، وتقول جمال الكوكب الأرضي حين نبتعد عنه، واستطراداً، ضرورة المحافظة عليه وإنقاذه من الدول والشركات الكبرى التي تعيث هدراً في موارده، وتحول مداره المنخفض إلى مكب للخردة الصناعية. وهنا، نكون إزاء رسالة مزدوجة تتعلق بطموح الإنسان وجشعه، وبجمال الكوكب وهشاشته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتمحور السرد في الرواية حول الرواد الستة وترجحهم بين الحركة الخارجية والحركة الداخلية، فنتعرف إليهم في قيامهم بالمهام المسندة إليهم، وإجرائهم التجارب العلمية، وتموضعهم في البدلات الفضائية، وتحركهم طفواً لا سيراً على الأقدام، وتناولهم الطعام، والتقاطهم الصور، ونومهم في أكياس معلقة، ومراقبتهم الأرض، وسباحتهم في الفضاء، وغيرها، من جهة. ونتعرف إليهم في مشاعرهم وذكرياتهم وأفكارهم، وهو ما يتم التعبير عنه بأفعال من قبيل: يحب، يعشق، يأسر، يفتن، وغيرها. فنيل وشون يتذكران الدوافع الأولى لاهتماماتهما الفضائية، ونيل وبياترو يستعيدان مشاهد بحرية جميلة، وتشييه تحزن لرحيل أمها، ونيل وزوجها الإيرلندي يتبادلان الصور يومياً، وشون يفكر في قيام الإنسان بغزو الفضاء بعدما نهب الأرض، ويحلم بالكعكة النارية في انعدام الجاذبية، ورومان يتذكر قراره صغيراً بأن يصبح رائد فضاء وسخرية الناس منه، وأنطون تراوده رؤيا القمر ثلاث مرات، وتشييه تحلم بأنها في منزل والديها في شيكوكو، وغيرها، من جهة ثانية. وهكذا، يرصد السرد الحركتين الخارجية والداخلية للرواد الستة. ومن خلال هذا الرصد، نروح نواكب النمو التدريجي للشخوص بتعاقب الوحدات السردية، فكل وحدة تضيف شيئاً ما إلى هذا الشخص أو ذاك، إلى أن يبلغ صورته النهائية.
تتمحور رواية "المدار" حول مشاهد الأرض من الفضاء، وهي مدهشة تجعل القراء يتعلقون بها، ويحنون إليها تزامناً مع حنينهم إلى الفضاء الذي يقيمون فيه، فيترجحون بين حنينين، كلاهما موجع. فالأرض من الفضاء "كتلة من التورمالين، لا بل حبة شمام، أوعين، جلال من الليلكي والبرتقالي واللوزي والأرجواني والأبيض والأحمر والمخضب والمزخرف" والقارات تتداخل بعضها ببعض "مثل حدائق نمت على نحو مفرط"، وآسيا "تمر تحتك مرصعة بالجواهر"، وأفريقيا تتلاشى "بكمالها الفوضوي الذي يشبه وعاء يفيض بالفاكهة"، وهضبة التيبت "تتخللها الأنهار، وترصعها بحيرات زرقاء متجمدة كالياقوت"، والبحر الكاريبي "يتوهج بلون فيروزي عميق"، وغيرها.
بين هذين النمطين، يتحرك مكوك النص، لينسج رواية جميلة، تطرح أسئلة كبرى، وترسل رسائل مهمة، مما يجعل الرواية تزاوج بين جمالية الشكل وعمق المضمون، ويبرر التقدير الذي حظيت به، ويجعلها تستحق الجائزة بامتياز.