ملخص
في قلب المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية تحضر خرائط الإخلاء والإنذارات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهي وسيلة استخدمها الجانب الإسرائيلي في حروبه ضد غزة ولبنان واليمن قبل أن ينقلها إلى الجبهة الإيرانية. في المقابل تحاول إيران الظهور بمظهر "الند" من خلال إرسال خرائط لمواقع في حيفا وتل أبيب ومطالبة السكان بالإخلاء والابتعاد عنها.
مساء الخامس من يونيو (حزيران) الجاري، كانت شوارع الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت تعج بالحياة، فالسكان منتشرون في الأسواق يتحضرون لعيد الأضحى. عند الساعة 20:35 شيء ما تبدل. بدأت مشاعر الشك والريبة تتسلل إلى النفوس مع إرسال الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي تغريدة يقول فيها "بعد قليل بيان مهم وعاجل إلى سكان الضاحية الجنوبية في بيروت". وما هي إلا دقائق حتى أرسل خرائط "إنذار بالإخلاء" لسكان 10 مبان موزعة على أحياء مختلفة ومواقع في "عين قانا" جنوب البلاد. لقد شكلت الخرائط صدمة للأهالي، فأكثر من 120 عائلة أصبحت فجأة أمام واجب البحث عن مسكن جديد، ومئات الآلاف خرجوا بحثاً عن مكان آمن ولو موقتاً خارج أكثر المناطق اللبنانية اكتظاظاً بالسكان قبل الحرب الإسرائيلية على بلادهم.
استعاد أهالي بيروت وجنوب لبنان في تلك الأمسية لحظات القلق والإرباك التي عايشها الأفراد والجماعات، حيث وجدوا أنفسهم في مواجهة سياسة عقاب جماعي بسبب الاشتباه بنشاط عسكري هنا أو هناك. أعادت تلك الإنذارات إحياء سياسة "الخرائط الجوية" التي بدأ استخدامها على نطاق واسع في قطاع غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 لدعوة السكان لإخلاء مناطقهم والنزوح نحو مناطق أخرى ومرات متكررة. وهي تجربة تستعاد اليوم في الحرب ضد طهران، لكن الجديد اليوم هو دخول الإيراني نفسه على خط إرسال الخرائط التي تطالب سكان حيفا وتل أبيب بالإخلاء، إضافة إلى الفيديوهات ثلاثية الأبعاد في إطار حربه الدعائية ضد إسرائيل.
خريطة وخريطة مضادة
ثبت الإسرائيلي خرائط الإنذار في قلب استراتيجيته الحربية على مختلف الجبهات المشتعلة في أنحاء الشرق الأوسط. فهو يحاول إثبات تفوقه التكنولوجي والاستخباراتي، ولكنه بالتأكيد يحاول إخضاع أعدائه نفسياً، وخلق موجات من النقمة في البيئة التي يولد فيها، وينمو، ويترسخ أخصامه. باتت الخرائط أداة في حربه النفسية التي يخوضها بموازاة هجماته الجوية المكثفة في قلب المدن التي تبعد أكثر من 1000 كيلومتر عن حدود موقعه الجغرافي.
يؤكد المحلل العسكري حسن جوني، أن "تلك الخرائط هي جزء من الجهد العسكري الإسرائيلي التي يستهدف خصومه وجبهتهم الداخلية"، مشيراً إلى أن "الحرب تخاض في ميادين مختلفة، والميدان الإعلامي مهم جداً بالنسبة إلى الجيوش أثناء الحروب لبث مشاعر القوة والتفوق في صفوف الأنصار واستهداف الأخصام، من هنا نجد أن الدول تلجأ في آن واحد لاستراتيجيات مختلفة، فمن جهة تعتمد أسلوب التعتيم ومنع النشر كما تفعل الرقابة العسكرية الإسرائيلية لعدم التأثير في الجبهة الداخلية ودفعها إلى الوقوف في وجه المستوى السياسي. ولكنها في المقابل تلجأ إلى التركيز على الأهداف والخسائر التي تنزلها بالعدو ووضعه في موقع تلقي الضربات".
يرى جوني في خرائط الإنذار ما هو أبعد من طلبات الإخلاء، فهي تسعى إلى بث الفوضى في صفوف الأخصام، وتستخدمها إسرائيل لتبرير استهدافها مواقع تنتشر فيها المرافق المدنية، والادعاء بأنها لا تخرق القانون الدولي الإنساني، لأن الهجمات والأحداث يتم توثيقها، ويمكن البناء عليها لملاحقة القادة أمام المحاكم بارتكاب جرائم حرب.
غطاء للانتهاكات
يتضح أن استخدام الخرائط متعدد الأهداف من الوجهة العسكرية والسياسية، ولكنها لا تعفي المهاجم من المسؤولية. يجزم جوني أنه "لا يمكن التسامح مع ما تقوم به إسرائيل في لبنان من استهداف مبان وتشريد المواطنين بحجة الشك بنشاط عسكري"، مضيفاً "هناك اتفاق لوقف الأعمال العدائية وتطبيق القرار 1701، وهناك لجنة لمراقبة الهدنة ووقف إطلاق النار برعاية دولية. ومن ثم لا يحق لإسرائيل أن تقوم باستهداف قلب المدن ساعة تشاء، ولا بد من اللجوء إلى تلك اللجنة للتحقق من صحة تلك المزاعم، كما لا يجوز أن تدمر بناء بأكمله وأحياناً مواقع محيطة به لمجرد الاشتباه بنشاط في شقة من شققه. مما يؤكد أن الإسرائيلي يقوم بسياسة العقاب الجماعي ويهدد حياة شعب بأكمله ولا يستهدف أفراداً بعينهم كما يدعي، وهو ما يندرج ضمن الحرب النفسية، لأنه ليس منطقياً أيضاً في قانون الحرب طلب إخلاء مدينة بكاملها، فهل هناك نية لقصف نووي؟".
ويشير إلى لجوء إيران إلى الأداة نفسها من خلال إرسال خرائط إخلاء تندرج في "إطار الرد الإعلامي في موازاة المواجهة العسكرية الميدانية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نقلت إسرائيل سياسة الخرائط إلى حربها مع إيران، جاءت البداية على شكل دعوات عامة من خلال مطالبة السكان بالابتعاد من المواقع العسكرية والنووية. وتحولت لاحقاً إلى مواقع خاصة، فعلى سبيل المثال وبعد منتصف ليل الجمعة 20 يونيو الجاري، وجه الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء في المنطقة الصناعية "سفيدرود" بقرية "كلش طالشان" الإيرانية.
على الضفة الأخرى من المنازلة، وفي إطار ردها على التهم الموجهة إليها باستهداف "مستشفى سوروكا" في بئر سبع، عرضت إيران "فيديو افتراضياً ثلاثي الأبعاد" يتحدث عن وجود قاعدة عسكرية أسفل المستشفى الإسرائيلي في ما يبدو "استنساخاً" لأسلوب إسرائيل، وتذكيراً بالاستهدافات التي قام بها جيشها لمستشفيات قطاع غزة بحجة وجود قواعد عسكرية لحركة "حماس".
كما قامت إيران بنشر صور تتضمن تهديداً بقصف "مفاعل ديمونة قريباً"، إضافة إلى إرسال "الحرس الثوري" الإيراني خرائط إنذار باللغة العبرية لمواقع ومناطق عدة في مدينة حيفا، وفندق شهير في تل أبيب، وتهديد القناة 14 الإسرائيلية رداً على تدمير التلفزيون الإيراني في قلب طهران. وعمقت إيران حربها النفسية من خلال بث فيديو عبر منصة "إيران بالعربية" لجندي يلبس الزي الإيراني، وهو يداعب صاروخاً "محظوراً" ربما يكون نووياً، ومرفقاً بعبارة "ربما".
اكتسبت تلك الخرائط بعض الصدقية إبان الحرب الإسرائيلية على لبنان، مع تحولها إلى ضابط لسلوك السكان في مختلف المناطق، حيث كان ثمة موجات إخلاء كبيرة عقب كل تغريدة يرسلها أفيخاي أدرعي. وقد جاءت لتغطي على تسجيلات "الهدهد 1" و"الهدهد 2" التي التقطتها مسيرات "حزب الله" في الجليل وحيفا، وراكمتها في خانة "الإنجازات الدعائية" خلال المرحلة السابقة على اغتيال القادة واندلاع المواجهة الشاملة.
تاريخياً، لعب الإعلام دوراً حاسماً في الحروب، في هذا الإطار يقرأ أستاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية روي جريجيري خرائط الإنذارات بالإجلاء التي "تتعدى دورها كأداة تحذير مدني، لتشكل سلاحاً نفسياً وإعلامياً واستراتيجياً متعدد الأبعاد. على المستوى القانوني تظهر هذه الإجراءات محاولة للامتثال للقانون الدولي، خصوصاً في ما يتعلق بحماية المدنيين (بصرف النظر عن النيات الحقيقية)، على رغم أن هذا الامتثال يعتمد ميدانياً على اعتبارات عدة مثل حجم المنطقة المطلوب إخلاؤها، وتوقيت الإنذار، والمدة المتاحة للإخلاء، وخيارات الهرب الممكنة، وغيرها".
الرعب الخرائطي
أما على المستوى الإعلامي فيرى جريجيري أن هذه الإنذارات تساعد في تصوير الجهة المهاجمة كطرف "مسؤول"، مما يخفف من حدة الانتقادات الدولية ويشكل درعاً ضد اتهامات محتملة بجرائم حرب. فعموماً نلاحظ أن ردود الفعل على القصف تكون أقل حدة حين تصاحبها إنذارات مسبقة، مقارنة بالحالات التي تتم فيها الضربات فجأة ومن دون سابق إنذار"، مستدركاً "مع ذلك انتقدت بعض الجهات الحقوقية، مثل منظمة العفو الدولية، هذه الإنذارات ووصفتها بالمضللة وغير الكافية (misleading and inadequate)، فهي لا تخفي الطبيعة التدميرية للهجوم".
يتحدث جريجيري عن ظهور مصطلح "الرعب الخرائطي" (cartographic terror) الذي يشير إلى استخدام الخرائط كأداة نفسية ترهيبية، قائلاً "ضمن الحرب النفسية هذه تثير خرائط الإنذارات الذعر والارتباك لدى المدنيين، ليس فقط لحظة تلقي الإنذار، بل خلال عملية الإخلاء نفسها، بخاصة عندما تكون طريقة الإخلاء ووجهتها غير مضمونة الأمان، كما حصل مراراً في غزة. كما أن هذا الضغط النفسي ينطبق أيضاً على الخصم السياسي - العسكري من خلال إظهاره بمظهر المكشوف أو المخترق استخباراتياً، مما يؤدي إلى إرباكه عملانياً ويعزز من صورة التفوق الاستخباراتي للطرف المهاجم".
ويعد جريجيري، أن "هذه الإجراءات تدعم صورة التفوق العسكري والاستخباراتي للطرف المهاجم، وتعزز خطابه الدعائي الذي يبرر الهجمات أمام الداخل والخارج، ويخدم أهداف الحرب النفسية على أصعدة عدة".
في معرض المواجهة الحالية بين إسرائيل وإيران والحرب النفسية المستعرة، لجأ المتحاربون للخرائط مراراً وتكراراً، كما بات واضحاً أن إيران نفسها لجأت إليها أيضاً لمواجهة إسرائيل. وفق ما يعتقد جريرجيري، فإن "ذلك يندرج ضمن الحرب النفسية بالدرجة الأولى، بحيث تهدف إيران من خلالها إلى الظهور بموقع الند المتكافئ استخباراتياً وعسكرياً وتنظيمياً، القادر على الرد بالمثل وبالأسلوب ذاته، وهو ما لم يكن بمقدور التنظيمات الأخرى فعله. هو بالتالي رسالة مركبة موجهة إلى الخصم والجمهور على السواء، حيث تسعى من خلالها إيران إلى استعادة زمام المبادرة النفسية والإعلامية. فإعلان أهداف محددة أو مناطق تهديد علنية ليس فقط سلوكاً عسكرياً، بل يعكس أيضاً تكيفاً مع البيئة الاتصالية الحديثة، حيث تستثمر التقنيات البصرية كالخرائط والصور الجوية ضمن معركة الهيمنة النفسية والسيطرة الرمزية على الفضاء العام".
حقبة جديدة من الحرب
شهد القرن الـ20 تطوراً كبيراً على مستوى الدعاية الحربية، فقد رأى ظهور الفاشية والنازية وجيوش "البروباغندا" وحربين عالميتين كرستا الإعلام كقوة ضاربة في تشكيل الوعي، وهو ما رصده جان ماري دوميناك في كتابه "الدعاية السياسية"، إضافة إلى سلسلة الحروب المصيرية من فيتنام إلى إيران والعراق والخليج وطوال الحرب الباردة. وقد تطور في الموازاة استخدام وسائل الإعلام المتاحة من المنشورات الدعائية، إلى الراديو، والسماعات ومكبرات الصوت الجوالة، وصولاً إلى التلفزيون والإعلام الفضائي. ولكن مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي شهد المشهد الإعلامي الحربي تغييراً كبيراً.
تثير تلك الوقائع سؤالاً في العمق: هل يمكن اعتبار تلك الخرائط بمثابة "طفرة تطورية" mutation في عالم الحرب النفسية وإثبات التفوق الاستخباراتي؟ أم إنها مجرد محاولة للتكيف مع التطور الاتصالي وترسيخ مكانة مواقع التواصل في حياتنا اليوم؟
يجيب جريجيري، "يمكن اعتبار هذه الاستراتيجية طفرة تطورية حقيقية في مجال الحرب النفسية والاستخباراتية، وفي الوقت نفسه محاولة واعية للتكيف مع منطق الاتصال الحديث. فمن جهة، تشكل هذه الظاهرة تطوراً نوعياً في توظيف التفوق الاستخباراتي، إذ لم تعد الاستخبارات تستخدم فقط لضرب أهداف مفاجئة، بل توظف كأداة استعراضية لإظهار التفوق الرمزي. ومن جهة أخرى تظهر هذه الممارسة قدرة الأطراف المتنازعة على التكيف مع البيئة الإعلامية والرقمية المعاصرة، حيث تنتقل المعركة إلى الفضاء المرئي العام. ومن ثم تصبح ساحة المعركة مزدوجة: ميدانية تخاض على الأرض، وذهنية تخاض في فضاء مرئي ومفتوح، حيث تسعى إلى التأثير في الرأي العام وتشكيل الاتجاهات الفكرية السائدة، التي قد تنعكس بدورها على مواقف صناع القرار".