ملخص
في ملامحها التي لا تزال تحتفظ بجمالها، وفي صوتها الذي صار يحمل طبقات من الحنين والصلابة، يختبئ عدد لا يحصى من الحكايات عن زمن سينمائي ولى. إنها هانا شيغولا، 81 سنة، الوجه النسائي الأبرز في سينما ألمانيا الجديدة التي ظهرت في الستينيات.
عادت هانا شيغولا أخيراً إلى الشاشة في "يونان" للمخرج السوري أمير فخر الدين. هي لم تكن فقط ممثلة في أفلام راينر فرنر فاسبيندر، إنما صورته البديلة، ولغته اللحمية، وانعكاس وجعه الداخلي. تقف اليوم، في الثمانين وما فوق، شامخة ووديعة في آن، مثل نصب من الحنين الصافي، كأنها خرجت من حكاية لا زمن لها.
لم تعد شيغولا تسعى إلى دور ولا تحلم بفيلم، بعدما أصبح الغناء شغلها الشاغل في الأعوام الأخيرة. جسر آخر تعبره لتقول ما عجزت عنه الشخصيات التي جسدتها. هناك، على خشبة المسرح، تقف بالرغبة القديمة نفسها: أن توصل شيئاً صادقاً من الداخل. لم تتعلم العزف، ولم تحتج إلى قراءة النوتة الموسيقية. تقول: "كنت أغني كي أهرب من رعاية والديَّ المريضين وحدي"، كان صوتها ملاذاً ونافذة للطفلة التي لم تنسَ حلمها الأصلي.
حين تسألها عن بداياتها تسارع إلى ذكر جان مورو، أيقونة "الموجة الفرنسية الجديدة"، التي ألهمتها السعي إلى التمثيل، لكن القدر أراد أن يكون معلمها فناناً أكثر تعقيداً من رواد الموجة: راينر فرنر فاسبيندر. بين عامي 1969 و1981 شكل فاسبيندر وشيغولا ثنائياً لا يمحى من ذاكرة السينما. "كنت دميته"، تقول، "لكنه كان ضوئي المظلم". عبارة تلخص كل شيء: تلك العلاقة العاطفية والفنية المضطربة، المركبة، المتواطئة على صناعة الجمال من الألم.
شيغولا لم تكن تفتش عن الشهرة كما تقول، رفضت أن تكون "وجه مسلسل بوليسي"، لم تكترث للمجد الزائف، كانت تعرف أن العمل مع فاسبيندر شكل مناعة ضد الرداءة. السينما التي أنجزاها معاً، من "دموع بترا فون كانت المرة" إلى "ليلي مارلين" مروراً بـ"زواج ماريا برون"، كانت أشبه بصرخة ثقافية وسط مجتمع ألماني لم يكن جاهزاً بعد لمواجهة ماضيه أو احتضان المختلف. حين غنت "ليلي مارلين" في آخر أفلام فاسبيندر لم تكن تغني فقط عن الحرب، إنما كانت تروي تاريخاً بأكمله، ذاكرة ألمانية مشروخة تبحث عن شفاء.
شيغولا لا تخاف من الاعتراف بالندم، لكنها تفعل ذلك بنزاهة لا تحول الندم إلى ضعف. رفضت عرض ديفيد لينتش للتمثيل في "الأوتوستراد الضائع" لأنها لم تكن مستعدة نفسياً. "الشخصية كانت عارية طوال الفيلم"، تقول بهدوء، "وفي تلك الفترة، لم أعد أملك تلك اللامبالاة التي كنت أملكها في العشرينيات". الحميمية، في نظرها ليست للمشهد، بل للحقيقة.
تلك الحقيقة، الصادقة والخشنة، ظهرت في معظم أدوارها: امرأة باردة، وحيدة، مذنبة، مترددة، عاشقة، قوية. لا تفضل دوراً على آخر، لكنها تميل إلى شخصيتين: ماريا برون التي أجلت الحياة إلى الغد، ودورها في "قصة بييرا" لماركو فيريري التي عاشت الحاضر بشراسة حتى انتهت في مصح. تضحك وتقول: "إني أحب الأضداد، أبحث عن الحقيقة وسط التناقض"، الحقيقة عندها لا تتكون إلا من خلال صراع داخلي.
لم يكن فاسبيندر وحده من لمس هذا الجانب فيها. اشتغلت مع جان لوك غودار واندره فايدا وكارلوس ساورا وألكسندر سوكوروف. أسماء كبيرة، لكن شيئاً في صوتها يفهمك أن التوهج الحقيقي كان مع فاسبيندر فقط. تقول عنه إنه بمثابة الـ"كوميديا الإنسانية" لبالزاك عند الألمان، وإنه كان يكتب أفلامه كي يثبت لوالدته أنه ليس فاشلاً. كل شيء فيه كان يقف على الحافة: العمل، الحب، السياسة، الموت. "فاسبيندر اختار النسخة القصيرة من الحياة"، تضيف: "أما أنا، فأحب أن أعيش حتى النهاية، كما أنا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التمثيل عندها ليس مهنة، هو موقف، خيار أخلاقي وجمالي. رفضت الاستهلاك ورفضت التسطيح، وربما دفعت ثمن ذلك أحياناً. بعد رفضها فيلم لينتش، ما من مخرج أميركي آخر عرض عليها دوراً. لكن الأهم أنها لم تخن نفسها، وهذا في مهنة التمثيل نادر. أرادت أن تعيش الحرية التي تخولها أن تقول لا، لم تكن تنشد الإعجاب، بل الرضا الذاتي، المعيار الأصعب والأكثر هشاشة.
باريس، حيث عاشت أكثر من 30 عاماً، منحتها نوعاً من السكينة. هناك، بعيدة من جلبة ألمانيا، تشعر بأنها أكثر صفاء. "ذهبت إلى فرنسا كي أتنفس"، تقول. ألمانيا، على رغم حبها لها، فلا تزال تنظر إليها بسخرية. "بلد لا يحب التغيير، راكد ثقافياً"، هكذا تصفه. "برلين وحدها تنبض، لكن بقية الجسد خامد، أما السينمائيون الألمان اليوم، "فيسعون إلى نجاح شخصي لا أكثر".
ترفض شيغولا عمليات التجميل لأنها تؤمن أن الشيخوخة إذا عشناها بكرامة، فهي أجمل تعبير عن النضج. في كل ما تقوله، وما لا تقوله، تبدو شيغولا امرأة تعرف تماماً من هي، وما تريد، وما لا تريد.