ملخص
البنى التحتية المالية قد تعطلت عملياً في إيران، وتلوح في الأفق مؤشرات على انهيار النظامين الاقتصادي والاجتماعي
في ظل تصاعد وطأة الحرب على رؤوس الإيرانيين يوماً بعد يوم، تحولت حياة المواطنين إلى معركة صامتة من أجل البقاء. غادر بعضهم العاصمة، ومن بقي يواجه صعوبات جمة، لكن كلا المجموعتين تعانيان من صعوبات من أجل الحصول على حاجاتهما الأساسية. طوابير طويلة لشراء الخبز والبنزين ونقص وارتفاع أسعار الأدوية وتعطل أجهزة الصراف الآلي وتجميد الحسابات البنكية، إلى جانب انقطاع الإنترنت، كلها مؤشرات على أزمة تضرب أعمق طبقات الحياة الاجتماعية والإنسانية في البلاد.
وفي هذه الأيام، لا يواجه الإيرانيون انعدام الاستقرار في تأمين الغذاء والدواء فحسب، بل يشهدون أيضاً انهياراً في نظام حياتهم اليومية. لم يعد بالإمكان دفع الأموال أو تقديم طلبات شراء أو حتى الاطمئنان على الأحبة. وكأن الأمل نفسه بات يقنن في هذه الأيام القاتمة.
تقنين الخبز
في ظل الأزمة الناجمة عن الحرب، يعاني الإيرانيون من نقص حاد في الخبز، الغذاء الأساسي لغالبية السكان في البلاد، حيث بات يوزع فعلياً بنظام الحصص في العديد من المحافظات. وتبرز هذه الأزمة بشكل أوضح في المحافظات الشمالية التي تشهد تدفقاً غير مسبوق للمسافرين وازدحاماً سكانياً كثيفاً. ففي مدن مثل كرج ومازندران وجيلان وگلستان، أصبحت الطوابير الطويلة أمام المخابز مشهداً يومياً متكرراً، حيث يتطلب شراء بضعة أرغفة من الخبز الوقوف في طوابير لساعات.
مع تزايد الضغوط وتنامي التقارير الإعلامية والشعبية، أعلن المسؤولون المحليون في محافظة مازندران عن إطلاق مخابز تعمل على مدار الساعة. ووفقاً لما ذكره محافظ مازندران، سيتم تحديد عدد هذه المخابز بحسب حاجة كل منطقة وبتقدير من المسؤولين المحليين. وأفادت وكالة تسنيم، التابعة للحرس الثوري، بأن الهدف من هذه الخطوة هو تقليل الطوابير وتحسين وصول المواطنين إلى الخبز.
وفي طهران أيضاً، ادعى رئيس غرفة النقابات أن حصة الطحين المخصصة للمخابز قد زادت، مؤكداً أنه لا داعي للقلق، غير أن العديد من أصحاب المخابز نفوا هذه التصريحات على أرض الواقع. وأكدوا أن الحكومة طالبتهم بزيادة الإنتاج من دون أن تزودهم بكميات إضافية من الطحين.
وأعلن عضو مجلس إدارة اتحاد المخابز التقليدية أن القيود المفروضة على استخدام أجهزة الدفع الخاصة بالخبز، والمعروفة باسم "نانينو"، قد أزيلت، وبات بإمكان المخابز الآن استخدام أي جهاز دفع أو قبول الدفع نقداً. ومع ذلك، تفيد تقارير شعبية بوجود اضطرابات واسعة في الشبكة المصرفية وصعوبة الوصول إلى الحسابات، ما جعل الدفع النقدي الخيار الوحيد في كثير من الحالات. وهذا ما يزيد من معاناة الأسر التي لا تمتلك سيولة نقدية كافية، ويجعل ظروفها أكثر صعوبة.
قال المواطن علي، وهو في منتصف العمر ومن سكان مدينة كرج، إن مخزن الطحين في مخبز حيه شبه فارغ. وأضاف أن "الناس ينتظرون في الطابور لساعتين أو ثلاث فقط لشراء بضعة أرغفة من الخبز، وفي النهاية، لا يحصل الجميع على الخبز، أو يسمح لهم بشراء عدد محدود فقط. والأسوأ أن دخل المخابز يحول مباشرة إلى حساب في بنك سبه، الذي تعرض للاختراق أخيراً، ما يعني أن الخبازين أنفسهم لا يستطيعون الوصول إلى أموالهم، ولهذا السبب لا يقبلون إلا الدفع نقداً".
وعلى رغم الوعود والتطمينات الرسمية، تشير الوقائع الميدانية، والصور المنتشرة، وشهادات المواطنين على شبكات التواصل الاجتماعي إلى استمرار أزمة الخبز في مختلف أنحاء إيران وتفاقمها. وتمثل هذه الأزمة جانباً واحداً فقط من هشاشة سلسلة الإمداد الغذائي في إيران، وهي أزمة تزداد حدتها يوماً بعد يوم في ظل الحرب المستعرة.
نقص في السلع الأساسية
إن الأزمة في سلسلة الإمداد الغذائي لا تقتصر على الخبز، بل تشمل أيضاً سلعاً أساسية أخرى، في وقت لا يزال المسؤولون الحكوميون في طهران يؤكدون وجود استقرار في سوق المواد الأساسية. وقد ادعى أخيراً وزير العدل الإيراني، أمين حسين رحيمي، أنه "لا توجد أي مشكلة في تأمين السلع الأساسية، وأن بوسع المواطنين شراءها بالأسعار الرسمية". ومع ذلك، يبدو أن الحكومة تحاول ربط النقص القائم بما تسميه "الشراء العاطفي" Emotional من قبل المواطنين، في محاولة للتنصل من المسؤولية.
وفي السياق ذاته، ادعى نائب وزير الزراعة جهاد كشاورزى في مقابلة له مع وكالة الأنباء الحكومية "إرنا" أنه "لا توجد مشكلة في تأمين السلع الأساسية، وأن استمرار المواطنين في القيام بمشترياتهم الاعتيادية واليومية كما في السابق سيضمن عدم حدوث أي خلل في توفير وتوزيع هذه السلع".
وعلى عكس هذه الادعاءات، ترسم المشاهدات الميدانية وتقارير المواطنين على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المصادر المحلية صورة مختلفة تماماً. ففي العديد من المحافظات، تعد السلع الأساسية مثل الزيت، الرز والبيض ومنتجات الألبان إما باهظة الثمن بشدة أو اختفت تماماً من رفوف المتاجر.
وقد أدى ظهور سوق سوداء لبعض هذه السلع، لا سيما في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية أو ذات الموارد المحدودة، إلى تعطيل وصول شريحة واسعة من الناس إلى حاجاتهم الغذائية اليومية. وفي بعض الحالات، أبلغ الباعة الصغار أن الموزعين الرئيسيين يمتنعون عن تسليم البضائع أو يبيعونها بأسعار تتجاوز الأسعار الرسمية المحددة، وهو ما يطرح تساؤلات حول صحة ادعاءات المسؤولين الرسمية في شأن التوزيع الجيد والطبيعي.
وقالت ناهيد، وهي امرأة تبلغ من العمر 47 سنة وتسكن في أحد أحياء جنوب العاصمة طهران، إنها تضطر لزيارة عدة متاجر لتوفير حاجاتها اليومية من الزيت والرز إلى البيض والجبن. وتوضح قائلة، "كنت أشتري كل شيء من متجر واحد، أما الآن فأشتري الرز من مكان والتمر من مكان آخر، والجبن واللبن من متجر مختلف".
ووفقاً لما قالته هذه السيدة، فإن أسواق الخضراوات والفواكه تعمل بشكل متقطع، ولم تعد منظومة توزيع الخضراوات والفواكه كما كانت سابقاً، كما أن العديد من رفوف المتاجر الكبرى باتت فارغة، وبعض المنتجات تباع بكميات محدودة فقط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقصة السيدة ناهيد تشبه عشرات القصص الأخرى التي نقلها سكان من مناطق مختلفة في إيران خلال الأيام الماضية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وهي وقائع تظهر أن أزمة نقص وغلاء السلع الأساسية دخلت مرحلة خطرة، على عكس ما يقوله المسؤولون الحكوميون.
يأتي ذلك في وقت صرح وزير الصناعة والتجارة والمناجم، محمد أتابك، يوم 17 يونيو (حزيران) الجاري، على هامش اجتماع مجلس الوزراء، للصحافيين بأن الحكومة تؤمن حاجات المواطنين في المحافظات التي ارتفع فيها الاستهلاك أو تغيرت ظروفها، ولن تكون هناك مشكلة. وأضاف الوزير أن المخزونات الاستراتيجية لم تستنزف بعد.
مع ذلك، تقدم التقارير الميدانية من المحافظات الشمالية، بخاصة في محافظة مازندران وجيلان والبرز، صورة مغايرة تماماً، إذ يشتكي السكان من نقص واسع في المواد الأساسية. وبسبب تزايد الكثافة السكانية الموقتة في هذه المحافظات نتيجة النزوح الناجم عن الحرب، تعرضت الأسواق المحلية لضغوط مضاعفة أدت إلى انهيار فعلي في البنية التحتية للتوزيع وأسهمت في نشوء سوق سوداء.
وتتناقض هذه الحقائق مع الادعاءات الرسمية في شأن عدم وجود مشكلة في تأمين حاجات المواطنين، وتظهر أن التأخر في اللجوء إلى المخزونات الاستراتيجية (إن كانت تصريحات وزير الصناعة والتجارة صحيحة) قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة بشكل أكبر.
نقص الأدوية وارتفاع أسعارها
إضافة إلى أزمة الغذاء، تشهد إيران وضعاً بالغ التأزم في ما يتعلق بالحصول على الأدوية والخدمات الصحية. وخلال الأيام الماضية، وردت تقارير عدة من مدن مختلفة تفيد بإغلاق موقت لبعض الصيدليات ونقص بعض الأدوية الأساسية، بدءاً من المضادات الحيوية وأدوية الأمراض المزمنة، وصولاً إلى الأدوية الخاصة بعمليات زراعة الأعضاء والسكري والصرع. وقد أدى اضطراب في منظومة توزيع الأدوية وتراجع المخزون في المستودعات إلى اضطرار المرضى للانتظار لساعات طويلة أو شراء أدويتهم من السوق السوداء بأسعار مضاعفة، هذا إن وجدت أصلاً.
وفي خضم هذه الأوضاع، تواجه العائلات التي لديها مرضى في المستشفيات تحديات أشد. فهذه العائلات لا تستطيع مثلما يفعل الآخرون مغادرة المدينة واللجوء إلى أماكن أكثر أماناً، كما أنها تبذل جهوداً مضنية لتأمين الأدوية اللازمة لمرضاها وسط النقص الحاد وارتفاع الأسعار.
وفي هذا السياق، قال حامد، الذي ترقد شقيقة زوجته في مستشفى إمام خميني بسبب إصابتها بالسرطان، لصحيفة "اندبندنت فارسیة" إن "زوجتي يجب أن تبقى إلى جانب شقيقتها، ولا يمكننا مغادرة المدينة، لكن المشكلة لا تقتصر على ذلك فقط. قبل اندلاع الحرب، كنا نوفر يومياً حقنتين لشقيقة زوجتي ونسلمهما إلى المستشفى، وبصرف النظر عن ارتفاع الثمن، فقد أصبحت عملية شراء هذه الحقن وسائر الأدوية معضلة حقيقية بالنسبة إلينا".
ووفقاً لما قاله حامد، فإن عديداً من الصيدليات مغلقة، وتلك التي لا تزال مفتوحة تكاد تخلو من الأدوية، كما أن "كثيراً من ذوي المرضى الراقدين في مستشفى إمام خميني، يستخدمون محيط المستشفى كمأوى موقت، ويوقفون سياراتهم بالقرب منه، لكن عناصر قوى الأمن يداهمون المكان بين الحين والآخر ويرغمونهم على مغادرة المبنى تحت الإذلال والشتائم والغرامات".
ورداً على هذه السلوكيات، حاول بعض الأطباء داخل إيران وخارجها سد الفراغ من خلال توفير وسائل تواصل مباشر وتقديم استشارات طبية عن بعد، بهدف تقليل حاجة المرضى إلى التوجه شخصياً إلى المراكز الصحية. وعلى رغم أهمية هذه المبادرات وفاعليتها، إلا أنها لا يمكن أن تحل محل البنية الرسمية للرعاية الصحية، التي انهارت فعلياً في ظل الظروف الراهنة.
تعطل النظام المصرفي في إيران
تشير التقارير الميدانية من مختلف أنحاء إيران إلى أنه حتى في الحالات التي تكون فيها المتاجر والصيدليات مفتوحة، فإن الاضطرابات الشديدة في شبكة البنوك حرمت الكثير من الناس عملياً من القدرة على الشراء، فقد أدى اختراق بنك سبه، وانتشار تقارير متعددة عن انقطاع أو تباطؤ أنظمة الدفع الرقمية، إضافة إلى عدم إمكانية الدفع باستخدام البطاقات المصرفية وحتى حظر بعض الحسابات، إلى أزمة واسعة النطاق في النظام المالي.
تشكل هذه الاضطرابات مشكلة حقيقية خصوصاً لأولئك الذين لا يستطيعون الحصول على النقود النقدية، إذ يرفض العديد من الباعة قبول أي وسيلة دفع غير النقد، بسبب عدم الثقة في أداء الشبكة المصرفية. ونتيجة لذلك، تحرم العائلات التي تعتمد فقط على بطاقاتها المصرفية أو وسائل الدفع الرسمية من شراء أبسط حاجاتها اليومية.
وفي ظل هذه الظروف، لم يعد امتلاك حساب مصرفي أو وجود رصيد في البطاقة الائتمانية يحدث فرقاً. فالبنى التحتية المالية قد تعطلت عملياً في إيران، وتلوح في الأفق مؤشرات على انهيار النظامين الاقتصادي والاجتماعي. فالمسألة لم تعد مجرد أزمة نقص في السلع أو طوابير طويلة، بل باتت تنذر بأزمات أعمق وأشمل في إيران.
نقلاً عن "اندبندنت فارسية"