Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اغتيال العقول في إيران: استراتيجية لتعطيل النووي

منذ عقد، خضعت النخبة العلمية الإيرانية للرقابة الأمنية، لكن الضربات الأخيرة أحيت نهج التصفيات كوسيلة لضرب المشروع في عمقه

صور جنرالات عسكريين وعلماء نوويين إيرانيين قُتلوا في هجوم الـ13 من يونيو، طهران (أ ف ب)

ملخص

الضربات الإسرائيلية الأخيرة ضد البرنامج النووي الإيراني شهدت تصعيداً لافتاً من خلال استهداف ممنهج للكوادر العلمية، ما يشير إلى تحول في استراتيجية المواجهة. بعد أن كانت إسرائيل تركّز على المنشآت النووية، انتقلت إلى ما يُعرف بـ"اصطياد العقول"، حيث تم اغتيال علماء بارزين، في محاولة لتفكيك البنية البشرية للمشروع النووي الإيراني وتعطيل قدراته من جذورها.

منذ عام 2010، لم يكن البرنامج النووي الإيراني محاصراً بالعقوبات الدولية فحسب، بل خضع أيضاً لسلسلة من الاغتيالات التي استهدفت عقولاً تُعد من أعمدة بنيته العلمية. فقد سقطت خمس شخصيات بارزة خلال عقد من الزمن في عمليات نُفذت بأساليب دقيقة، تراوحت بين التفجيرات الموجّهة وإطلاق النار المباشر في شوارع طهران، من بينهم العالم مجيد شهرياري الذي قُتل في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 إثر تفجير عبوة مغناطيسية على سيارته وسط طهران. وفي اليوم ذاته، نجا فريدون عباسي، الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، من محاولة اغتيال مماثلة، بعدما تمكن من الخروج من مركبته قبل انفجار العبوة. وكان عباسي يُعد شخصية محورية في البرنامج النووي الإيراني، وقد وصفته الأمم المتحدة بأنه منخرط في أبحاث سرية لتطوير أسلحة نووية، قبل أن يُقتل لاحقاً في 13 يونيو (حزيران) 2025، ضمن الضربات الإسرائيلية التي استهدفت منشآت ومراكز حيوية مرتبطة بالبرنامج.

وقد أعادت الغارات الأخيرة، التي طاولت أيضاً أسماء مثل محمد مهدي طهرانشي، وسعيد برجي، وعبد الحميد مينوشهر، طرح السؤال الأبرز في هذا النوع من المواجهات: هل انتقلت إسرائيل من استهداف المنشآت إلى تصفية الكوادر؟ إذ يرى مراقبون أن هذا التصعيد يمثل تحوّلاً في قواعد الاشتباك، تُركّز فيه تل أبيب على تفكيك النواة البشرية للمشروع النووي الإيراني، لا الاكتفاء بضرب بنيته التقنية التي لطالما كانت في مرمى النيران.

 

 

إصطياد العقول الإيرانية

اللافت، بحسب المراقبين، أن وتيرة الاغتيالات كانت قد تراجعت بعد عام 2013، عقب ضغوط دبلوماسية أميركية سبقت مفاوضات الاتفاق النووي، قبل أن تعود أخيراً بوتيرة غير مسبوقة، ما يعزّز فرضية أن إسرائيل، على رغم صمتها الرسمي، تُعيد تفعيل سياسة "اصطياد العقول" ضمن استراتيجية أشمل لتعطيل القدرات النووية من مصدرها البشري.

وفي ظل هذه التطورات، يتوسع النقاش داخل الأوساط التحليلية بشأن جدوى هذا النهج، ومدى تأثيره الفعلي في مشروع يرتكز في جوهره على التراكم المؤسسي وإنتاج الكفاءات داخلياً، حتى في ظل الضربات الانتقائية. فهل ينجح هذا المسار في تقويض البرنامج؟ أم أنه مجرد فصل جديد في صراع لم تُكتب نهايته بعد؟

حملة اغتيالات منهجية

بحسب تحقيق نشرته صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، وسّعت إسرائيل في الآونة الأخيرة نطاق ضرباتها داخل العمق الإيراني لتطاول شخصيات علمية وأمنية تُعد من أبرز مفاصل منظومة القرار النووي في البلاد. ووفقاً للتقرير، فإن هذه الهجمات لا تستهدف البنية التحتية المادية فحسب، بل تهدف إلى "إرباك البنية العقلية التي تقود صناعة القرار في طهران"، في مسعى لضرب النواة الذهنية للمشروع النووي الإيراني قبل الوصول إلى مفاعلاته.

وفي السياق ذاته، كشفت صحيفة "نيويورك بوست" أن تسعة من كبار العلماء الإيرانيين قُتلوا خلال الغارات الأخيرة، ووصفت ما جرى بأنه امتداد لحملة اغتيالات منهجية تنفذها إسرائيل منذ عام 2010، تستهدف "الرؤوس المفكّرة" بدلاً من المنشآت، وتسعى إلى شلّ البرنامج من منبعه البشري.

ويستحضر هذا التصعيد عمليات سابقة استهدفت قادة الصف الأول في الملف النووي الإيراني، أبرزهم محسن فخري زاده، أستاذ الفيزياء الذي وصفته تل أبيب ومسؤولون غربيون بأنه "العقل المدبّر" للبرنامج التسليحي الإيراني. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، نُفّذ اغتياله بطريقة غير مسبوقة عبر مدفع رشاش موجّه بالذكاء الاصطناعي، ثُبّت على شاحنة متوقفة على جانب الطريق، وأُطلق عليه النار بدقة متناهية أثناء قيادته، في حين لم تُصب زوجته التي كانت إلى جواره. وقد استغرق تنفيذ العملية أقل من دقيقة، على رغم أنه كان محاطاً بحراسة مؤلفة من 11 عنصراً.

وتعود أولى حلقات هذا المسار إلى عام 2010، حين قُتل مسعود علي محمدي، أستاذ الفيزياء النووية في جامعة طهران، إثر تفجير عبوة ناسفة ثُبّتت على دراجة نارية وُضعت أمام منزله شمال العاصمة، وتم تفجيرها عن بُعد أثناء خروجه إلى عمله.

ويُظهر تسلسل هذه العمليات وتطوّر وسائل تنفيذها، بحسب مراقبين، ثباتاً في الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه البرنامج النووي الإيراني، إذ تستهدف تل أبيب المشروع بوصفه "ذاكرة بشرية" تسعى إلى تفريغها بهدوء وعلى مدى زمني طويل ومدروس.

قطع رأس البرنامج النووي

وفي مداخلة خاصة لـ"اندبندنت عربية"، يرى المحلل الجيوسياسي الهندي غلريز شيخ أن استهداف إسرائيل لعدد من العلماء النوويين الإيرانيين يُمثّل تحولاً نوعياً في قواعد الاشتباك، ويصف هذا المسار بأنه محاولة لـ"قطع رأس البرنامج النووي الإيراني" عبر القضاء على رأسماله البشري وخبراته المتراكمة، لا مجرد شلّ قدراته الفنية. ويقارن هذا النهج باستهداف الحلفاء لعلماء مشروع الصواريخ الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، مثل فيرنر فون براون ووالتر دورنبيرغر، إلا أن "حجم العملية الإسرائيلية الأخيرة، التي أودت بحياة تسعة علماء دفعة واحدة، يرتقي بالمسألة إلى مستوى جديد من التصعيد"، بخاصة مع التصريحات العلنية الصادرة عن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي تعهّد باستمرار العمليات "حتى إزالة التهديد بالكامل".

 

وفي قراءته لأبعاد هذا التحول، يرى شيخ أن "إسرائيل باتت تتعامل مع العقول العلمية الإيرانية باعتبارها ذات خطورة موازية للمنشآت النووية نفسها"، ويضيف أن "رؤية تل أبيب للعلماء بوصفهم طرفاً فاعلاً ومباشراً في التقدم النووي العسكري، تضعهم في مرمى الاستهداف، في تجاوز صريح للأعراف الدولية التي تحمي المدنيين حتى في زمن الحروب غير التقليدية".

تأثير اقتلاع العقول الإيرانية

وعن مدى تأثير اغتيال شخصيات مثل عباسي وطهرانشي في مسار البرنامج النووي الإيراني، يرى شيخ أن "الضربة موجعة على المدى القصير بالنظر إلى أدوارهم القيادية في الإشراف والتوجيه، ما قد يُحدث فراغاً موقتاً ويُبطئ وتيرة التقدم التقني، خصوصاً إذا تكرّرت الاستهدافات ضد شخصيات أخرى".

ومع ذلك، يشير إلى أن "إيران تمتلك قاعدة واسعة من الكوادر العلمية المدرّبة، ما يجعل استعادة الزخم ممكنة بمرور الوقت، لا سيما في ظل دعم مؤسساتي وتعليمي منظّم يُنتج آلاف المتخصصين سنوياً في منشآت مثل أصفهان".

وحين سُئل إن كانت هذه الاغتيالات تُعد أداة فعالة فعلاً لشلّ البرنامج النووي أم مجرد رسائل رمزية، أوضح الخبير الهندي أن "الفعل يحمل بُعدين، أحدهما تكتيكي من خلال تعطيل المسار التنفيذي بالاستهداف المباشر للخبرات، والآخر رمزي ينطوي على رسالة واضحة بشأن جدّية إسرائيل في تعطيل المسار النووي الإيراني وفرض كلفة بشرية مرتفعة على مواصلة هذا الطريق". لكنه يُحذّر من المبالغة في تقدير الأثر، إذ أظهرت التجربة- بحسب رأيه- قدرة إيران على استيعاب الضربات وتجاوز آثارها عبر إعادة توزيع الخبرات وتدريب أجيال جديدة.

المفاوضات النووية

وفي ما يتعلّق بتأثير هذه التطورات على موقف طهران في المفاوضات النووية المقبلة، أردف شيخ أن "السيناريو مفتوح على احتمالين: إما أن تدفع حالة التعرّض المستمر إيران نحو خيار التهدئة والعودة إلى طاولة التفاوض، أو أن تؤدي إلى تصلّب الموقف الإيراني، كما حدث في مراحل سابقة حين واجهت البلاد ضغوطاً أمنية مماثلة". ويؤكد أن "الموقف الإيراني النهائي سيتوقف على معطيات عدة، من بينها حجم الدعم الدولي، واستعداد إسرائيل لمواصلة التصعيد، وردّ الفعل الإيراني المقابل".

وفي قراءته لخلفية هذه السياسة، يشير إلى أن "كوريا الشمالية واجهت اتهامات مماثلة في السنوات الأخيرة"، غير أن ما يميّز ما حدث في يونيو (حزيران) 2025– بحسب قوله– هو العلنية في التنفيذ واتساع النطاق، ما يطرح تساؤلات قانونية وأخلاقية، خصوصاً أن القانون الدولي الإنساني لا يزال يحظر استهداف المدنيين، حتى لو كانوا جزءاً من منظومة البحث الدفاعي.

 

ويعتبر الخبير الجيوسياسي أن اغتيال العقول العلمية في زمن الحروب غير المتكافئة أضحى يُنظر إليه كأداة "مشروعة" من قبل بعض الدول، وهو تطور مقلق يطمس الحدود بين الجبهة العسكرية والمجتمع المدني، ويستدعي مراجعة أخلاقية عاجلة لما بات يُعرف بـ"حرب العقول".

في انعكاس موازٍ لأثر الضربات الإسرائيلية، رصدت مجلة "نيتشر" المتخصصة في الشؤون العلمية، تداعيات غير مباشرة لحملة الاستهداف التي طاولت علماء بارزين في إيران، مشيرةً إلى أن البيئة البحثية في عدد من المختبرات المتقدمة تعرّضت لانهيار ملحوظ، ما أدى إلى تعطّل مشاريع حيوية، ودفع بعض العلماء إلى مغادرة البلاد أو تعليق أنشطتهم الأكاديمية والبحثية خشية الاستهداف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سيناريو ما بعد الانتصار… ماذا لو؟

على رغم ما حققته إسرائيل من نجاحات تكتيكية في ضربات استهدفت العقول المفكّرة للبرنامج النووي الإيراني، فإن سيناريو "الانتصار الكامل" لا يزال محل تشكيك في أوساط التحليل الغربي. فبحسب دراسات صادرة عن مؤسسات مثل "راند كوربوريشن" و"بي بي أس"، فإن تحييد الكوادر العلمية قد يُبطئ البرنامج لأشهر وربما لسنوات، لكنه لا يُلغي البنية التحتية المعرفية التي تتيح لإيران إعادة إنتاج خبراتها. بل إن مثل هذا الضغط، بحسب بعض التقديرات، قد يدفع طهران إلى تسريع خطواتها نحو التخصيب العالي في منشآت مثل "فوردو" و"نطنز".

ومن منظور آخر، يرى المحلل السياسي الكويتي حامد الحمود أن إسرائيل، على رغم تفوّقها الاستخباراتي والتقني الظاهر في الضربة الأخيرة، لن تتمكن من تحويل هذا التفوّق إلى أمن دائم، ما دامت واقعة تحت هيمنة خطاب سياسي متطرّف تمثّله شخصيات مثل بنيامين نتنياهو، وإيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش. ويضيف: "إن إسرائيل قادرة عسكرياً، بدعم أميركي، على ترجيح كفة المعركة، لكن السؤال يبقى: إلى متى؟"، مؤكداً أن استمرار تل أبيب في تجاهل الواقع الإقليمي ورفض الانتماء إلى بيئتها الجغرافية، لن يجلب لها سلاماً، بل مزيداً من الدمار المتبادل.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير