ملخص
في الوقت الذي تستهدف فيه الصواريخ الإسرائيلية منشآت ذات طابع استراتيجي، تتكشف ملامح أزمة أعمق في الداخل الإيراني، تتعلق بطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبالبنية الاقتصادية والاجتماعية التي لم تعد قادرة على امتصاص الصدمات.
تبدو إيران، في سياق حربها مع إسرائيل، كدولة تواجه اختباراً مزدوجاً، تهديداً خارجياً متنامياً، وتصدعاً داخلياً متراكماً. ففي الوقت الذي تستهدف فيه الصواريخ الإسرائيلية منشآت ذات طابع استراتيجي، تتكشف ملامح أزمة أعمق في الداخل الإيراني، تتعلق بطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبالبنية الاقتصادية والاجتماعية التي لم تعد قادرة على امتصاص الصدمات.
هذه الحرب لا تجري فوق أرض مستقرة، بل على رمال تفاوتات جغرافية وإثنية متحركة، ومناطق مهمشة تعاني من نقص الخدمات، ومناخ من عدم اليقين يلف النخبة الحاكمة بين اتجاهين، أحدهما يراهن على مشروع "دولة المقاومة" بوصفه إطاراً للشرعية، والآخر يجنح نحو "دولة البقاء" كمظلة لتفادي الانهيار.
معاناة الداخل الإيراني اليوم لا تُختزل في التضخم الجامح أو تراجع العملة فحسب، بل تمتد إلى أزمة الأجور التي لا تصمد أمام أسعار اللحوم والرز والدواء، وعدم استقرار التيار الكهربائي، لا سيما في المحافظات الفقيرة مثل بلوشستان وكرمان وخراسان وكهكيلويه وبوير أحمد. والجفاف في خوزستان وأصفهان أصبح يُهدد الاستقرار السكاني، وقد بدأ بالفعل نزوح صامت لآلاف العائلات من هذه المناطق. وفي قلب طهران وشيراز وتبريز، تتضاعف الهوة عمقاً بين الطبقة الوسطى المنكمشة وطبقة "الحرس– أوليغارشية".
في امتداد المشهد الذي ترسمه الحرب، لا تقتصر التحديات على الجبهة العسكرية، بل تتسع لتشمل قضايا داخلية عميقة ظلت كامنة لعقود. وبينما تسعى الدولة إلى احتواء تداعيات الصراع عبر خطاب تعبوي يمتد خارج الحدود، تتنامى مؤشرات الإنهاك الداخلي؛ إذ شهدت العاصمة طهران موجة نزوح تجاوزت 330 ألف نسمة عقب التحذيرات الإسرائيلية، ما يعكس حجم القلق الشعبي ودرجة هشاشة البيئة الحضرية في لحظة توتر إقليمي. في المقابل، تزداد صعوبة امتصاص التململ المحلي، ويأتي هذا في وقت لم تعد أدوات التعبئة التقليدية كافية لتثبيت التماسك الاجتماعي أو تجديد الثقة بالمؤسسات. فالحرب، التي اعتُبرت في بعض الأوساط فرصة لاستعادة المبادرة و"تعويم الشرعية"، قد تتحول إلى لحظة كاشفة لحدود التماسك الوطني وللأسئلة الجوهرية المتعلقة بمستقبل الجمهورية، وتوازن السلطة فيها، ودرجة استعدادها لتحمل استحقاقات الداخل.
سردية الخطر
منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، لم تكن فكرة "العدو الخارجي" مجرد عنصر في خطاب التحشيد الثوري، بل أصبحت ركيزة في هندسة الداخل الإيراني وصياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع. فمع اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية، استثمرت طهران هذا الصراع المدمر لتوحيد جبهة الداخل الممزقة بعد الثورة، مستعينة بخطاب تعبوي، وفتح المجال أمام عسكرة الدولة تحت شعار "الدفاع المقدس". لقد شكل هذا النزاع لحظة تأسيسية لصناعة دولة الأمن العقائدي، حيث تماهى الأمن القومي مع بقاء النظام، وسُوغت كل أدوات القمع بوصفها ضرورات وجودية.
منذ ذلك الحين، لم يغب "العدو الخارجي" عن خطاب المرشد الأعلى، الذي واظب على إنتاج سردية الخطر المحيط، سواء عبر الحديث عن "الشيطان الأكبر" أم "الشيطان الأصغر" كعنصرين دائمين في مؤامرة مزعومة تستهدف الثورة ومبادئها. وقد تكرس هذا النهج أكثر في بناء ما يُعرف بمحور "الممانعة"، الذي لم يكن تحالفاً عسكرياً فحسب، بل مشروعاً أيديولوجياً لتبرير عسكرة الداخل واحتكار النظام للشرعية، حيث تُربط المعارضة تلقائياً بالتخابر مع العدو، وتختزل مطالب الإصلاح بأنها غطاء للنفوذ الغربي.
لكن هذا البناء بدأ في التآكل مع تصاعد موجات الاحتجاج، لا سيما في العقدين الأخيرين، إذ اندلعت الاحتجاجات الطلابية عام 1999، والانتفاضة الخضراء في 2009، بقيادة المرشح الرئاسي المعارض وقتها، مير حسين موسوي وزوجته زهرا رهنورد، ورئيس البرلمان الأسبق والمرشح الرئاسي الإصلاحي مهدي كروبي، والتي مثلت إنذارات مبكرة. غير أن الزلزال الحقيقي وقع في 2022، مع انطلاق حركة "المرأة، الحياة، الحرية" عقب مقتل الشابة الكردية مهسا أميني على يد "شرطة الأخلاق". لم تكن هذه الحركة محصورة في بعدها النسوي، بل كسرت حاجز الخوف وأعادت تعريف المعارضة بوصفها فعلاً جماهيرياً عابراً للطوائف والطبقات والقوميات.
اتسعت رقعة الغضب لتشمل الطبقة الوسطى، والإثنيات، والجامعات، والنقابات. وبدت أدوات الضبط التقليدية، كالباسيج، عاجزة عن إعادة السيطرة، في ظل تنامي العصيان المدني والإضرابات. أمام هذا التصدع الداخلي، أعادت طهران توظيف ورقة "الخطر الإسرائيلي"، في محاولة لفرض الانضباط الوطني تحت ذريعة "الحرب الكبرى".
استراتيجية مزدوجة
دخلت المواجهة بين إيران وإسرائيل منعطفاً غير مسبوق منذ أبريل (نيسان) 2024، إذ لم تعد عمليات الاستهداف مقتصرة على الضربات الدقيقة أو حرب الظل عبر الوكلاء، بل انزلقت نحو صدام مباشر ومفتوح، تُستخدم فيه الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية من الطرفين. التصعيد المتواصل، والذي بلغ ذروته هذا الشهر مع استهداف إسرائيل لمواقع نووية إيرانية وقادة عسكريين كبار، ورد طهران بضربات صاروخية جديدة، يعكس تحولاً نوعياً في قواعد الاشتباك الإقليمي، وتحول الخطر الإسرائيلي من عنصر تعبئة رمزي إلى حال حرب فعلية.
في الداخل الإيراني، لا يُفهم هذا التصعيد بوصفه صراعاً خارجياً معزولاً، بل كأداة لإعادة تنظيم المجال السياسي، وتعليق الإصلاحات، وتشديد القبضة على المجتمع تحت مبرر "الوضع الحربي". فمنذ الرد الإيراني العلني عام 2024، دشن النظام مرحلة جديدة من التبرير السياسي، الحرب ليست فقط خياراً دفاعياً، بل ضرورة سيادية تتقدم على أي استحقاق داخلي. وفي هذا الإطار، جرى تجميد مناقشات واسعة حول الفساد، وتراجع الخدمات، والانهيار الاقتصادي المتسارع، فيما قُمعت التحركات النقابية والطلابية تحت ذريعة "حماية الجبهة الداخلية".
الردود الإيرانية المتكررة، ولو جاءت محدودة النطاق نسبياً، تشير إلى استراتيجية مزدوجة، من جهة، إثبات الجاهزية للردع والاحتواء الإقليمي؛ ومن جهة أخرى، تحويل لحظة الحرب إلى شرعية بديلة، تقصي مطالب الإصلاح السياسي والاجتماعي. وبالفعل، فقد تصاعد الخطاب الرسمي عن "المعركة الكبرى" التي تُخاض ضد تحالف إسرائيل- أميركا، في محاولة لإعادة تعريف أولويات الشعب الإيراني، من الاقتصاد والمعيشة، إلى البقاء والصمود.
في المقابل، لا يمكن تجاهل ما تكشفه ردود الفعل الداخلية من إرهاق اجتماعي وتآكل في قدرة النظام على تعبئة الشارع كما في السابق. فالإضرابات العمالية، والمقاطعة الشعبية للانتخابات الأخيرة، والاحتجاجات النسائية والمناطقية، جميعها تشير إلى فجوة متسعة بين الدولة والمجتمع، لم يعد التهديد الخارجي كافياً لردمها.
وهكذا، تدخل إيران صيف 2025 في لحظة مزدوجة، تحارب في الخارج، وتتهرب من الاستحقاقات في الداخل. لكن هذه الحرب، على خلاف تلك التي وظفها النظام في الثمانينيات، تجري في ظل تآكل اقتصادي حاد، وانكشاف اجتماعي أوسع، وفقدان تدريجي لأدوات الضبط الكلاسيكية.
تشققات داخلية
يتكشف التوازن الداخلي في إيران، تحت وطأة الحرب، عن تشققات داخلية تتسارع على خلفية تداخل المسارات السياسية والعسكرية، وتضارب العقائد والولاءات داخل بنية النظام. في صلب هذه المعادلة، يتعمق التباين بين الجيش النظامي، الذي يمثل تقليدياً مؤسسة الدولة، بهيكليته البيروقراطية، وانضباطه المهني، وارتباطه النظري بفكرة الدفاع عن الوطن، وبين الحرس الثوري، الذي يتمدد بوصفه جيش العقيدة والثورة، ويتصرف كلاعب سياسي- اقتصادي فوق الدولة، وليس داخلها. ولئن ظل هذا التمايز تاريخياً تحت السيطرة، فإن الانخراط المباشر في حرب مفتوحة مع إسرائيل يمنح الحرس الثوري ذريعة لتوسيع نفوذه تحت عنوان "القيادة في زمن المواجهة"، وهو ما يقلص أدوار الجيش النظامي ويهمش صوته داخل منظومة اتخاذ القرار الأمني والعسكري.
يتقاطع هذا الصراع المؤسساتي مع انقسام أعمق، بين تيار يضم "المحافظين" البراغماتيين وبعض "المعتدلين"، الذي بات يدرك أن الاستمرار في المواجهة من دون سقف سياسي أو دبلوماسي سيقود إلى إنهاك اقتصادي وأمني طويل الأمد، فيما يرى الثاني والمتمثل في التيار "المتشدد" المتحالف مع الحرس الثوري، أن الحرب فرصة تاريخية لإعادة صياغة النظام بالكامل على أسس تعبوية، تقصي "الإصلاحيين" الذين وصلوا إلى الرئاسة بقيادة مسعود بزشكيان، وتعيد إنتاج قيادة مركزية ذات لون واحد. بهذا المعنى، لم تعد الحرب فقط ساحة مواجهة مع إسرائيل، بل أيضاً آلية داخلية لإعادة فرز مراكز النفوذ وإزاحة الأصوات التي تدعو إلى الانفتاح النووي أو الانخراط المشروط في النظام الدولي.
في خلفية هذا المشهد، يقف المجتمع الإيراني في موقع المتلقي الصامت، أو المضطرب. فكلما ارتفع صوت القذائف في الخارج، تضاءلت قدرة الدولة على الاستماع لمطالب الداخل. الأمن القومي، كما يُعاد تعريفه اليوم، لم يعد يعني حماية المدنيين، بل توجيههم، وإخضاعهم لإيقاع الطوارئ. وهكذا، تتكشف معالم دولة تقاتل على جبهتين، إقليمية خارجية، وداخلية مجتمعية، من دون يقين بأن أياً من الجبهتين يمكن أن تُحسم لمصلحة بقائها على المدى الطويل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيناريوهات محتملة
يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسة، الأول، سيناريو الإدامة القسرية، ويفترض هذا المسار تحول النظام من توظيف الحرب كوسيلة لشرعنة السلطة، واستنزاف طاقة الداخل في مواجهة خطر خارجي مستمر، حتى لو توقفت الحرب. فمع مقتل اللواء حسين سلامي في خضم التصعيد بغارة إسرائيلية داخل العمق الإيراني، أصدر المرشد الأعلى علي خامنئي قراراً بتعيين اللواء محمد باكبور قائداً عاماً للحرس الثوري، في لحظة سياسية وأمنية فارقة. يشكل هذا التعيين انتقالاً وظيفياً داخل بنية الدولة الأمنية العقائدية، من قيادة ذات طابع تعبوي إعلامي إلى قيادة ميدانية عملياتية، نظراً لما يمتلكه باكبور من خبرة طويلة في العمليات غير التقليدية والردع الإقليمي، خصوصاً بعد قيادته لوحدة العمليات الخاصة منذ 2023.
يترافق تعيين باكبور مع اتساع دائرة القلق داخل النخبة الإيرانية، فإذا فشل في تحويل التصعيد إلى رافعة شرعية قابلة للاستمرار، أو إذا تحول الصراع إلى مواجهة مفتوحة تستنزف الداخل، فإن مسار الإدامة سيفقد مبرراته الأخلاقية والوظيفية معاً. هنا، لا تعود الشرعية مستندة إلى القوة، بل تُختبر أمام الشارع الجائع، والمؤسسات المنهكة، والأقليات المتململة.
والثاني، سيناريو الانفجار الداخلي، فمع تفاقم القصف، وارتفاع الكلفة الإنسانية، وتضرر المنشآت المدنية والطبية في مدن مثل طهران وشيراز وتبريز وكرج وأصفهان وإيلام، تبدأ حدود الصبر الاجتماعي بالتآكل. في هذا الإطار، قد تفقد سردية "العدو الإسرائيلي" قدرتها على تعبئة الشارع، خصوصاً بين الفئات المهمشة، والأقليات القومية، والطبقة الوسطى المتآكلة. ويتحول الغضب من الخارج إلى الداخل، وتتسع الهوة بين الشعب والنظام. في هذا السيناريو، يصبح الانفجار الاجتماعي احتمالاً مرجحاً، يقود إلى تفكك تدريجي في العقد الوطني ويهدد ركائز الجمهورية نفسها.
أما السيناريو الثالث، ففي حال فشلت الحرب في تحقيق أهدافها، لا سيما في ما يتعلق بردع إسرائيل أو احتواء الاحتجاجات الداخلية، قد يجد النظام نفسه مجبراً على التراجع السياسي، والدخول في مفاوضات من موقع أضعف. هذا التراجع قد يفتح المجال أمام إعادة توازن داخل النخبة الحاكمة، خصوصاً مع تصاعد الضغوط الغربية، واستنزاف الموارد، يصبح الانفتاح المدروس خياراً اضطرارياً لا رغبة استراتيجية.