ملخص
بعد كتابيه الحواريين السابقين "الآخر بيننا" و"يتلهون بالغيم" يدعونا الشاعر والمترجم المغربي حسن الوزاني في كتابه "أفريقيا المدهشة (دار العين، القاهرة)، إلى تجديد بل وتمتين الصلات مع أدب أفريقيا السوداء.
عملت الأوساط المتحكمة في تداول الآداب العالمية على تهميش النتاج الإبداعي الأفريقي في حقل الكتابة. وأسهم القارئ العربي والناشر العربي على السواء في هذا التحجيم المجحف لتجارب أدبية لا تقل في قيمتها الإبداعية عن تجارب القارات الأخرى. وإن كانت ثمة أسباب كولونيالية وأخرى ذاتية أسهمت في خلق هذه الهوة بين الأدب الأفريقي وقرائه في الخارج، فإن الوقت حان لرفع هذا الحيف الثقافي، إذ لا يعقل أن ننتظر الاعتراف الأوروبي والأميركي مثلاً بالكاتب الأفريقي حتى يتسنى لنا في العالم العربي أن نصل إلى هذا الاعتراف والتقدير.
لهذه الأسباب سعى الوزاني إلى الكشف عن مناطق الجمال والدهشة في الأدب الأفريقي، عبر حوارات طويلة ومعمقة مع كتاب من جنوب أفريقيا والكاميرون والطوارق والنيجر وجزر القمر وجيبوتي ومدغشقر وزيمبابوي والتوغو والغابون وساحل العاج وجزيرة مايوت وجزيرة لاريونيون.
أوكل حسن الوزاني إلى الشاعر والإعلامي علي العامري مهمة كتابة مقدمة لأفريقيا المدهشة، أو ما سماها العامري "القارة الثقافية المنهوبة". ووقف الكاتب الفلسطيني عند مفارقة أفريقيا الثرية والفقيرة في الآن ذاته، متأسفاً لأن العين الاستعمارية الغربية القديمة والحديثة "لا ترى سوى جانب واحد من قارة أفريقيا، يتمثل في مستودع الذهب والألماس واليورانيوم والبن والكاكاو والنفط والغاز". وهذه العين المفعمة بالأطماع المادية لا ترى في المقابل الثراء الثقافي والتنوع اللغوي داخل القارة السمراء، لذلك يرى العامري أن الحوارات التي ضمها كتاب الوزاني "تكشف عن تفاصيل من سيرة الألم في جسد أفريقيا وفي روحها".
الأولوية للكتاب البيض
آثر حسن الوزاني أن يكون الحوار الأول في كتابه مع الروائية والشاعرة والمترجمة سيندوي ماكونا من جنوب أفريقيا، التي تقلدت عدة مناصب في منظمة الأمم المتحدة، ثم عادت إلى بلدها لتتفرغ للكتابة. عادت سيندوي، وهي من مواليد الأربعينيات، إلى زمن الفصل العنصري، وما عانته البلاد من الغيوم السوداء للأبارتايد، وما عاشه أفراد جيلها من ظلم، وما ترتب عليه في كتاباتهم. واعترفت بأن مايا أنجيلو ونادين جورديمر شكلتا مرجعيتها الثقافية الأولى. لقد مارس عليها كتاب أنجيلو "أعرف لماذا يغرد الطائر الحبيس" كثير من السحر، ودفعها إلى اختيار نوع من الكتابة مغلف بالجمال طبعاً، لكنه مبطن بالنضال.
ترى سيندوي أن سلاح الكتاب هو خيالهم، لكن وظيفة الكتابة أيضاً هي تناقل تاريخ البلد وأحلامه وأحزانه وإخفاقاته وانتصاراته بين الأجيال. فالكاتب شاهد كبير على ما يقع، وينبغي أن يدلي على الدوام بشهادته.
لم يحظ الأدب المكتوب باللغة الأفريكانية، وهي اللغة الرسمية لجنوب أفريقيا، بالتقدير إلا مع مطلع القرن الـ20، إذ تأسست أكاديمية العلوم والفنون واجهة الثقافة المحلية عام 1909، وخُصصت أول جائزة لهذه اللغة عام 1914. لذلك ستظهر تباعاً كثير من التجارب التي اختارت اللغة الأفريكانية بالموازاة مع تجارب أخرى تكتب في جنوب أفريقيا باللغة الإنجليزية. وعلى رغم ذلك يحظى الكتاب البيض باهتمام الناشرين والمؤسسات الثقافية والإعلامية على حساب الكتاب السود، وهذا ما تتأسف عليه سيندوي وتعده حيفاً مستمراً، يشكل ظلاً وامتداداً لتاريخ الفصل العنصري.
يقف الوزاني مع الكاتبة الكاميرونية دجايلي أمادو أمال عند التضحيات التي يقدمها الكتاب من أجل ما يكتبونه، منطلقاً معها من حادثة طريفة، حين باعت كل ما تملكه من مجوهرات من أجل تمويل مشروعها في الكتابة. وتجيب دجايلي عما إذا كان الأدب يستحق مثل هذه التضحية "الكتابة فرضت نفسها عليَّ عن قناعة. ما قيمة المجوهرات إلى جانب قناعة راسخة بصورة نهائية؟".
تقسم دجايلي أمادو أمال تاريخ الأدب في الكاميرون إلى ثلاث محطات، المرحلة الكولونيالية ومرحلة الثورة ثم مرحلة الجيل الجديد الذي استطاع كتابه أن يحققوا حضوراً قوياً داخل البلاد وخارجها، ويحظون بأرقى الجوائز. وهو جيل، حسب الكاتبة الكاميرونية، تمكن من استثمار التكنولوجيا الحديثة، ومن ثم الانفتاح على ثقافات العالم. ويُشار في هذا الصدد إلى أن دجيلي أمادو أمال أول كاتبة كاميرونية تصل إلى القائمة النهائية لجوائز غونكور، وحققت رواياتها مبيعات مهمة داخل فرنسا.
محنة النشر
يرى الشاعر والمسرحي والإعلامي النيجري سالي بودي بالي أن على الكاتب الأفريقي أن ينفتح على العالم، ويخرج من انطوائيته، وإحساسه بأن الآخر متفوق عليه. والحقيقة أن الأسماء الجديدة في الأدب الأفريقي تتدافع من أجل الحصول على مواقع بارزة في الحركة الثقافية العالمية، لذلك لجأ عدد من كتاب النيجر إلى ممارسة مهام موازية للكتابة، كالنشر والترجمة وإدارة التظاهرات الثقافية، من أجل أن يكون لكتاباتهم حظ كبير من الحضور والتداول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتأسف الكاتب النيجري لأن الأعمال الأدبية المنشورة داخل أفريقيا لا تحظى بالتغطية الإعلامية اللازمة، قياساً منع التي تصدر في أوروبا مثل من لدن كتاب أفارقة. وهذا العائق الجغرافي يشكل عنصراً ظالماً لأدب لم يستطع في غالبيته أن يتجاوز الحدود المحلية، لذلك يلجأ عدد من كتاب الداخل إلى نشر أعمالهم في بلدان أوروبا، خصوصاً فرنسا وبريطانيا، بحثاً منهم عن حضور إعلامي وازن، وعن الوصول أيضاً إلى بوديومات الجوائز الدولية.
"أفريقيا هي مختبر العالم وموئل المعجزات"، هذا ما يقول الشاعر والروائي جان لوك رهاريمننا من مدغشقر، ويتأسف على حال بلاده الغارقة في الطاعون والمذابح وتجارة الخشب. وينتقد جان لوك الإنسان الراهن الذي يهدم تدريجاً مساحات العيش، ويتحسر على حال الأدب في بلاده، إذ ثمة عجز هائل عن نشره على المستوى المحلي أو الدوليين فقد يكون كتاب مدغشقر غزيري الكتابة لكنهم في المقابل قليلو النشر.
انفتاح على الثقافة العربية
يسعى عدد من كتاب أفريقيا السوداء إلى تجاوز النصوص المكتوبة بالفرنسية والإنجليزية، والانفتاح على ثقافات أخرى توجد العربية من ضمنها. ويهتم الروائي والشاعر الكاميروني أوجين إيبودي بالتراث الفكري العربي، واشتغل على ابن سينا وابن رشد والفارابي، وعدَّ أن إرث ابن خلدون عابر للتاريخ، وعبر عن إعجابه بالأعمال الفكرية للفيلسوف المغربي علي بن مخلوف. ومن جهته عبر الروائي والمسرحي الكونغولي كايا مخيلي عن إعجابه بشعر محمود درويش وحبه لسينما يوسف شاهين، وقراءته المبكرة لروايات كاتب ياسين والطاهر بنجلون، وصداقاته مع الكتاب العرب أحمد عبدالمعطي حجازي وبلند الحيدري ومصطفى عمي والطاهر بكري.
أما الشاعر والروائي التشادي نمرودبينا دجانغرانغ فقد صرح لحسن الوزاني بأن حلمه هو أن ينشر أعمال الشعراء العرب السود. وأكد أن الثقافة العربية منتشرة داخل تشاد، وتشكل مرجعاً أساساً في المعرفة والأدب. غير أنه يتأسف لأن الذين يتمكنون من القراءة في تشاد لا يتجاوز عددهم خمس سكان البلاد، بسبب الأزمة الطاغية للأمية.
إن الثقافة العربية هي "المشعل الذي يضيء الكون". هذا ما يصرح به الكاتب السنغالي أمادو لامين صال لحسن الوزاني، مشيداً بتاريخ الشعر العربي وبما عرفه من حضور قوي وتأثير عالمي في أزمنة توهجه. يستحضر صال الجرجاني والمتنبي وهو يتحدث من زاويتي النقد والإبداع عن الشعر الذي كانت تصنفه العرب قديماً علماً من علومها.
حين سأل الوزاني الشاعر السنغالي: "كيف يمكن أن تكون كاتباً أفريقياً خلال الوقت الراهن؟"، أجابه على النحو التالي "بالصراخ، بالصراخ بصوت عال، لأن أفريقيا جميلة، لأن هذه القارة معجزة. يفترض أن تكون الثقافة رأس الحربة في سياساتنا للدفاع عن أفريقيا والترويج لها. ومن دون الثقافة نحن عراة".