Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سينما البرازيلي مندونسا فيلو تختبر الذاكرة والحواس

بدأ ناقداً ثم مبرمجاً لصالة عرض فتنته الهندسة المكانية وجذبه الهامش السياسي

من فيلم "باكوروا" الفائز بجائزة لجنة التحكيم (ملف الفيلم)

ملخص

لم يهبط المخرج البرازيلي كليبير مندونسا فيلو، 56 سنة، على عالم الإخراج السينمائي فجأة، كما أنه لم يتخرج في معهد فني مكرس، ولا يتحدر من تقاليد عائلة لها تاريخ طويل في الفنون. هو من أولئك الذين قضوا زمناً طويلاً قبالة الشاشة، مراقبين، محللين، كاتبين، قبل أن يتقدموا في اتجاهها، آتين إليها من بابها الخلفي.

هذا الذي نال جائزة الإخراج في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ عن فيلمه "عميل سري"، عاش جزءاً من مراهقته في بريطانيا، ثم عاد للبرازيل ليدرس الصحافة. من هذه الزاوية تحديداً دخل إلى السينما: ناقداً، ومبرمجاً لصالة عرض، ومراسلاً ثقافياً يغطي دورات مهرجان كان، دورة تلو أخرى.

في التسعينيات، لم يكن في وسعه إنجاز الأفلام. التمويل لم يكن متاحاً، والسينما التي أرادها لم تكن من النوع الذي ينتج كثيراً في بلاده. لذلك واظب على النقد السينمائي الذي أصبح البديل الطبيعي والمتنفس الوحيد، لكنه لم يكن مجرد مرحلة عابرة في مسيرته، إنما ممارسة احترفها 13 عاماً. مارسها بكل وعيه، مواصلاً التعليق على الأفلام حتى بعد أن أصبح مخرجاً. يعلق قائلاً: "دائماً ما كنت أتدبر أمري لأجد منبراً إلكترونياً لأكتب فيه عن الأفلام، وأحصل على بادج يتيح لي الدخول إلى الصالات ومشاهدة الأفلام".

هناك شيء صادق عند مندونسا فيلو في هذا الحنين إلى دور المتلقي، إلى تلك العلاقة الخاصة التي تربط الكاتب بالفيلم، علاقة تغذيها المسافة والفضول، قصته الشخصية مع المهرجان تظهر حساسيته للغة النقد وإيمانه بدورها. يروي أنه خلال مقابلة مع أحد المخرجين عام 2002، لاحظ كيف تبنى المخرج آراء النقاد كأنها أفكاره الخاصة. لم يسخر من ذلك، بل وصفه بأمر جميل، لأنه يعكس كيف أن التبادل النقدي يمكن أن يصوغ وعي الفنان حتى بأثر رجعي.

ثاني فيلم روائي طويل له، "أكواريوس" (2016)، كان نقطة تحول. الفيلم، الذي تدور أحداثه في مبنى قديم في مدينة ريسيف (مسقطه)، إذ تواجه امرأة مسنة ضغوطاً لبيع شقتها لشركة تطوير عقاري. عمل عن الذاكرة انطلاقاً من نقد الاقتصاد النيوليبرالي، في لغة خافتة لا تخلو من الغضب المكتوم. البطلة، كلارا (الممثلة الشهيرة صونيا براغا)، لا تملك سوى الذكريات التي تسكن المكان. مقاومة التخلي عن شقتها ليست موقفاً عاطفياً فحسب، بل فعل سياسي مضاد لماكينة لا ترحم، تستبدل كل شيء بالقيمة السوقية.

الرأسمالية اللطيفة

لكن "أكواريوس" ليس فيلماً شعاراتياً، "الرأسمالية اللطيفة"، كما يسميها مندونسا، هي ما يقاومه هنا. هذا النوع من العنف الذي يبتسم ولا يصرخ، ويعرض تعويضاً مالياً مغرياً بدلاً من أن يطردك مباشرة. والمقاومة التي يصورها ليست بطولية، بل إنسانية جداً، معقدة، يومية. يشير المخرج إلى تفاصيل هندسية في الفيلم: علاقة الداخل بالخارج، النوافذ، الأبواب، المساحات التي تتحرك فيها الشخصيات، مستحضراً تأثره بالمخرج الأميركي جون كاربنتر. لكن الرعب هنا ليس قدوم قاتل ملثم كما في أفلام الأخير، بل الخوف من محو المكان الذي شكل هوية ساكنه.

النجاح النقدي لـ"أكواريوس" فسح لمندونسا الطريق لإنجاز "باكوراو" (2019)، بالاشتراك مع جوليانو دورنيليس. الفيلم، الذي حاز جائزة لجنة التحكيم في كان، يذهب بعيداً من المدينة إلى الريف البرازيلي، حيث قرية نائية تدعى باكوراو تعيش على هامش الزمن. تنقطع عنها الإشارة وتمحى من الخرائط، فيبدأ تهديد خارجي بالتسلل إليها. لكن كما الحال في "أكواريوس"، لا يقدم مندونسا صراعاً بسيطاً بين خير وشر، بل يضعنا أمام مجتمع مصغر، أبعد ما يكون من المثاليات، يعيش تناقضاته، لكنه في النهاية يعرف كيف يقاوم.

المخرج نفسه يرفض تصنيف أفلامه على أنها "سياسية" في المعنى المألوف. يقول إنه لا يحب الخطاب المباشر، وإنه يفضل أن ينبع الموقف من الظروف نفسها، من الشخصيات، من الحياة كما تعاش. يقارن الأمر برغبة غير منطوقة بين شخصين في حانة، لا يعترفان بها بالكلمات، لكنها موجودة في لغة الجسد. هذه هي طريقته في قول الشيء من دون أن يقوله، أي في التلميح الذي يحفز التأويل لا التلقين.

يلاحظ في أفلامه حساسية خاصة تجاه العمارة، لا كمجرد خلفية، بل كمكون درامي. في "أكواريوس"، البيت ليس ديكوراً فحسب، إنما كيان يهدد ويقاوم. يرى في المعمار وسيلة لطرح أسئلة الأمن، الخصوصية والانكشاف. وهذا ما يجعله يختار الزوايا العريضة والعدسات الأنافورمية (على رغم كلفتها)، لأنها تمنحه القدرة على قول ما لا يقال. "حصلت على صورة خاصة عند استعمالها"، يقول، مبيناً إلى أي مدى، ليست الجماليات عنده ترفاً بل ضرورة.

لا يتنصل مندونسا من خلفيته الطبقية المعقدة، ولاية برنامبوكو، التي ينتمي إليها، لديها نوع نادر من "اليسار الأريستوقراطي"، بحسب تعبيره، بخلاف مناطق أخرى في البرازيل حيث الأريستوقراطية تميل إلى اليمين. يعلق ساخراً: "هل هذا يعني أنهم لطفاء مع خدمهم؟ إطلاقاً. هم لا يزالون يتعاطون معهم كما كان الأسياد يتعاطون مع عبيدهم، لكنها أريستوقراطية تقرأ، تهتم بالثقافة، وتستوعب قيماً يسارية، حتى لو بقيت ممارساتها متناقضة".

في هذه الخلفية الاجتماعية، نجد تفسيراً للتوتر الطبقي في أفلامه: الحنان المشوب بالانتباه والنقد المغلف بشيء من الحب، لا يخفي إعجابه بأفلام السبعينيات، ولا يخجل من أن قراراته البصرية تأتي أحياناً من متعة المشاهدة القديمة. يقول إنه لا يريد للمشاهد أن يبدأ بقراءة أسماء الطاقم في البداية، بل أن يدخل مباشرة في الصورة. وكأن السينما عنده ليست دعوة إلى المعرفة، إنما دعوة إلى الحظة المشاهدة بوصفها اختباراً للذاكرة، للحواس، ولما يمكن أن تفعله بنا صورة واحدة نشاهدها في الظلام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع فيلمه الأحدث، "عميل سري"، بلغ مندونسا فيلو مرتبة من التقدير النقدي. فيلمه هذا يجمع بين الجرأة الفنية والتعقيد السردي، إذ تدور أحداثه في السبعينيات، عائداً بنا لمرحلة الديكتاتورية العسكرية في البرازيل، لكن من منظور ذاتي وفني يحدث قطيعة مع السرد الكلاسيكي. يقدم شخصية مارسيلو (فاغنر مورا)، الرجل الذي يعود لمسقطه هارباً من ماض ثقيل، في حبكة تتقاطع بين الماضي والراهن، وتغوص في الذاكرة الفردية والجماعية. يمزج العمل بين الواقعية السياسية والغرائبية، مع سرد متعدد الطبقة يتطلب انخراطاً كاملاً، من المشاهد. أسلوب الإخراج البصري الهادئ والمناخ الخانق يعكسان الخوف المستمر من القمع، في مجتمع تبث فيه الريبة في كل زاوية.

الفيلم ليس سهلاً في تلقيه، لكنه يمنح تجربة سينمائية تفاعلية، تؤكد مكانة مندونسا كصوت مهم في سينما أميركا اللاتينية الحديثة.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما