ملخص
وجد الخصمان اللدودان، إيران وإسرائيل، نفسيهما يقفان على أرضية مشتركة في رفض حل الدولتين، على رغم أن دوافعهما مختلفة كلياً. فبينما ترفض إسرائيل هذا المسار باعتباره تهديداً استراتيجياً لكيانها، ترى فيه إيران "اعترافاً مغلفاً" بالاحتلال الإسرائيلي، وتطرح بديله: دولة واحدة بلا صهيونية، حسب قولها.
ليس غريباً أن ترفض إسرائيل "حل الدولتين"، فهذا ديدنها منذ اندلاع الصراع قبل منتصف القرن الماضي كدولة محتلة، لكن اللافت أن تتفق معها إيران في ذلك، بذرائع مغايرة.
إلا أن دوافع الطرفين ربما كانت السبب الرئيس في اشتعال حروب "7أكتوبر" في غزة وبيروت وصنعاء، بإيعاز من طهران لإفشال صفقة مرتقبة بين السعودية وإسرائيل مشروطة بدولة فلسطينية، ثم جاء الدور الإسرائيلي هذه المرة بشنها حملة ضد إيران الجمعة الـ13 من يونيو (حزيران) الجاري، لأهداف عدة، ليس أهونها إحباط انعقاد مؤتمر "حل الدولتين" برئاسة مشتركة بين السعودية وفرنسا، الذي أجل بسبب الحرب.
وهكذا وجد الخصمان اللدودان، إيران وإسرائيل، نفسيهما يقفان على أرضية مشتركة في رفض حل الدولتين، على رغم أن دوافعهما مختلفة كلياً. فبينما ترفض إسرائيل هذا المسار باعتباره تهديداً استراتيجياً لكيانها، ترى فيه إيران "اعترافاً مغلفاً" بالاحتلال الإسرائيلي، وتطرح بديله: دولة واحدة بلا صهيونية، حسب قولها.
يأتي ذلك في حين أقر وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبداللهيان بتلك المفارقة بصورة مباشرة، حين قال "الشيء الوحيد الذي يجمع إيران وإسرائيل هو أنهما لا يؤمنان بحل الدولتين".
دولة واحدة لا اثنتين
ترفض إيران حل الدولتين من منطلق أيديولوجي، إذ ترى فيه، وفق أدبياتها السياسية، مدخلاً لتصفية القضية الفلسطينية وتثبيت "الكيان الصهيوني" عبر سلطة فلسطينية منزوعة السيادة. وتفضل طهران بديلاً يتمثل في "دولة واحدة ديمقراطية" تضم الجميع، ويتم تحديد شكلها النهائي عبر استفتاء يشمل السكان الأصليين: المسلمين والمسيحيين واليهود.
لكن الإيرانيين بعد الضغوط التي طاولتهم بعد السابع من أكتوبر 2023 والمقاربات التي انتهجتها الدول العربية مع حكومتهم، حاولوا مراجعة هذا الموقف، إذ أثار إصلاحيون في طهران نقاشاً حول إمكان التحول عن معارضة طهران التاريخية لحل الدولتين في الأراضي الفلسطينية، الذي يتطلب الاعتراف بإسرائيل.
رئيس تحرير "إندبندنت عربية" عضوان الأحمري: الدبلوماسية السعودية حاضرة دائما لاحتواء أي تصعيد في المنطقة@Adhwan #الشرق_للأخبار pic.twitter.com/guh85KkQD8
— Asharq News الشرق للأخبار (@AsharqNews) June 15, 2025
في الـ21 من أكتوبر 2024، أصدر مجلس المحاضرين والعلماء في حوزة قم بياناً دعا إلى "عودة النظام الصهيوني إلى حدوده القانونية قبل عدوان 1967 وتشكيل دولة فلسطينية مستقلة"، وهو دعم ضمني لحل الدولتين أثار احتجاجات في قم. وصفت صحيفة "كيهان" المتشددة المجلس في حينه بأنه "آلة دعائية للعدو"، واعتبرت "اعترافه بنظام إسرائيل المفتعل" بأنه "حقير ومخز"، بينما لوح رئيس السلطة القضائية بإغلاق المجلس، بينما ردت المدرسة الدينية مؤكدة أنها تدين "الجرائم الشنيعة التي ترتكبها الدولة الصهيونية"، لكنها ترى أن دولة فلسطينية مستقلة ستوقف إراقة الدماء.
تراجع متأخر
في هذا الصدد نقلت صحيفة "الغارديان" البريطانية نفى المؤرخ آراش عزيزي أن تكون الأزمة العسكرية بين إسرائيل وإيران الوشيكة (قبل اندلاعها) تعوق هذا النقاش، وقال "تمر إيران بمرحلة انتقالية. المرشد الأعلى يبلغ من العمر 85 سنة، والسلطة تنقل إلى جيل جديد. لا يمكن لإيران أن تستمر في هذه الأزمات المستعرة. لم تفلح استراتيجية الخميني القائمة على اللاحرب واللاسلم، لا ينبغي أن يكون من شأن إيران أن تريد تدمير إسرائيل، ثم تصرح بأنها لا تريد الحرب، هذه لحظة الحقيقة".
وأضاف "لو كان هناك اتفاق فلسطيني - إسرائيلي فلن تتمكن إيران من فعل كثير"، مشيراً إلى أن وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف قال إن الإيرانيين سئموا من حكومة "تحاول أن تكون أكثر تأييداً للفلسطينيين من الفلسطينيين أنفسهم". بدأت المرونة في عهد إبراهيم رئيسي بدعم قرار أردني في الأمم المتحدة يدعم حل الدولتين، مما يعكس صراعاً بين التيار الثوري والإصلاحيين البراغماتيين.
لكن وزير الخارجية الحالي عباس عراقجي، قبل اندلاع الصراع الحالي بين بلاده وتل أبيب، رفض موقف منظمة التعاون الداعي إلى مسارعة الخطوات في سبيل "حل الدولتين"، قائلاً "مع احترامنا لآراء بعض الدول الشقيقة في شأن حل الدولتين، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تتمسك برأيها بأن هذا الحل لن يؤدي إلى تحقيق حقوق الشعب الفلسطيني".
وبرر موقفه بأن إيران لا تريد أن يفهم من منظمة التعاون الإسلامي أنها تعترف بـ"النظام الصهيوني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ورأت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية الناطقة بالإنجليزية، أن ذلك الرفض في مارس (آذار) الماضي يغلف سعياً إيرانياً إلى استعادة دورها في العالم الإسلامي، إذ "من الواضح أنها قلقة من أن ينتهي الاقتراح السعودي والمصري في جامعة الدول العربية في شأن غزة باعتدال أو استبدال ’حماس‘، ومن ثم ستخسر إيران في غزة أيضاً".
من جهة أخرى تستند إسرائيل في رفضها إلى اعتبارات أمنية واستراتيجية. فحكومة بنيامين نتنياهو، المدعومة من اليمين القومي والديني، ترى أن إقامة دولة فلسطينية تعني تسليم أراض قريبة من تل أبيب ومطار بن غوريون لكيان معاد قد تتحكم فيه جماعات مسلحة. وفي أعقاب تصاعد التوتر مع إيران، صرح محللون في الصحافة العبرية بأن الحديث عن حل الدولتين في هذا التوقيت هو "ترف دبلوماسي"، على حد تعبير صحيفة The Australian التي كتبت تقول "فقط دبلوماسي ساذج يمكنه الآن انتقاد الرد الإسرائيلي على التهديد الإيراني، أو المطالبة بتسوية سياسية وسط هذه الحرب غير المتكافئة".
أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فاختار أن يلعب ورقة الخطر الإيراني لتعطيل أي نقاش جاد حول تسوية سياسية مع الفلسطينيين، معتبراً أن "إيران، لا الدولة الفلسطينية، هي التهديد الحقيقي الوجودي".
شبح "الدولتين"
كان من المقرر أن يعقد مؤتمر دولي بدعم سعودي – فرنسي في يونيو 2025 لإحياء مسار حل الدولتين، لكن التطورات المتسارعة، بضرب منشآت إيرانية، دفعت باريس إلى تأجيله، وسط ما وصفته مصادر دبلوماسية غربية بـ"حرب مزدوجة على الفكرة: من إسرائيل علناً، ومن إيران عبر وكلائها".
هذا التعطيل لم يكن مفاجئاً فقد توقعت مراكز أبحاث إسرائيلية مثل "مركز بيغن – السادات" أن تستخدم تل أبيب التوتر الإقليمي لتعزيز موقفها الرافض لأي تسوية على أساس دولتين، محذرة في أحد تقاريرها من أن "الخطاب الإيراني حول الدولة الواحدة ليس أكثر من محاولة لتفخيخ الحلول الواقعية المتاحة".
وهاجم نتنياهو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرات بشدة، إثر دعوته إلى إقرار حل الدولتين، والدفع به إلى حد البدء في إجراءات الاعتراف بدولة فلسطين من جانب باريس، وتشجيع نظيراتها الأوروبية على انتهاج المسار نفسه.
وأكد الباحث الأردني محمد زغول لـ"اندبندنت عربية" في تعليق على مفارقة هرب الطرفين الإسرائيلي والإيراني من حل الدولتين، أن "حسابات الإسرائيليين لا شك كان فيها مؤثرات عدة وواحد منها هو قطع مسارات مثل المؤتمر والاعترافات بالدولة الفلسطينية. أما (حماس) فقالتها صراحة إنها أرادت قلب طاولة التطبيع وإن كنت شخصياً لا أعتقد أن أي تطبيع كان يمكنه أن يأتي بالدولة الفلسطينية في ظل حكم اليمين في إسرائيل".
جاء وقت دفع الثمن
ويرفض الائتلاف الإسرائيلي الحاكم اليوم مجرد الحديث عن تنازلات، ويدفع باتجاه تسريع الاستيطان وتوسيع السيطرة الأمنية، في ظل صعود نخب دينية وقومية تعتبر الضفة الغربية "جزءاً من أرض إسرائيل التوراتية".
كانت السعودية ودول الاعتدال العربية دفعت منذ "قمة فاس" في ثمانينيات القرن الماضي، إلى سلام بين العرب وإسرائيل، يقوم على "حل الدولتين" قبل أن يتبلور في ما عرف لاحقاً بـ"مبادرة السلام العربية" 2002، التي أصبحت محل إجماع إسلامي وعربي واحترام دولي نظير استنادها إلى قرارات أممية عدة، ومنطق العصر وظروف البلد المتنازع عليه، وسكانه الفلسطينيين المنكوبين.
الحديث عن "نقطة الاتفاق" بين طهران وتل أبيب لا يعني أنها ستؤدي ولو بعد حين إلى التقارب المستبعد، لكنها تظل مفارقة سياسية بالغة الدلالة، تعكس كيف يمكن لعدوين أن يرفضا الحل نفسه، ولكل أسبابه، بينما دفع كلاهما ثمن تطرفه في رفض حل هو إلى اليوم أفضل الصيغ المنطقية لإنهاء الصراع الذي ظل عشرات الأعوام وقوداً لصراعات أخرى لا تنتهي، آخرها الحرب الدائرة اليوم بين تل أبيب وطهران.