ملخص
في أعقاب العملية التي أطلقت عليها إسرائيل اسم "الأسد الصاعد"، وطاولت منشآت تخصيب رئيسة ومرافق عسكرية، صدرت بيانات من جهات خليجية تؤكد تفعيل أنظمة الرصد والاستجابة المبكرة
لا يعترف الإشعاع النووي بالحدود السياسية، ولا يتوقف الهواء عند خطوط الخرائط، وما يحدث في عمق الأراضي الإيرانية من تسرب إشعاعي أو انفجار نووي يمكن أن يمتد أثره إلى دول بعيدة بحسب عوامل الطقس والجيولوجيا واتجاهات الرياح الموسمية.
وبفعل القرب الجغرافي واتجاه الرياح، تقف دول الخليج على خط المواجهة الأول مع أي تسرب إشعاعي من إيران، إذ تنقل التيارات الجوية والبحرية الجزيئات المشعة مباشرة إلى أراضيها، مما يضعها ضمن نطاق التأثر لأية حادثة نووية يقع داخل الأراضي الإيرانية.
وأعادت الضربة الإسرائيلية الأخيرة على المنشآت النووية الإيرانية هذه الحقيقة إلى الواجهة، بعدما استهدفت موقع "نطنز" النووي، الذي يبعد نحو 215 كيلومتراً جنوب شرقي طهران داخل محافظة أصفهان، وهو أهم موقع تخصيب نووي في إيران.
إلا أن المخاوف من تداعياتها البيئية والإشعاعية لم تتأخر في الظهور، لا سيما بعد تأكيدات من الوكالة الدولية للطاقة الذرية بوجود تلوث إشعاعي وكيماوي داخل الموقع، مما أدخل دول الخليج في حال استنفار فني وبيئي.
وقال مدير الوكالة رافائيل غروسي إن الضربة دمرت الجزء العلوي من منشأة "نطنز"، دون مؤشرات إلى تضرر المنشآت تحت الأرض حيث تتم عمليات التخصيب، لكنه حذر من احتمال تعطل منظومة الكهرباء المسؤولة عن تشغيل أجهزة الطرد المركزي والتبريد، وهو ما قد يؤدي إلى فقدان السيطرة داخل الموقع، في سيناريو يعد من أخطر كوابيس المفاعلات النووية.
من جهتها، أعلنت هيئة الطاقة الذرية الإيرانية أول من أمس الجمعة تسجيل تلوث إشعاعي داخل موقع "نطنز" النووي دون وجود تلوث خارجه، لكنها أكدت أنه "لا يوجد ما يدعو إلى القلق".
استنفار خليجي
وفي أعقاب العملية التي أطلقت عليها إسرائيل اسم "الأسد الصاعد"، وطاولت منشآت تخصيب رئيسة ومرافق عسكرية، صدرت بيانات من جهات خليجية تؤكد تفعيل أنظمة الرصد والاستجابة المبكرة.
وأعلن مجلس التعاون الخليجي أول من أمس عدم رصد أية مؤشرات إشعاعية غير طبيعية حتى الآن، مؤكداً أن المؤشرات البيئية في دول الخليج لا تزال ضمن المستويات الآمنة.
وأوضح المجلس في بيان له تفعيل "مركز مجلس التعاون لإدارة حالات الطوارئ" بصورة جزئية، كإجراء احترازي ضمن خطط الجاهزية الإقليمية، وبالتعاون مع الجهات المتخصصة في الدول الأعضاء.
وأكد البيان أن المركز سيواصل متابعته من خلال منظومات الرصد والإنذار المبكر، مع إصدار تقارير دورية حول أية تطورات، في إطار دعم التكامل الخليجي في مواجهة التهديدات العابرة للحدود.
وضمن السياق نفسه، نوهت هيئة الرقابة النووية والإشعاعية داخل السعودية على أن المستويات الإشعاعية في البلاد "طبيعية"، وأن البيئة لا تزال آمنة من أية عواقب، مؤكدة جاهزيتها الكاملة لمواجهة أي طارئ.
وأشارت الهيئة، عبر منصتها الرسمية على "إكس"، إلى أن مركز العمليات التابع لها يعمل على مدار الساعة، لاستباق أية تداعيات محتملة واتخاذ الإجراءات الوقائية لحماية الإنسان والبيئة.
ولفتت إلى أن محطات تحلية المياه في السعودية مزودة بتقنيات كفيلة بإزالة أية ملوثات مشعة، وكُثفت المراقبة لضمان سلامة المياه المنتجة.
وبحسب بيانات الهيئة، تعمل الشبكة على رصد قياس الجرعات الإشعاعية في نحو 400 موقع داخل البلاد، مرتبطة بمركز عمليات الطوارئ النووية، وتقوم برصد مستمر وتنبيه فوري عند اكتشاف أية مستويات غير طبيعية.
وترتبط هذه الشبكة بالنظام الدولي لمعلومات الرصد الإشعاعي (IRMIS)، ضمن اتفاق الإخطار المبكر، مما يمنح السعودية والدول المجاورة قدرة أكبر على التنسيق والاستجابة السريعة لأية حادثة نووية مفاجئة.
"بوشهر" الأخطر والأقرب للخليج
ويرى مراقبون أن تمركز معظم المنشآت النووية الإيرانية في وسط البلاد وجنوبها الغربي، يجعل دول الخليج عرضة لتداعيات بيئية واسعة في حال وقوع تسرب إشعاعي، لا سيما مع هبوب الرياح الشرقية والشمالية الشرقية خلال الصيف، والتي تنقل الغبار المشع من الهضبة الإيرانية نحو الخليج العربي، مما يضع دول المنطقة ضمن نطاق الخطر المحتمل.
وفي سياق ذلك، أوضح أستاذ العلوم الإشعاعية المتخصص في الطوارئ النووية ناصر شبير ضمن حديث سابق لـ"اندبندنت عربية"، أنه في حال تعرض مفاعل "بوشهر" الأخطر والأقرب إلى دول الخليج فإن حجم التسرب الإشعاعي المحتمل يعتمد على عوامل عدة، أبرزها شدة الهجوم ومدى الأضرار التي قد تلحق بأنظمة الحماية النووية.
ولفت إلى أن تدمير قلب المفاعل يؤدي إلى انبعاث كميات كبيرة من المواد الإشعاعية، التي تنتشر عبر الهواء وتنتقل من خلال الرياح إلى مسافات بعيدة، فتصل إلى الدول المجاورة لإيران مهددة الصحة العامة للسكان، وقد ينتج منها زيادة في حالات السرطان.
وذكر شبير أنه من أهم العناصر المشعة المنبعثة المسببة للتلوث الإشعاعي هو عنصر "السيزيوم 137" الذي يدوم في الهواء لنحو 30 عاماً، مما يجعله قادراً على التسبب في تلوث بيئي مستدام وانتشاره بسهولة في الهواء والتربة، ويمكن أن يدخل جسم الإنسان من طريق الاستنشاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن العناصر التي تصدر مع التسرب الإشعاعي عنصر "السترونتيوم 90" الذي يستمر إلى نحو 29 عاماً أيضاً، وعنصر "اليود 131" الذي يستمر إلى ثمانية أيام مما يزيد خطر الإصابة بسرطان الغدة الدرقية، مسبباً ضرراً سريعاً على الإنسان.
وأضاف أنه في حال حدوث تسرب للمواد الإشعاعية في مياه الخليج العربي فإنه يعرض ملايين الأشخاص لأخطار صحية جسيمة، ويؤدي إلى أضرار كبيرة في النظم البيئية البحرية والثروة السمكية، ويشكل تهديداً مباشراً للأمن الغذائي.
وفي سبيل الوقاية لدول الخليج في حال حدوث تسرب إشعاعي، أوضح المتخصص في الطوارئ النووية أن دول الخليج ستحتاج إلى تفعيل خطط الطوارئ الوطنية للتعامل مع أي تسرب محتمل في حال استهدفت المفاعلات النووية الإيرانية.
وتشمل هذه الخطط أنظمة مراقبة إشعاعية متطورة لرصد التسربات مبكراً، وتحديد مناطق الخطر ووضع خطط للإخلاء السريع والآمن للسكان، مع توفير ملاجئ في حال تعذر الإخلاء الفوري، وتتطلب التنسيق الفعال بين الجهات المعنية المحلية إلى جانب التنسيق الإقليمي وأيضاً مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، للحد من الآثار السلبية لأية حادثة إشعاعية.
تلوث الحياة البحرية
بحسب دراسة علمية نشرت في مجلة "علوم وهندسة البحار" (MDPI) خلال عام 2023، فإن أية حادثة نووية مفترضة في منشآت مثل محطة "بوشهر" الإيرانية، من المحتمل أن تتسبب في تلوث طويل الأمد لمياه الخليج العربي، مع آثار بيئية وصحية تتجاوز الحدود الجغرافية وتستمر عواماً عديدة.
وأظهرت الدراسة أن الغبار الإشعاعي الناتج من التسرب لا يقتصر على الانتشار في الهواء، بل يمكن أن ينساب مع التيارات البحرية إلى عمق الخليج، ويستقر في قاع البحر، مما يجعله مصدراً دائماً للتلوث، وهذا التلوث لا يبقى خامداً بل يدخل إلى السلسلة الغذائية عبر الكائنات البحرية مثل الأسماك والقشريات، لينتقل في النهاية إلى الإنسان من خلال الطعام البحري.
وحذرت من أن هذا النوع من التلوث يصعب احتواؤه أو معالجته، نظراً إلى الطبيعة المغلقة للخليج، وبطء تجدد مياهه، مما يجعل المنطقة بيئة مثالية لتراكم الإشعاع على المدى الطويل، مشيرة إلى أن الخطر يمتد إلى الأنظمة البيئية البحرية التي قد تتعرض لتغيرات عميقة في التوازن البيولوجي.