ملخص
كشفت تقارير غربية عدة عن التقدم في البرنامج النووي الإيراني، مشيرة إلى أن طهران باتت على بعد أسابيع من القدرة على إنتاج قنبلة نووية.
ما قامت به إسرائيل لا يشبه إضعاف "حزب الله" أو الأذرع الإيرانية في المنطقة، بل يمثل محاولة جريئة لقطع رأس الأخطبوط الإيراني، من خلال ضرب القيادة والعقل والسلاح في لحظة واحدة. إنها مقامرة استراتيجية كبرى إن نجحت قد تعيد ترتيب ميزان القوى في الشرق الأوسط، وإن فشلت أو قوبلت برد عنيف، فقد تفتح أبواب الحرب الكبرى التي سعى الجميع إلى تفاديها.
لم يشهد تاريخ الحروب مشهداً كهذا من قبل، أن تهاجم دولة بحجم إيران في ضربة استباقية واحدة، ويُستهدف عدد كبير من قادة الصف الأول العسكريين، والتابعين للحرس الثوري، والعلماء النوويين، خلال ساعات، وهو أمر يتجاوز كل المعايير العسكرية المعروفة، مما يجعل عملية "أوبرا" العراقية تبدو كتمرين تدريبي في مقارنة مع هذا الزلزال العسكري.
وعملية "أوبرا" والمعروفة أيضاً باسم عملية "بابل"، وهو الاسم الذي أطلقته إسرائيل على الضربة الجوية التي نفذها سلاح الجو الإسرائيلي في السابع من يونيو (حزيران) عام 1981 ضد المفاعل النووي العراقي "تموز" (أوزيراك) قرب بغداد، وكان لا يزال قيد الإنشاء بدعم فرنسي.
حصل كل هذا وأصبع النظام الإيراني لم تسنح له الفرصة حتى لرفعه نحو الزناد، فتزعزعت أركان الدولة قبل أن تبدأ الحرب.
ما الذي جرى؟
في الساعات الأولى من الجمعة الـ13 من يونيو الجاري نفذت إسرائيل سلسلة غارات مركزة على مواقع حساسة داخل إيران، شملت مفاعل نطنز النووي الذي يعتبر مركز برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، وأحد أكثر المواقع تحصيناً، لاحقاً قال إعلام إسرائيلي إنه دمر بشكل شبه تام.
كذلك استهدف سلاح الجو الإسرائيلي مقار ومراكز قيادة للحرس الثوري الإيراني، وأسفرت الاستهدافات عن اغتيال شخصيات عسكرية رفيعة، مثل اللواء محمد باقري رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، واللواء حسين سلامي القائد العام للحرس الثوري، وإصابة أو استهداف علي شمخاني (مصيره غير معلوم حتى الساعة)، المقرب من المرشد الأعلى والمسؤول عن الملف النووي والارتباط مع الميليشيات الإيرانية في الخارج.
تجاوزت العملية الطابع الاستخباري المحدود، واتخذت "طابعاً جراحياً" واسع النطاق، استهدف مراكز القيادة والقرار في النظام الإيراني. وفي المعلومات ووفقاً لتقارير إسرائيلية فإن الضربات استهدفت اجتماعاً موسعاً ضم عدداً من قادة إيرانيين، في عملية تشبه حادثة اغتيال القيادي في "حزب الله" إبراهيم عقيل وقادة الحزب في بيروت.
وعلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الهجوم، قائلاً "استهدفنا علماء نوويين إيرانيين بارزين يعملون على تصنيع قنبلة إيرانية كما ضربنا قلب برنامج الصواريخ الباليستية". وأضاف "نحن موجودون في لحظة حاسمة والهجوم يأتي لضرب البنية التحتية النووية لإيران". وتابع "طهران لا تزال تمتلك قدرات كبيرة للمس بنا والحملة العسكرية ستستمر إذ ما استدعى الأمر ذلك"، معتبراً أن طهران "خصبت يورانيوم على درجة عالية يكفي تسع قنابل نووية".
هذه المعطيات طرحت تساؤلات "تشريحية" للقدرات والاستعدادات الإيرانية لمواجهة هجوم من هذا النوع، بخاصة أن إسرائيل والولايات المتحدة أطلقا أكثر من تحذير وتهديد للنظام خلال الأيام القليلة الماضية. أيضاً سؤال مهم، وهو كم يبلغ حجم الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي في جسم النظام الإيراني؟
اللافت أيضاً تصريحات نقلت عن مصدر أمني إسرائيلي، قال فيها "إن ’الموساد‘ أنشأ قاعدة داخل إيران لطائرات مسيرة مفخخة جرى إطلاقها باتجاه منصات إطلاق الصواريخ أرض -أرض الموجودة في قاعدة أصفاق آباد قرب طهران، التي تشكل تهديداً للأهداف الاستراتيجية وللإسرائيليين، مما يشير إلى أن الخروق تغلغلت في أعماق الحرس الثوري والنظام الإيراني.
الاقتراب من العتبة النووية
كشفت تقارير استخباراتية في الساعات الماضية، ووفقاً للإعلام الإسرائيلي، وفي معلومات رفعت عنها السرية، عن خطط إيران النووية، و"أنها باتت تقترب من نقطة اللاعودة في سعيها الحثيث نحو امتلاك سلاح نووي، فالنظام الإيراني يسرع إنتاج آلاف الكيلوغرامات من اليورانيوم المخصب، ضمن منشآت محصنة تحت الأرض وموزعة بصورة لا مركزية، مما يعزز قدرته على تجاوز أي محاولة لعرقلة برنامجه".
وأوضحت التقارير أن "هذا التصعيد اللافت في وتيرة التخصيب خلال الأشهر الأخيرة قرب النظام بصورة غير مسبوقة من بلوغ العتبة النووية، على رغم كل المحاولات الدولية التي سلكت مسارات دبلوماسية متعددة لوقفه".
وأضافت التقارير الإسرائيلية، "بينما يواصل النظام تحدي المجتمع الدولي تجد إسرائيل نفسها أمام واقع لا يسمح بالمراوغة. فلقد بات لزاماً على جيش الدفاع الإسرائيلي التحرك لحماية المدنيين، وسيواصل اتخاذ الإجراءات الضرورية لضمان أمن الدولة وسلامة مواطنيها".
"الأسد الصاعد"
أعلن رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير أن من "يحاول تحدينا سيدفع ثمناً باهظاً. نحن نخوض هذه المعركة معاً، وهدف واحد نصب أعيننا، هو تأمين مستقبل أكثر أماناً لدولة إسرائيل ولمواطنيها، وبالإيمان والوحدة والجهد المشترك سننتصر".
زامير قال أيضاً، "هذه أيام حاسمة، ونحن على أعتاب فصل جديد في معركتنا من أجل ضمان مستقبلنا. لقد أطلق الجيش الإسرائيلي عملية ’الأسد الصاعد‘ لمهاجمة التهديدات الاستراتيجية الإيرانية ضد دولة إسرائيل. نحن في خضم معركة تاريخية غير مسبوقة، إنها معركة مصيرية لمنع تهديد وجودي من عدو يسعى إلى تدميرنا... في هذا الوقت نواجه خيارات صعبة، ويمكنكم أن تكونوا واثقين بأن جميع القرارات تتخذ بجدية بالغة".
إذاً نفذت عملية "الأسد الصاعد" بتنسيق استخباري عالي الدقة، تضمنت غارات جوية مكثفة على منشآت نووية (في نطنز) ومواقع عسكرية حيوية في طهران وتبريز، إضافة إلى غارات سرية على منظومات صواريخ ودفاعات إيرانية، استهدفت خلالها نوابغ برنامج إيران النووي، فريدون عباسي ومحمد مهدي طهرانتشي وأحمد رضا ذو الفقاري أستاذ الهندسة النووية.
ما الذي تغير في العقيدة الإسرائيلية؟
في استراتيجيتها مع إيران كثيراً ما اتبعت إسرائيل استراتيجية "جز العشب" في لبنان وسوريا وحتى غزة، أي استهداف الأطراف من دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الرأس. وعلى ما يبدو هذه المرة، اختارت قطع الرأس مباشرة، في سابقة تحمل دلالات عسكرية وسياسية، ذلك أنها وللمرة الأولى تستهدف القيادة المركزية للنظام الإيراني في الداخل وبهذا الحجم. مما يعني أنها باتت لم تعد ترى فرقاً بين البرنامج النووي والمؤسسة الأمنية العليا، بل تعتبرهما وحدة تهديد واحدة لا يمكن تفكيكها إلا بإحداث شلل في مركز القرار، وذلك عبر شل المنظومة النووية، من ضرب مفاعل نطنز وغيرها، مما يهدف إلى تعطيل عجلة تخصيب اليورانيوم، وتقدم قرب الحصول السلاح النووي. أيضاً إضعاف القيادة الإيرانية، فعملية قتل سلامي وباقري تستهدف النخبة التي تنسق الحروب غير المباشرة مع الأذرع (حزب الله وحماس والحوثيين).
من هنا، فهذه ليست مجرد ضربة رمزية، بل محاولة حذف القوى المركزية التي تحكم شبكة الكوابح الإيرانية، بمعنى آخر إسرائيل تريد تدمير وشل القدرة الإيرانية ليس فقط الدفاعية بل الهجومية مستقبلاً.
من "البيجر" إلى طهران
في الـ17 والـ18 من سبتمبر (أيلول) 2024 حصلت تفجيرات متزامنة لأجهزة اتصال مفخخة تابعة لـ"حزب الله" عرفت باسم تفجيرات البيجر والوكي توكي. وشكلت تلك العملية لحظة فاصلة في مسار المواجهة بين إسرائيل و"حزب الله"، إذ استطاعت حكومة بنيامين نتنياهو تنفيذ ضربة نوعية مفاجئة استهدفت غرفة عمليات حساسة تابعة للحزب في بيروت. ولكن ما يحدث اليوم في إيران يبدو كأنه تطور نوعي وموسع لهذا النموذج من الضربات، لكن الفرق الأساس أن "البيجر" كانت موجهة إلى وكيل، بينما الضربات الحالية تنفذ مباشرة ضد الأصل، أي رأس المحور نفسه، النظام الإيراني.
وفي عملية "البيجر" استهدفت إسرائيل مجموعة قيادية ميدانية كانت تتحكم بالعمليات المشتركة بين "حزب الله" والحرس الثوري في مسرح العمليات السوري - اللبناني. وقد هدفت تلك الضربة إلى إرباك سلسلة القيادة، وكسر هيبة التنسيق الأمني والعسكري الذي كان يفترض أنه محصن. وشكلت "البيجر" سابقة خطرة لـ"حزب الله"، لأنها كشفت عن أن إسرائيل لا تكتفي بضرب المخازن أو القوافل، بل تتابع الوجوه وتحسب التحركات وتنتظر اللحظة المناسبة لتوجيه ضربة تصيب "العقل" لا فقط "العضلات".
ما يجري اليوم في إيران من ضربات جوية واغتيالات منظمة يبدو كأنه نسخة موسعة ومطورة من عملية "البيجر اللبنانية"، والفرق الجوهري هو التحول الاستراتيجي الخطر، وانتقال الضربات من أطراف المحور إلى مركزه، ومن قصف غرفة عمليات ميدانية في جنوب لبنان أو دمشق، إلى تفجير أعصاب النظام في قلب طهران وأصفهان ونطنز. وإذا كانت "البيجر" قد خلخلت بنيان "حزب الله" حين استهدفت غرفته المركزية واخترقت شبكة أمنه في لحظة خاطفة، فإن ما يحدث في إيران الآن هو "بيجر كبرى"، هدفها ليس فقط إرباك التخطيط أو تصفية القادة، بل هدم القاعدة الصلبة التي يقوم عليها المحور برمته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كانت "البيجر" قد أربكت (محور المقاومة) لفترة، فإن هذه الضربات تهدف إلى شله بالكامل، عبر شل المركز الذي يغذيه سياسياً وعسكرياً وعقائدياً. والفارق الكبير أيضاً أن "البيجر" كانت سرية ومحكمة ومحدودة، في حين أن الضربات الحالية علنية وصادمة ومتعددة الجبهات، مما يعكس ليس فقط الجرأة الإسرائيلية، بل أيضاً التآكل الأمني داخل إيران، وعجزها عن الردع أو الاستباق. ويمكن القول إن إسرائيل نقلت نموذج "البيجر" من محيط طهران إلى قلبها. في الأولى، الرسالة كانت "نعرف أين أنتم"، والرسالة اليوم "نعرف من أنتم، وأين تقيمون، وسنأتي إليكم مهما كانت العواقب".
في هذا السياق اختلف الأسلوب الإسرائيلي بصورة كاملة، إذ إن الاستهداف المباشر والقاتل للقيادة العليا الإيرانية، ستبرهن الأيام المقبلة عن مدى فاعليته في خلق فراغ معرفي وتذبذب في جسد النظام. وذلك بعد تحييد قادة من الصف الأول لهم أدوار محورية في رسم السياسات الأمنية والعسكرية الخارجية الإيرانية، كذلك فإن المواقع المستهدفة ليست عسكرية فحسب، بل رمزية وقيادية، مما يؤشر إلى نية إسرائيل تحطيم العمود الفقري للنظام، لا مجرد شل عضلاته الخارجية.
انعكاسات الأمد القريب
توعدت طهران بـ"انتقام مرير"، والسؤال هو هل سيكون رداً تقليدياً (صواريخ على إسرائيل) أم موجهاً ضد مصالح أميركية في المنطقة، وذلك عبر الأخذ بالاعتبار دفع واشنطن إلى السقوط في "الفخ الإسرائيلي" إذا صح التعبير.
هنا لا بد من الإشارة إلى أن أسعار النفط قفزت 10–12 في المئة فور بدء الهجمات الإسرائيلية. وخرجت تحذيرات من "حرب شاملة" ومخاوف دولية من زعزعة استقرار المصالح العالمية في الشرق الأوسط. ويعتمد هذا الأمر على المنهجية الإسرائيلية في الأيام المقبلة واعتماده سياسة "قطع الرأس". وعلى ما يبدو فإن الهدف هذه المرة هو جملة من الأهداف تشمل إضعاف إيران موقتاً وإرباك شبكتها القيادية وحرمانها من أدوات الردع والانتقام.
مثل هذا الهجوم يعكس يقين إسرائيل بحشد استخباراتي ودعم لوجيستي جعل خطواتها أعنف وأكثر حسماً مقارنة بـ2024. والسؤال الملح، هل تكفي هذه الضربات لإخراج إيران من معادلة الصراع، أم تفضي إلى رد مدمر أو مزيد من التصعيد؟ وهل إسرائيل قطعت رأس الأخطبوط أم أنها بدأت فقط بإضعاف أطرافه؟ ولماذا الآن؟
الحسابات الاستراتيجية لتوقيت العملية
كانت تقارير غربية عدة قد كشفت التقدم في البرنامج النووي الإيراني، مشيرة إلى أن طهران باتت على بعد أسابيع من القدرة على إنتاج قنبلة نووية. وهذا ما تعتبره إسرائيل "الخط الأحمر" الذي لا يمكن تجاوزه، كما أنه ولاعتبارات عدة فإن إسرائيل اليوم أمام الفرصة الذهبية، وذلك لانشغال إيران بمشكلات داخلية واقتصادية وشعبية، فضلاً عن الضغوط الدولية وتفكك شبكة الردع، إذ إن إيران تواجه تآكلاً في هيبة محورها بعد تراجع تأثير الحوثيين في البحر الأحمر، وتجميد جبهات "حزب الله"، وتراجع "حماس" في غزة، وسقوط النظام السوري.
والضربة الإسرائيلية أتت في وقت يتراجع فيه النفوذ العملياتي الإيراني، مما يجعل الرد أقل كلفة. أيضاً العامل الأهم في هذه "الفرصة الذهبية" الغطاء السياسي الضمني من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، التي لن تعارض تحركاً حاسماً ضد إيران.
الرسائل الإسرائيلية الأعمق
في المحصلة ما تريده إسرائيل اليوم هو توجيه رسالة واضحة وصريحة إلى إيران والعالم وهي "إذا لم توقفوا طهران، فنحن سنقوم بالمهمة وحدنا، وبالقوة الكاملة"، إذ إنها باتت ترى أن الردع لا يجري إلا بإثبات القدرة على كسر رأس النظام، وليس تحجيم أطرافه، بخاصة من بعد حرب غزة أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
إسرائيل تقول أيضاً بذلك للمجتمع الدولي إن "الاتفاق النووي" لم يعد ذا جدوى، وإن الخيار العسكري بات أداة واقعية، لا سيناريو نظرياً. وأن إسرائيل لن تنتظر الإعلان عن قنبلة نووية إيرانية، ولا تعترف بحصانة القيادات في طهران، وأنها تعرف كل شيفرة واسم وموقع داخل المحور، وقادرة على كسر القدسية الأمنية الإيرانية والوصول إلى قادة الدولة نفسها، وبأنها مستعدة للعب بالنار حتى النهاية.
ما قامت به إسرائيل لا يشبه إضعاف "حزب الله"، أو الأذرع الإيرانية في المنطقة، بل يمثل محاولة جريئة لقطع رأس الأخطبوط الإيراني، من خلال ضرب القيادة والعقل والسلاح في لحظة واحدة. إنها مقامرة استراتيجية كبرى إن نجحت قد تعيد ترتيب ميزان القوى في الشرق الأوسط، وإن فشلت أو قوبلت برد عنيف فقد تفتح أبواب الحرب الكبرى التي كثيراً ما سعى الجميع إلى تفاديها.
تبقى الأسئلة المحورية الآن، ماذا لو نجحت العملية وألحقت شللاً حقيقياً ببنية النظام الإيراني؟ هل دخلت المنطقة فعلياً في مرحلة تفكك تدريجي لنفوذ طهران؟ وهل يعتزم بنيامين نتنياهو تتويج الحملة العسكرية الواسعة باغتيال المرشد الأعلى علي خامنئي، مما قد يفتح الباب أمام انهيار النظام؟ أسئلة مصيرية، وقد لا يطول انتظار الإجابة عنها.