ملخص
باعتراف رسمي من وزارة الصحة المغربية ضمن دراسة سابقة تعود إلى عام 2015، فإن مئات المرضى النفسيين يتعرضون في "بويا عمر" للمعاملة السيئة وحتى التعذيب، بينما تأمل أسرهم في علاجهم من أمراضهم النفسية والعقلية المستعصية، قبل أن تلجأ الحكومة إلى إغلاق هذا المكان نهائياً.
فجأة قفز اسم قرية بسيطة تدعى "لالة ميمونة" بضواحي مدينة القنيطرة المغربية إلى واجهة الأحداث داخل البلاد وخارجها أيضاً، بعد تناقل قصة وصور شاب مقيداً بسلاسل معدنية طوال 22 عاماً داخل غرفة في بيت متواضع لا يغادره إلا نادراً، جراء إصابته بمرض عقلي وصف بالغامض.
وصدم ملايين المغاربة من مشهد شاب يدعى محمد مجدوب في عقده الثالث، مقيداً بسلسلة حديدية من قدميه، وقضى على هذه الحال 22 عاماً داخل غرفة صغيرة، يصرخ تارة ويضحك تارة أخرى من دون سبب، ومن دون أن تستطيع أسرته الفقيرة علاجه أو معرفة ما الذي ألم به. وحمل مراقبون مسؤولية ما حصل للشاب محمد، الذي يعاني خللاً عقلياً وفرطاً بالحركة، للمؤسسات الصحية الرسمية التي من المفترض أن تتكفل بحالته بالنظر إلى فقر العائلة المدقع، بينما يرى آخرون أن المسؤولية تعود أيضاً إلى الأسرة التي لجأت إلى "الحل السهل" بتقييد الشاب في بيئته.
ملخص القصة
يبدو الشاب مجدوب في مقاطع الفيديو التي بثت في عدد من المنابر الإعلامية غير مدرك تماماً لما يعيشه، إذ يجثو على ركبتيه أحياناً ويزحف على بطنه تارة أخرى، أو يطلق صرخات أو ضحكات من دون سبب ظاهر، بينما السلاسل تقيد حركة قدميه.
تقول السيدة عائشة الدرقاوي، والدة الشاب محمد، إنها اضطرت إلى وضع السلسلة الحديدية في قدمي ابنها، لأسباب صحية واجتماعية ملحة "وإلا فإنه لا توجد أم في الدنيا تضع الأغلال في رجلي فلذة كبدها، وتمنع حركته"، ووفق والدته أيضاً "فإن محمد كان مقيداً منذ كان فتى في ربيعه الـ15 وهو حالياً في الثلاثينات من عمره، بسبب سلوكه العنيف والغريب، إذ إنه قد يؤذي نفسه أو الجيران".
وتابعت الأم أن جيرانها وسكان القرية طلبوا منها حبس ابنها حتى لا يتعرض لهم بالأذى بسبب مرضه العقلي الذي تجهل الأم ماهيته ومصدره، "وأن الأطباء لم يحسموا أمره ولم يجدوا له علاجاً". ولم يكن الأمر يسيراً على والدي محمد اللذين اتخذا قرار "احتجاز" ابنهما داخل غرفة بقيد حديدي، يحررانه منه عندما تتورم قدمه ليقيدا القدم الثانية، أو حين يخرج أمام البيت وقتاً يسيراً.
حالات سابقة
لم يكن محمد مجدوب الوحيد الذي اهتز المجتمع المغربي لرؤيته مقيداً بسلاسل حديدية من طرف أسرته، بل سبقته قصة أثارت ضجة في صيف العام الماضي، وكان بطلها رجلاً مسناً حينها. وكان هذا المسن أمضى 20 عاماً من حياته مقيداً بسلاسل حديدية بإحدى قرى مدينة ورزازات (جنوب شرقي)، حيث كان محتجزاً من قبل أسرته داخل غرفة بدعوى إصابته بمرض عقلي ونفسي يجعله عنيفاً حيال الآخرين.
وتبعاً لمجريات القصة التي نالت اهتمام المغاربة وقتها، فإن التحريات الأمنية أظهرت أن احتجاز العائلة هذا المسن داخل غرفة وتقييد حركته بواسطة أغلال حديدية خشية إيذاء نفسه أو الآخرين، لم يكن مدعوماً بسجل طبي يثبت إصابته بأمراض عقلية ونفسية، مما جعل احتجازه غير قانوني في ظروف غير إنسانية.
وقبل هذه القصة الأليمة شهدت قرية نواحي مدينة تزنيت (جنوب البلاد) حادثة احتجاز أسرة شاباً وتقييده بسلاسل حديدية، بسبب مرض نفسي وعقلي لا علاج له، مما دفع نشطاء حقوقيين محليين إلى المطالبة بالعناية بحال الشاب من خلال عرضه على متخصصين نفسيين.
وجراء قلة الجهات المتخصصة ولا سيما مستشفيات الأمراض العقلية، فإن هذه الحالات كانت تعرض، قبل أعوام خلت "على بويا عمر، وهو ضريح أو مزار في نواحي مدينة مراكش، اشتهر باستقبال مختلين عقلياً ونفسياً كانوا يؤذون أنفسهم وغيرهم، لكنهم كانوا يتعرضون للتكبيل بالسلاسل الحديدية، ولشتى ضروب المعاملة غير الإنسانية".
وباعتراف رسمي من وزارة الصحة المغربية ضمن دراسة سابقة تعود إلى عام 2015، فإن مئات المرضى النفسيين يتعرضون في "بويا عمر" للمعاملة السيئة وحتى التعذيب، بينما تأمل أسرهم في علاجهم من أمراضهم النفسية والعقلية المستعصية، قبل أن تلجأ الحكومة إلى إغلاق هذا المكان نهائياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إهمال خطر
في السياق رأى عبدالإله الخضري مدير المركز المغربي لحقوق الإنسان، أن حالة الشاب محمد المجدوب الذي عاش مقيداً مدة 22 عاماً بسبب مرض عقلي غير مشخص، تُظهر بجلاء إهمالاً خطراً من قبل الأطباء والمسؤولين في توفير الرعاية الصحية اللازمة له. ولفت الخضري إلى أنه "على رغم محاولات أسرته المستمرة للحصول على تشخيص وعلاج مناسب، فقد اكتفى الأطباء بوصف المسكنات بدل محاولة فهم وضعيته، أو إحالته على أطباء متخصصين لتقديم العلاج الفعال والناجع لمثل هذه الحالات"، واستطرد الحقوقي أن "هذا الإهمال الطبي أدى إلى استمرار معاناة هذا الشاب ومعاناة أسرته المعوزة، والتي اضطرت إلى تقييده خوفاً من إقدامه على الهرب"، وتابع أنه على رغم أن المرض يستدعي تدخلاً عاجلاً، فإن المؤسسات الصحية والاجتماعية لم تلب حاجاته الأساس. وخلص الخضري إلى أن "هناك آلاف الحالات تشبه حالة محمد المجدوب، مما يقتضي تدخلاً سريعاً وفورياً من السلطات لضمان حق محمد في العلاج والحرية، وتأمين الرعاية اللازمة له وأمثاله من المرضى الذين اضطرت أسرهم إلى تقييدهم، وبخاصة في القرى والأرياف".
الخوف من الوصم
من جهتها، عزت الباحثة في الشأن الاجتماعي ابتسام العوفير مأساة الشاب المقيد وآخرين مثله قد لا يكون الإعلام كشف بعد حقيقة وضعيتهم، إلى أسباب اجتماعية واقتصادية بالأساس، "تتلخص في رفض الأسرة من وصم ابنها بالجنون أو الحمق، فتلجأ إلى تقييده وحبسه حتى لا يراه الجيران وسكان الحي"، وتابعت أن الحالات المسجلة مثل حالة الشاب محمد توجد في ضواحي المدن، وبخاصة في القرى التي تكابد أصلاً الفقر ولا تصل إليها حصتها من التنمية مثل المدن والحواضر، ومن ذلك توفير بنيات استقبال صحية للتوجيه والإرشاد. ولفتت العوفير "إلى أن تطبيب مثل حالة محمد والتكفل بحالته من قبل أسرة فقيرة معدمة أمر شبه مستحيل، لأن هذه الحالات تستوجب متابعة مكثفة من لدن المتخصصين، ومصاريف لا متناهية لمحاولة تحسين وضعيته، بينما العلاج الكامل يكون صعب التحقيق".
وخلصت المتحدثة إلى أن المسؤولية في حالة هذا الشاب المقيد منذ أكثر من عقدين مشتركة، "فمسؤولية المؤسسات الصحية ثابتة ومسؤولية المجتمع مؤكدة، كما أن مسؤولية الأسرة ووعيها الصحي لا يمكن إنكاره، علاوة على المحيط المحتضن محمد وهي قرية لالة ميمونة التي بالكاد يعيش سكانها من كد رجالها ونسائها في معامل التوت".
وتشتهر قرية "لالة ميمونة" بإيواء ضريح ولية بالاسم نفسه، ما يفسر زيارة كثر هذا الضريح طلباً للعلاج أو الزواج، غير أنها اشتهرت بمعامل الفاكهة الحمراء التي تشغل مئات النساء، والتي شكلت في أحد أيام وباء كورونا بؤرة صناعية كبيرة بإصابة مئات العاملات بهذا الوباء.