ملخص
أصبح تشويه سمعة الإعلام التقليدي سلاحاً سياسياً معتمداً، ولا سيما من إدارة ترمب التي تسعى إلى نزع الشرعية عن الصحافة المستقلة عبر اتهامها بترويج الأخبار الكاذبة، مما يهدد ثقة الجمهور بالإعلام ويقوض دوره الرقابي في الديمقراطية.
وقع ذلك صيف عام 1997، بعد أشهر قليلة من نشر قضية التشهير الماراثونية الشهيرة التي نجح فيها مراسل شؤون الجريمة في صحيفة الـ "غارديان" دانكن كامبل في الدفاع عن استقصائه الصحافي الذي كشف من خلاله عن فساد في قسم ستوك نيوينغتون للشرطة شمال العاصمة لندن.
قرابة الساعة الرابعة فجراً، أيقظني بصورة مفاجئة شرطي ضخم في غرفة نومي، وكنت حينها أقطن في منطقة هايبوري شمال لندن، وسرعان ما أدركت أن المنزل يعج برجال الشرطة وكلابهم البوليسية، واتضح في وقت لاحق أن لصاً حطم باب منزلنا واقتحم البيت منتصف الليل، والشرطة في النهاية غادرت المنزل بعد إنهاء تحقيقاتها، وفيما كان آخر العناصر يهم بمغادرة محيط المنزل توقف وقال لي "أنت رئيس تحرير الـ 'غارديان' أليس كذلك؟ ربما تود أن تعرف أننا جميعاً ننتمي إلى قسم شرطة ستوك نيوينغتون".
أدى كلامه هذا إلى انقطاع خفقان قلبي للحظة، ففي النهاية كان الصحافي دانكن قد نجح في التغلب على خمسة من زملاء الشرطي في المحكمة، ولكنني كنت مخطئاً، ففيما كان الشرطي يعمل على وضع كلبه البوليسي في المركبة الخاصة ويهم بالمغادرة قال لي "اطلب من السيد كامبل أن يواصل تحقيقاته".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا هو الشيء الذي كافح بعض الناس لفهمه حول طريقة عمل دانكن، وقد فارق الحياة حديثاً، في تلك الفترة، فكان يمكن للصحافي الجيد العمل على كشف فساد رجال الشرطة، على رغم أنه ممن يساندون العمل الشرطي، وكان بإمكانه أن يتعامل مع مفوض شرطة العاصمة بصفته رئيساً لـ "جمعية مراسلي الجريمة" في الصباح، فيما هو يقوم بتناول المشروب مساء مع لص وظيفته سرقة المصارف.
بالطبع كان الأمر مع الصحافي دانكن لا يقتصر على هذه الأمور فقط، كما كان ليلاحظ أي شخص قد حضر إحدى الحفلات التي كان يقيمها على شرف الصحافيين، إذ كان عادة من بين الحضور قادة من الشرطة وكبار لصوص القطارات وقضاة ومحامون ورجال شرطة متقاعدون ومجرمون قدامى وصحافيون مخضرمين، وكان الفن في تلك المناسبات أن تتمكن من اكتشاف من كان يعمل وفي أي مجال من بين الحضور.
الجميع كان يثق بدانكن إلا السيد القاضي فرنش في محكمة ستوك نيوينغتون، فعلى مدى 33 شهراً خاض "اتحاد الشرطة" و"فدرالية الشرطة البريطانية" ما لا يقل عن 95 معركة في قضايا تشهير متتالية وفازوا بها جميعاً، وكان قد أطلق على تلك القضايا في حينه "قضايا المرائب" لأن رجال الشرطة كانوا يستخدمون الأموال التي تنتج من تعويضات التسويات القضائية لصرفها على عمليات توسعة المنازل [وبناء مرآب لهم].
ولو كان للقاضي فرنش ما أراد لكانت نتيجة المواجهة القضائية 96 إلى صفر، لكن الصحافي دانكن دخل منصة الشهود للإدلاء بإفادته، وكما كان الأمر بالنسبة إلى الجميع فقد كسب دانكن ثقة هيئة المحلفين ولم يكن ذلك من دون ثمن دفعه في ليالي أمضاها في الأرق والقلق، لكن ثباته في القضية عاد بالنفع بصورة كبيرة على زملائه في مهنة الصحافة البريطانية، إذ أصبح بالإمكان تناول قضية فساد الشرطة والكتابة عنها بصورة آمنة، فقد غيرت قضية دانكن قواعد اللعبة.
لقد فارق دانكن الحياة بعد أسبوع واحد من وفاة مراسل صحافي آخر هو أندرو نورفولك الذي أسهمت تحقيقاته في صحيفة "تايمز" البريطانية حول عصابات استدراج الأطفال في حصوله أيضاً على إشادات واسعة بسبب نزاهته وشجاعته، وفي وقت تتراجع الثقة في وسائل الإعلام إلى أدنى المستويات، من المشجع أن نتمكن من الاحتفاء بأفضل العاملين في قطاع الإعلام، ولقد نجح دانكن في تغطية أخبار عالم الجريمة بأسلوب لم يكن أي صحافي آخر قادراً على تخيله، أما عن كيفية قيامه بذلك فلم يستطع أحد تفسيره.
نيك رينولدز، وهو نجل سارق القطارات الشهير بروس رينولدز أخبرني "كما تعرف فإن معظم المجرمين يكرهون الصحافيين، وأعني بذلك أن الهدف الأساس من عمل المجرم هو تنفيذ جريمته والإفلات من العقاب وأن يبقيها طي الكتمان، ولكنه وبطريقة ما وبفضل نزاهته ونهج عمله وروح الدعابة التي كان يتحلى بها واجتهاده وسلوكه، كان دانكن قد نجح في الحصول على تصريح خاص يخوله الولوج إلى عالم الجريمة، وكانواً جميعا يحترمونه".
فريدي فورمان، وهو مجرم قام بقتل الناس بطلب من عائلة آل كرايز، كان يحب دانكن، وفرانكي فرايزر المجنون الذي كان يقتلع أسنان ضحاياه بالكماشة، كان أيضاً يحبه، وكذلك أحبه محامون وضباط الشرطة وكل من اهتم بكشف الحقيقة.
كان دانكن فخوراً جداً بالموقع الإلكتروني الذي أنشأه ويسمى "العدالة في القفص" Justice on Trial، وواصل العمل فيه حتى عام 2017، وغطى من خلاله كثيراً من قضايا الإساءة خلال تطبيق العدالة، واهتم بكثير من تلك القضايا ولا سيما قضية "الخمسة في ميامي"، وقضية "الضحيتين في كريغافون"، و"24 من شروزبيري"، وقضية "الستة من بيرمنغهام" و"الثلاثة من كارديف"، إضافة إلى "جرائم القتل تورسو [أو الصدر]"، قضية جورج ديفيس، وقضية غاري ماكينون، وهناك كيرانجيت أهلواليا التي كان قد حكم عليها بالسجن المؤبد لقتلها زوجها المسيء أيضاً، فقد كان لدى هؤلاء وكثر آخرون كثيراً من الأسباب لشكر الصحافي دانكن، لأنه كان يسبح عكس التيار وكرس الوقت والجهد للتحقيق في قضاياهم.
لكن وفي معظم الأحيان فعندما يفكر الناس بالصحافيين فإنهم لا يفكرون بأمثال كامبل ونورفولك، ولا يفكرون في الأخطار التي يتعرض لها الصحافيون جراء العمل على تغطية الأحداث في الشرق الأوسط أو أوكرانيا أو حتى إيرلندا الشمالية مثلاً، والتي بحسب تقرير "منظمة العفو الدولية" شهدت 71 اعتداء أو تهديداً ضد الصحافيين منذ عام 2019.
وعندما لا تجري مهاجمة الصحافيين جسدياً فإنهم يتعرضون للهجمات اللفظية، وقد أصبحت عملية تشويه ما يسمى بالإعلام التقليدي ونزع شرعيته سياسة روتينية يتبعها البيت الأبيض، والهدف واضح، فإذا استطاع الرئيس دونالد ترمب إقناع الناس بأن صحيفة "نيويورك تايمز" تقدم أخباراً كاذبة، فإنهم لن يصدقوا الصحيفة في المرة المقبلة عندما تنشر تحقيقات تتعلق بشؤون ترمب.
المتحدثة الرسمية باسم البيت الأبيض هي كارولين ليفيت (27 سنة) وتؤمن بأن الرئيس دونالد ترمب كان قد فاز في دورة انتخابات عام 2020، فاستغلت أول إحاطة إعلامية لها للادعاء (زوراً) بأن 50 مليون دولار أميركي من أموال دافعي الضرائب تخصص سنوياً لتمويل شراء واقيات ذكرية في قطاع غزة، وليس من الواضح إذا كان لديها أي خبرة صحافية على رغم تقدمها سابقاً بطلب للحصول على فرصة تدريب إعلامي لدى قناة "فوكس نيوز".
ليفيت هذا الأسبوع أخذت على عاتقها إلقاء محاضرة على هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) حول المعايير التحريرية المعتمدة، وانتقدت بشدة تقريراً للمحطة عن عدد الوفيات في قطاع غزة، وادعت بأن الإذاعة البريطانية اضطرت إلى سحب ادعاءاتها، وكان ذلك أشبه بضرب من الخيال، كما أوضح مراسل شبكة "بي بي سي" روس أتكينز في قصة مصورة مدتها ثلاث دقائق عرضت في اليوم التالي، ولكن كما يقال غالباً ما يتطلب انتشار الحقيقة وقتاً من الزمن، فمثلاً سارع مذيعو قناة "جي بي نيوز" (البريطانية اليمينية) إلى الفرح ابتهاجاً إهانة "بي بي سي" من دون أن تحرك المحطة ساكناً للتحقق مما إذا كانت أي من مزاعم ليفيت صحيحة بالفعل.
ويعمل الصحافي أتكينز لمصلحة شعبة "تَحقق" في "بي بي سي"، والتي يريد مالك محطة "جي بي نيوز" إغلاقها، أكاذيب أم حقائق، من يكترث؟
لذا فإن الصحافة تكافح اليوم، ولهذا السبب يستحق الأمر التوقف لتذكر والاحتفاء بأفضل ما لدينا بدلاً من التركيز على الأسوأ.
الثلاثاء الماضي ودعنا الصحافي دانكن، وكان هو نفسه خبيراً في تغطية جنازات الأشرار الذين عرفهم خلال أعوام عمله، بمن فيهم شخصيات من عالم العصابات الإجرامية مثل تشارلي ريتشاردسون وروني كراي، إضافة إلى كبار لصوص القطارات، باستر إدواردز وروني بيغز، وبالنسبة إلى أحدهم، بيتر سكوت، وهو لص مجوهرات معروف توفي مفلساً ومن دون أي قرش في جيبه عام 2013، انتهى الأمر بدانكن نفسه إلى تنظيم جنازته في مقبرة منطقة إيسلينغتون شمال لندن، وقام دانكن بترتيب دفن سكوت ليكون عند الساعة الـ 10:15 صباحاً، وقال مستذكراً "كان هناك خصم على الموعد الباكر"، وحين سأله منظم الجنازة عن وظيفة المتوفى أجاب دانكن "لص منازل بارع"، كما اختار الموسيقى الجنائزية بنفسه، فقد حُمل النعش إلى المقبرة على أنغام معزوفة إنجيلية قديمة "تسلل بعيداً" Steal Away.
من المفيد أن يكون لديك حس فكاهي إذا كنت تقضي حياتك في تغطية الجريمة، ناهيك عن أخبار البيت الأبيض اليوم.
© The Independent