ملخص
يرى باحثون في الشأن الأمني أن تحسن الوضع الأمني في بغداد يعود لمجموعة عوامل متداخلة، أبرزها تراجع نشاط الجماعات المسلحة المتطرفة، التي كانت لسنوات تشكل تهديداً دائماً لأمن العاصمة.
في قلب العراق، حيث تلتقي الحضارات وتتصارع التحديات، تقف بغداد اليوم أمام مشهد جديد، يكاد يكون مختلفاً تماماً عما عهدته الأجيال السابقة. فالعاصمة العراقية التي كانت حتى سنوات قريبة تعيش على وقع الانفجارات اليومية والقلق الدائم، باتت الآن تشهد تحولاً ملموساً في وضعها الأمني، وفق ما يلاحظه سكانها وزوارها، على حد سواء.
يتحدث عدد من أهالي بغداد عن شعور بالطمأنينة لم يكن مألوفاً قبل أعوام، إذ لم تعد أصوات الانفجارات تتردد في أجواء المدينة كل يوم، ولا تنتشر الحواجز الأمنية بالكثافة السابقة نفسها. الحركة التجارية عادت لكثير من مناطق العاصمة، والمقاهي والمطاعم تعج بالرواد حتى ساعات متأخرة من الليل. المناطق التي كانت تعرف بكونها "ساخنة" أمنياً، أصبحت اليوم أكثر استقراراً، بحسب سكانها.
واقع حال
يقول أحد أصحاب المحال في منطقة الكرادة، "كنا نغلق المحال قبل المغرب خوفاً من التفجيرات، الآن نبقى حتى منتصف الليل وأحياناً في المناسبات والأعياد إلى ساعات الصباح الأولى، ونشعر بالأمان حتى في الزوايا التي كانت تعتبر مريبة".
تضيف سيدة تسكن في مدينة الصدر، "لم أعد أشعر بالقلق على أطفالي إذا خرجوا إلى السوق أو المدرسة، هناك تغير فعلي نشعر به يومياً".
هذا الشعور بالأمان لا يقتصر على الأهالي فقط، بل يلاحظه الزوار أيضاً، إذ أصبح مألوفاً أن ترى سياحاً عرباً وأجانب يتجولون في شارع المتنبي أو يتنقلون بين المتاحف والمقاهي الثقافية، وهو مشهد كان من النادر رؤيته قبل سنوات.
يرى باحثون في الشأن الأمني أن تحسن الوضع الأمني في بغداد يعود لمجموعة عوامل متداخلة، أبرزها تراجع نشاط الجماعات المسلحة المتطرفة، التي كانت لسنوات تشكل تهديداً دائماً لأمن العاصمة.
ويقول الخبير الأمني طارق عبدالواحد إن "بغداد كانت تمثل هدفاً رمزياً واستراتيجياً للجماعات المتطرفة، لكن بعد الضربات المركزة التي تلقتها هذه الجماعات في مناطق غرب العراق وشماله، تراجعت قدرتها على تنفيذ هجمات نوعية في العاصمة"، ويضيف "اليوم لم تعد بغداد بيئة حاضنة أو مناسبة للأنشطة الإرهابية كما كانت في فترات سابقة، بفضل تطور التنسيق الاستخباري والعمل الميداني المتكامل". كما يشير عبدالواحد إلى نقلة نوعية استجدت في أساليب التعامل مع التهديدات الأمنية، إذ لم تعد تعتمد فقط على الرد العسكري، بل امتدت لتشمل العمل الوقائي والمراقبة الإلكترونية، إلى جانب التنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية.
من العسكرة إلى الاستقرار المدني
من أبرز التحولات التي شهدتها بغداد، وفق مراقبين، هو التراجع التدريجي لمظاهر العسكرة داخل المدن. فلم تعد الشوارع تعج بالحواجز الأمنية الثابتة، ولا تنتشر المظاهر المسلحة بالوتيرة نفسها التي كانت عليها في العقد الماضي.
ويقول الباحث الأمني علي الحسيني إن "الملف الأمني في بغداد يشهد انتقالاً من حالة الطوارئ الدائمة إلى حالة الاستقرار النسبي، هناك جهود لإعادة الحياة الطبيعية، وتقليل الوجود العسكري غير الضروري في المناطق السكنية، وهذا لا يعني التخلي عن الأمن، بل تنظيمه بطريقة أكثر عقلانية". ويرى الحسيني أن "هذا التحول لم يأت من فراغ، بل نتيجة عمل ممنهج، واستقرار سياسي نسبي، ساعد في توحيد الجهود الأمنية، وتقليص تأثير الجهات المسلحة الخارجة عن إطار الدولة".
التحديات المتبقية
على رغم المؤشرات الإيجابية، ما زالت بغداد تواجه تحديات أمنية من نوع مختلف، لا تتعلق بالسيارات المفخخة أو التفجيرات، بل بقضايا مثل السلاح المنفلت والنزاعات العشائرية والجريمة المنظمة.
ويحذر المحلل الأمني ناصر الكناني من "الركون إلى الشعور العام بالأمان"، موضحاً أنه "على رغم اختفاء ملامح العنف الدموي من المشهد اليومي، فإن هناك تحديات أخرى، مثل انتشار الأسلحة خارج إطار الدولة، وضعف السيطرة على بعض الجهات المسلحة، وهذا قد يؤدي إلى اهتزاز الوضع الأمني في أية لحظة إذا لم تتم معالجته بجدية"، ويضيف أن "الأمن لا يقاس فقط بغياب الانفجارات، بل أيضاً بمدى شعور المواطن بعدم الخوف من الابتزاز، أو من التعدي على حقوقه من جماعات أو أفراد يمتلكون نفوذاً أكبر من سلطة القانون".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دور المجتمع في صناعة الأمن
من الزوايا المهمة التي بدأت تتضح في مشهد بغداد الأمني، هو دور المجتمع المحلي في المساهمة بحماية أمنه، وتشجيع التعاون مع الأجهزة الأمنية. ويقول الناشط المدني مصطفى فاضل إن "الناس بدأت تدرك أن الأمن ليس فقط مسؤولية الدولة، بل هو مسؤولية الجميع. هناك وعي جديد لدى الشباب، يدفعهم إلى حماية أحيائهم، وتشجيع أجواء الاستقرار، خصوصاً من خلال تنظيم الفعاليات الثقافية والرياضية التي تخلق بيئة مختلفة تماماً عن تلك التي كانت تسود في فترة العنف".
هل تستمر حالة الأمان؟
ويرى مراقبون أن استمرار الأمن في بغداد مرهون بعوامل عدة، في مقدمها الاستقرار السياسي، ومواصلة دعم أجهزة الأمن بالتقنيات والتدريب، وكذلك حصر السلاح بيد الدولة، وهي ملفات لا تزال بحاجة إلى إرادة قوية ومتابعة حثيثة.
ويقول طارق عبدالواحد إن "بغداد قطعت شوطاً طويلاً في طريقها نحو التعافي الأمني، لكن هذا الطريق ما زال محفوفاً بالأخطار. هناك مؤشرات واعدة، لكن التحدي الحقيقي هو الحفاظ عليها، وعدم السماح بعودة الفوضى بسبب النزاعات السياسية أو التجاذبات المسلحة". كما يشدد على أن "السلام الحقيقي لا يتحقق فقط بغياب العنف، بل بوجود قانون يسري على الجميع، ومؤسسات قادرة على فرضه بعدالة وشفافية".
من الخوف إلى الأمل
لقد تغيرت بغداد، وربما للمرة الأولى منذ عقود، باتت الصورة التي تعكسها المدينة أكثر إشراقاً. الأمن في العاصمة العراقية ليس مثالياً، ولا يخلو من التحديات، لكنه أصبح واقعاً محسوساً، لا مجرد وعود أو خطابات سياسية.
وبينما تسير المدينة في دروب التعافي، يبقى الأمل معلقاً على قدرة الدولة والمجتمع على حماية هذا المكسب، وتطويره نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً. ففي النهاية، أمن بغداد ليس فقط مفتاح سلام العراق، بل حجر الأساس لعودته كدولة قوية، حاضنة لجميع أبنائها، وحامية لحقوقهم وأحلامهم.