Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صعود النزعات القومية وسيلة للهيمنة السياسية

شعارات الهوية جاءت باليمين المتطرف لأوروبا واستدعت السلطة في الهند وتركيا والصين وحتى الولايات المتحدة

تمكن الرئيس دونالد ترمب عبر شعاره "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً" من العودة لاستخدام الشريان القومي لدى الأميركيين (أ ف ب)

ملخص

يشعر كثير من أعضاء الطبقات الفقيرة أو المتوسطة أن العولمة أفادت النخب وحرمت الناس العاديين من العيش في رغدها الذي وعدتهم به، وتبين أن نظام العولمة الجديد الذي يهيمن على العالم كان ذا منفعة لفئة قليلة من الناس، بينما أصاب الضرر فئات وطبقات كثيرة، فكان الرد هو الانكفاء إلى "الهوية" و"الأرض" و"الأمة"، وأصبح الشعور القومي أو الانتماء إلى قومية معينة درعاً نفسية وثقافية أمام الذوبان في المجهول المعولم.

تمكن الرئيس دونالد ترمب عبر شعاره "أميركا أولاً" و"لنجعل أميركا عظيمة مجدداً" من العودة إلى استخدام الشريان القومي الأميركي لدى الأميركيين المتشاوفين على ديمقراطيتهم أمام سائر شعوب العالم، وتمكن أيضاً من النفخ في الهوية القومية البيضاء التي زادت عصبيتها مع انتخاب الرئيس باراك أوباما كأول رئيس أسود.

وأمسك ترمب بهذا الخيط إضافة إلى معاناة هذه الطبقة من إفلاس الشركات التي تنشأ بلداتهم على ضفافها وعلى رأسها شركات السيارات والآليات الكبيرة، وإعلان الرئيس بعد انتخابه الحرب على المهاجرين، واستكماله بناء حائط السد على الحدود مع المكسيك وطرده من الولايات المتحدة عشرات آلاف المهاجرين غير النظاميين من دون النظر في الأسباب التي دفعتهم إلى الهجرة، والتي قد تكون سياسية أو تعليمية أو بسبب جمع الشمل، كلها محاولات الرئيس ترمب لتصعيد الخطاب القومي الأميركي مجدداً.

حتى إن بابا الفاتيكان لاوون الرابع عشر انتقد في عظته الأحد الماضي ظهور الحركات السياسية القومية التي وصفها بالـ"مؤسفة"، وإشارة البابا لاوون، وهو أول أميركي يصبح بابا للفاتيكان، خلال قداس عيد العنصرة وأمام حشد من عشرات الآلاف في ساحة القديس بطرس المر في أوائل عظاته إنما يشير إلى أن موضوع صعود السياسات القومية والأحزاب ذات النزعة القومية الضيقة، والتي تهدد انفتاح الشعوب والثقافات والحدود والاقتصادات على بعضها بعضاً بات موضوعاً طارئاً.

وطلب البابا أن "يفتح الرب الحدود ويحطم الجدران ويبدد الكراهية"، قائلاً إنه "لا مجال للعقلية الإقصائية التي نراها الآن، والتي تظهر أيضاً في التوجهات القومية السياسية"، وهذه الظاهرة السياسية كانت محل اهتمام البابا الراحل فرنسيس الذي انتقد الرئيس الأميركي ترمب في يناير (كانون الثاني) الماضي قائلاً إن خطة الرئيس لترحيل ملايين المهاجرين من الولايات المتحدة خلال فترة ولايته الثانية هي "وصمة عار".

العولمة وأسباب أخرى لتصاعد القومية

الإشارة إلى هذا النوع من النزعات القومية الجديدة لا يعني بالضرورة أنها أحزاب عسكرية أو فاشية كما كانت في أواسط القرن الـ20، لكنها ثقافية وشعبوية، واقتصادية أو قومية صناعية أو قوية للحماية الجمركية، أما دور الإنترنت والعولمة في كل ذلك فهو عدم قدرته على إلغاء الانتماءات القومية كما كان ينتظر الجميع، بل تحول إلى أداة لتعزيزها، وبات بإمكان كل جماعة من أصحاب الآراء القومية خلق عالمها الرقمي والترويج لروايتها القائمة على استعداء "الآخر".

وهناك أسباب أخرى أيضاً منها الخوف على الهوية الأصلية والثقافة القديمة وعادات وتقاليد المجتمع التي يفككها الانفتاح على العالم أو يجعلها ذات هوية واحدة هي الهوية الأميركية عبر برامج الكمبيوتر والـ"ماكدونالدز" والطعام السريع و"نتفليكس" و"إنستغرام".

في فرنسا أسهم تنامي شعبية اليمين المتطرف، مثل حزب "التجمع الوطني" بقيادة مارين لوبن إلى تعزيز خطاب معاد للهجرة والإسلام، ويحمل المهاجرين مسؤولية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتمكنت الأحزاب اليمينية من اللعب على وتر تراجع ثقة الناخبين بالنخبة السياسية وشعور المواطن الفرنسي بالتهميش، وفشل السياسات الاندماجية، مما عمق الفجوة بين المهاجرين والمجتمع الفرنسي.

ألمانيا ذات الماضي النازي تشهد اليوم صعوداً لحزب البديل من أجل ألمانيا الذي حصل على 21 في المئة من الأصوات في الانتخابات الأخيرة، مما يجعله ثاني أكبر قوة في البرلمان، وصعد الحزب فوق قضايا مثل القلق من الهجرة، بخاصة بعد أزمة اللاجئين في 2015، وكذلك بسبب التفاوت الاقتصادي بين شرق وغرب ألمانيا، إذ يشعر سكان الشرق بالتهميش.

إيطاليا تشهد صعوداً لأحزاب قومية مثل "الرابطة" بقيادة ماتيو سالفيني و"إخوة إيطاليا" بقيادة جورجيا ميلوني، التي أصبحت رئيسة للوزراء، هذه الأحزاب تركز على مناهضة الهجرة، بخاصة من أفريقيا والشرق الأوسط، والحنين إلى الماضي، واستحضار رموز الفاشية، ورفض الاتحاد الأوروبي، والدعوة إلى السيادة الوطنية، ويغذي هذا الصعود أزمات اقتصادية متكررة، تشعر المواطن الإيطالي بالإحباط، وتضخيم موضوع تدفق المهاجرين عبر البحر المتوسط لإثارة المخاوف الأمنية والثقافية، مترافقاً مع فشل الأحزاب التقليدية في تقديم حلول فعالة.

القومية بسبب تآكل السيادة الوطنية

يعتبر علماء الاجتماع السياسي أن العودة إلى النزعة القومية يكون سببه حرص القوميين على منع تآكل الصورة الوطنية، والتي تبهت أمام الانتماء إلى مساحة أوسع كالاتحاد الأوروبي مثلاً، وهناك بعض القوميين الذي يعتبرون المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد أو الاتحاد الأوروبي قوى ما فوق وطنية تملي شروطها وتفرضها ولو كانت تضر بمصلحة البلد ومواطنيه، ما يؤدي إلى ارتداد بعض مواطني الدولة إلى الانتماء القومي كوسيلة دفاع في مواجهة الانفتاح، أو كوسيلة لاسترجاع "الكرامة الوطنية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الهند رئيس الوزراء ناريندرا مودي وحزبه "بهاراتيا جاناتا" نشهد قومية هندوسية صاعدة تضرب بقوة في السياسة والتعليم وحتى في السينما، ويروج رئيس الوزراء الهندي وحزبه لفكرة "الهند الكبرى" الهندوسية ويشيطنان أصحاب الديانات الأخرى وعلى رأسهم الأقليات المسلمة والمسيحية.

هذا النوع من القومية الوطنية الدينية هو أحد أسوأ أنواع الانتماء القومي لأنه يشيطن الآخر وفقاً لعقيدة دينية، فعلى سبيل المثال يقول عدد كبير من العائلات المسلمة الهندية إن أجدادهم وآباءهم بقوا في الهند لأسباب وطنية ولم يذهبوا إلى باكستان لأسباب دينية، فلا يمكن لهنود آخرين تحت راية القومية الدينية أن يطلبوا منهم الرحيل إلى باكستان.

وتتعدد الطوائف الدينية في الهند كتعدد اللغات التي تزيد على 300 لغة محلية، وتمكن الحزب الحاكم من إقرار قوانين وتشريعات مثل قانون الجنسية المعدل (CAA – 2019) الذي يمنح الجنسية للاجئين من أديان معينة ويستثني المسلمين، وقام مجلس النواب أخيراً بإلغاء المادة 370 من الدستور التي كانت تمنح كشمير استقلالاً جزئياً.

وأدى التجييش الشعبوي ضد المسلمين إلى ارتفاع عدد حوادث القتل الجماعي في حق مسلمين تحت ذريعة "ذبح البقر، وجرت التغطية الرسمية على بعض هذه الجرائم الطائفية، وتم حذف أو تقليص التاريخ الإسلامي من كتب التاريخ، وتضخيم دور الرموز الهندوسية القومية، وسيطرة خطاب واحد في الإعلام يتماهى مع سردية مودي، وما يريده هذا الحزب هو توحيد الهندوس الذين يشكلون نحو 80 في المئة من السكان والمنقسمون طبقياً ولغوياً تحت راية "الهندوتفا"، محاولاً إلغاء الفوارق الداخلية وفرض هوية واحدة مصاغة ثقافياً.

وفي الصين بات استخدام القومية الصينية من قبل الرئيس شي جينبينغ الذي يسعى إلى ترويج ما يسمى الحلم الصيني مضاهاة للحلم الأميركي، لتعزيز الهيمنة السياسية، وغالباً ما تكون قضايا هونغ كونغ وتايوان والبحر الجنوبي هي القضايا التي يتمكن الرئيس ومن خلفه الحزب الشيوعي الصيني من تعزيز الشعور بالانتماء القومي الصيني وتوكيد السيطرة.

وفي المجر ظهرت أحزاب قومية أوروبية يمينية محافظة مثل حزب فيكتور أوربان الذي يروج لقومية مسيحية ضد "الليبرالية الغربية" والهجرة، وكذلك في بولندا باتت ترفع الراية الوطنية ضد ما تسميه "إملاءات بروكسل".

في تركيا أردوغان وحزب "العدالة والتنمية" ترتفع أنواع مختلفة من النزعة القومية التركية، ولكنها متفقة جميعاً على اضطهاد كل ما يعتبر "غير تركي بما فيه الكفاية" من أكراد وعلويين وعلمانيين والمهاجرين السوريين الذين ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بفيديوهات تصور التصرف العنصري التركي في الأماكن العامة تجاه هؤلاء المهاجرين.

وهناك القومية الكمالية أو العلمانية الصلب والتي تركز على اللغة التركية والهوية الطورانية، ونبذ العثمانية والإسلام السياسي، وهي تعتبر أنها مشروع تحديثي أقرب إلى أوروبا من الشرق المتخلف، وكذلك القومية الإسلامية أو العثمانية الجديدة التي تبلورت مع حزب "العدالة والتنمية" بقيادة أردوغان، وهي قويمة تمزج بين العزة الإسلامية، والحنين للسلطنة العثمانية، والمواقف المعادية للغرب والعملاء من الخونة الداخليين وتنظر للماضي العثماني على أنه المجد المفقود.

نزعة قومية أخرى تقودها التركية القبلية أو الطورانية اليمينية التي تربط تركيا بالشعوب التركية في آسيا الوسطى وتنادي بمعاداة العرب والإيرانيين والأكراد والسوريين، وتؤمن بفكرة "تركيا الكبرى" التي تشمل تركستان وأذربيجان، وجزءاً من الصين.

وتسيطر النزعة القومية العثمانية على مثيلاتها وهذا ما يمكن إيجاده في المسلسلات التركية التي تمت دبلجت كثير منها إلى لغات مختلفة، ومنها العربية، ومن هذه المسلسلات "قيامة أرطغرل" و"المؤسس عثمان" و"نهضة السلاجقة" لتمجيد الماضي التركي الإسلامي.

وغالباً ما تلجأ الحكومات إلى مثل هذه الخطابات حين تفشل في الاقتصاد والتخفيف من حدة البطالة، فتكون طريقة الهرب من المحاسبة هي بوضع المسؤولية على الآخر المختلف، فنقول إنهم السبب ونضخم هذه الفكرة حتى يصدقها العدد الأكبر من المواطنين الرازحين تحت ثقل هذه الأزمة الاقتصادية، وتصبح الدعوة القومية مخدراً جماعياً، لتسكين ألم الفقر، أو الخوف من ضياع الهوية في المجتمعات الحديثة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير