ملخص
تشكل أفريقيا ودول الجنوب العالمي ساحة مثالية لتجريب نموذج "المنظمة الدولية للوساطة"، كونها مناطق مثقلة بإرث الاستعمار والتدخلات الغربية، وتبحث عن شركاء تنمويين لا يربطون المساعدات أو الوساطة بتغييرات داخلية مفروضة. وتعيد الصين تعريف دورها في أفريقيا، لا باعتبارها فقط الممول والمقاول، بل كقوة تنظيمية قادرة على ضبط إيقاع التفاعلات الإقليمية، لا بدافع القيم، بل تحت ضغط الضرورات.
اختارت الصين أن يكون الجسر التاريخي، بين الإرث الإمبراطوري الصيني والعصر الحديث ممثلاً في هونغ كونغ، موقعاً لمراسم توقيع وتأسيس اتفاق "المنظمة الدولية للوساطة" (إيوميد)، إذ وقع ممثلو 33 دولة تمثل الجنوب العالمي من دول أفريقية وآسيوية تربطها علاقات وثيقة مع بكين على الوثيقة.
لم تكن المناسبة مجرد تدشين كيان دولي جديد، بل تجلياً لرؤية صينية آخذة في التشكل، تسعى إلى إعادة تعريف مفاهيم القوة والنفوذ الآتية من الجنوب، ومنها انطلقت مبادرة تعكس ابتكار آليات بديلة لتسوية النزاعات التجارية وغيرها من النزاعات الدولية، تستلهم من التاريخ وتخاطب تعقيدات الحاضر.
لم تكن هذه المبادرة وليدة اللحظة، بل ثمرة تراكم استراتيجي بدأ مع نهاية الحرب الباردة، حين اختارت الصين مسار "الصعود السلمي" بديلاً عن المقارعة الأيديولوجية، ثم سلكت طريق انفتاحها التدريجي على العالم. وفي خلفية هذا المشروع تتردد أصداء تاريخية عميقة، من "سلام الممالك المتنازعة" الذي نشأ في ظل اضطرابات حقبة الممالك المتحاربة، إلى فلسفة "الانسجام بلا تماثل" التي تمثل جوهر الكونفوشيوسية في إدراك التنوع لا بوصفه خطراً، بل طاقة إنسانية قابلة للتنظيم والتفاعل.
تترجم الصين مفهوم "الانسجام بلا تماثل" إلى سياسة خارجية ترفض فرض النماذج، وتشجع على حلول "مصممة محلياً"، سواء في مبادرة "الحزام والطريق" أو عبر آليات الوساطة الدولية. وفي إطار التكتلات الناشئة كـ"بريكس" و"منظمة شنغهاي"، يتجلى هذا الانسجام بين دول الجنوب كصيغة تفاوضية مرنة.
دخول الصين ميدان الوساطة لا يبدو معزولاً عن رهانات الجغرافيا السياسية، فصراعات الجنوب العالمي، خصوصاً الأفريقية، ليست مجرد نزاعات محلية، بل نقاط تماس مع مصالح قوى دولية تقليدية. وإذا ما نجحت الصين في بناء ثقة كوسيط بديل، فإنها لا تطرح فقط أدوات جديدة لتسوية النزاعات، بل تقدم نفسها كحاضنة لرؤية جنوبية لفض النزاعات، قائمة على فرضية تفكيك منطق الهيمنة. غير أن هذا المسار لا يخلو من التحديات، فهل تستطيع الصين الحفاظ على حيادها حين تكون طرفاً اقتصادياً رئيساً في نزاعات تمس مصالحها؟ أم أن وساطتها ستتحول إلى أداة لإعادة ترسيم الاصطفافات داخل القارة، بما يتجاوز مجرد تسوية النزاع إلى هندسة ميزان قوى جديد؟
تحول محسوب
يمثل تأسيس الصين لـ"المنظمة الدولية للوساطة" خطوة استراتيجية تعكس تحولاً محسوباً في مسار سياستها الخارجية، من التركيز الأحادي على الاقتصاد إلى الانخراط المنظم في إدارة النزاعات الدولية، لا سيما في مناطق الجنوب العالمي. هذا التحول لا ينبع من دوافع مثالية أو قيمية بحتة، بل من قراءة براغماتية دقيقة لطبيعة النظام الدولي وتوازناته المتغيرة. فالصين، التي اختبرت حدود الشرعية الدولية التقليدية في أزمة بحر الصين الجنوبي عام 2016، أدركت أن أدوات تسوية النزاعات تخضع لموازين القوة ومصالح الدول الكبرى، وأن البنية الحالية للنظام العالمي لا تمنح بكين موقعاً يتناسب مع ثقلها المتنامي.
من هنا، تسعى الصين إلى بناء أدوات مؤسسية بديلة تعزز حضورها وتمنحها هامشاً أوسع للتأثير خارج الأطر الغربية، مستخدمة خطاب "الاحترام المتبادل" و"عدم التدخل" لخلق نموذج وساطة يلقى رواجاً لدى دول تبحث عن حلول ويعيد تشكيل موازين القوى على مستوى الوساطة الدولية، ويمهد لنموذج صيني مختلف في صناعة السلام يتجاوز منطق العقوبات و"الديمقراطية المشروطة" الذي تتبناه قوى الغرب.
وتشكل أفريقيا ودول الجنوب العالمي ساحة مثالية لتجريب هذا النموذج، كونها مناطق مثقلة بإرث الاستعمار والتدخلات الغربية، وتبحث عن شركاء تنمويين لا يربطون المساعدات أو الوساطة بتغييرات داخلية مفروضة.
العوامل التي ساعدت الصين في تبني هذا الدور تتجاوز الطموحات الجيوسياسية، فهي تشمل شبكة النفوذ الاقتصادي الواسعة التي نسجتها عبر مبادرة "الحزام والطريق"، مما أتاح لها علاقات وثيقة مع العواصم الأفريقية والآسيوية، من دون الحاجة إلى هيمنة سياسية مباشرة. كما استفادت بكين من تراجع الثقة في حيادية النظام الدولي القائم، وانكفاء الوساطات الغربية في أعقاب إخفاقات متكررة في الشرق الأوسط وأفريقيا، مما ولد فراغاً حقيقياً في أدوات إدارة الأزمات.
وتتكامل هذه الديناميكية مع صعود تكتلات دولية جديدة مثل "بريكس" و"منظمة شنغهاي للتعاون"، التي تروج لفكرة "اللامركزية في الحوكمة الدولية" وتشكل فضاء موازياً لإنتاج معايير بديلة لتسوية النزاعات كامتداد عضوي لها، إذ تطرح الوساطة كأداة لتكريس تعددية قطبية تراعي الخصوصيات وتقلص من هيمنة الغرب.
بهذا، تبدو الصين لا بصدد إعادة إنتاج النموذج الأميركي، بل تسعى إلى قولبة العالم وفق منطق "الصعود الهادئ"، مستخدمة الوساطة كرافعة جيوسياسية لصياغة نظام دولي جديد يخدم مصالحها ويعكس رؤيتها لعالم متوازن.
صعود جيوسياسي
على امتداد ثلاثة عقود ظل الحضور الصيني في أفريقيا محكوماً بمنطق "الاستثمار بلا تدخل"، إذ كانت بكين تقدم نفسها كقوة تنموية لا شأن لها بالخلافات السياسية أو النزاعات المسلحة. غير أن هذا النهج، وإن ضمن لها توسعاً اقتصادياً سلساً، جعلها تغيب عن مشاهد حاسمة كان بإمكانها التأثير فيها، وحرمانها من بناء أدوات نفوذ سياسي يوازي ثقلها المالي. ففي نزاع جنوب السودان، على سبيل المثال، وعلى رغم أن الصين تعد الشريك التجاري الأكبر وجزءاً أساسياً في صناعة النفط هناك، امتنعت لسنوات عن ممارسة أي ضغط سياسي مباشر على أطراف الصراع، متمسكة بمبدأ "عدم التدخل"، مما ترك الساحة للغرب ولـ"الهيئة الحكومية للتنمية" (إيغاد) لتقود جهود الوساطة. هذا التردد كلفها خسائر اقتصادية وأمنية، إذ تهددت مصالحها النفطية مراراً بفعل الصراع الداخلي.
وفي أزمة تيغراي في إثيوبيا، وهي دولة تعد حجر زاوية في الاستراتيجية الصينية في القرن الأفريقي، التزمت بكين الصمت شبه الكامل، على رغم أن النزاع زعزع استقرار واحد من أهم الشركاء في مشروع "الحزام والطريق". مرة أخرى، فضلت الصين عدم الدخول في دوامة النزاعات الإثنية والسياسية، خشية التورط أو تشويه صورتها كشريك محايد، مما سمح لقوى غربية وأممية أن تكون الأكثر تأثيراً في مخرجات الأزمة.
لكن هذا الحذر بدأ يتآكل تدريجاً بفعل تحولات بنيوية في النظام الدولي، وظهور فراغات سياسية تسعى الصين إلى ملئها. فالصعود الجيوسياسي لبكين يحتاج إلى أدوات أكثر مرونة، ومن هنا جاء تأسيس "منظمة الوساطة الدولية" كإطار مؤسسي يتيح التدخل الناعم من دون التضحية بمبدأ السيادة. ما يشجع الصين اليوم هو تراجع الثقة الأفريقية بالنماذج الغربية، وتصاعد الطلب على وساطات لا ترتبط بالعقوبات أو بالإملاءات السياسية، إضافة إلى خبرة تراكمية اكتسبتها الصين في فهم الديناميكيات المحلية من خلال مشاريعها الكبرى.
إن الصين تعيد تعريف دورها في أفريقيا، لا باعتبارها فقط الممول والمقاول، بل كقوة تنظيمية قادرة على ضبط إيقاع التفاعلات الإقليمية. وهي إذ تشرع في هذا المسار، لا تتحرك بدافع القيم، بل تحت ضغط الضرورات (حماية الاستثمارات، وصناعة الشرعية، وملء الفراغات التي يخلفها انسحاب الآخرين).
تموضع ناعم
لا تقتصر أبعاد خطوة الوساطة الدولية على بعدها الدبلوماسي، بل تعكس تحولاً في عقيدة السياسة الخارجية الصينية نحو ممارسة دور أكثر فاعلية في إدارة النزاعات الدولية، لا سيما في أفريقيا، إذ تتقاطع الفراغات الجيوسياسية مع مكاسبها الاقتصادية المتنامية.
إن دخول الصين كفاعل مؤسسي في وساطة النزاعات الأفريقية يشكل تحولاً نوعياً في النظام الدولي البديل، في مواجهة الهيمنة الغربية التقليدية على أدوات الوساطة وصناعة السلام. فالصين لا تطرح نفسها كقوة مهيمنة، بل كـ"شريك تنموي محايد"، مما يجتذب حكومات أفريقية تواجه صراعات داخلية وتبحث عن وساطة غير مشروطة سياسياً.
جيوسياسياً، توظف الصين هذه المبادرة لتعزيز حضورها في مناطق النزاع ذات الأهمية الاستراتيجية، مثل القرن الأفريقي والساحل وأفريقيا الوسطى، مما يسمح لها ببناء شبكات نفوذ دبلوماسي مواز لطرقها التجارية ومبادراتها الأمنية. وقد تمثل هذه المنظمة بداية لما يمكن تسميته بـ"عولمة بديلة للوساطة"، تعيد تعريف دور أفريقيا في العلاقات الدولية، لا بوصفها ساحة للنزاع، بل كمنصة لإعادة التوازن في النظام العالمي الناشئ.
ولا يكمن جوهر هذا التحول فقط في أن الصين توسع دوائر نفوذها خارج الأطر الاقتصادية، بل في أنها تعيد صياغة منطق الوساطة نفسه بوصفه أداة استراتيجية متعددة المستويات، دبلوماسية وأمنية وتنموية. ففي الوقت الذي ترهق فيه الوساطات الغربية بثقل الأجندات السياسية، تقدم بكين عرضاً مختلفاً يستند إلى البراغماتية والانفتاح على خصوصيات السياقات المحلية، وهو ما يمنحها مساحة للتأثير المتنامي في نظم الحكم، من دون أن تبدو قوة تدخل مفروضة. وفي هذا الإطار، لا يفهم تأسيس "المنظمة الدولية للوساطة" كمجرد خطوة فنية، بل كمؤشر على ما يمكن تسميته بـ"تموضع ناعم" يعكس وعياً استراتيجياً صينياً بأن التغيير في ميزان القوى العالمي لا يبدأ بصدام مباشر مع المركز، بل من بناء بدائل هادئة في الهوامش.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحديات التوازن
لا تزال الشكوك قائمة حول مدى حياد الصين وقدرتها الفعلية على لعب دور الوسيط النزيه، في ظل تموضعها الاقتصادي العميق في أفريقيا عبر مشاريع كبيرة قائمة، وكذلك مبادرة "الحزام والطريق"، واعتماد عدد من الدول الأفريقية على القروض والاستثمارات الصينية.
من حيث المبدأ، يمكن للصين أن تتدخل كوسيط في نزاع يخص طرفاً ترتبط به بمصالح اقتصادية، شريطة أن تثبت في أدائها التزاماً بالشفافية، وتوازناً بين أطراف النزاع، وتجنب استخدام الوساطة كأداة لحماية استثماراتها أو توسيع نفوذها. لكن من الناحية الواقعية، فإن هذا التوازن محفوف بتحديات. فكلما زادت الروابط الاقتصادية بين الصين ودولة معينة، زادت احتمالات التشكيك في حيادها، خصوصاً في بيئات تعاني إرثاً استعمارياً أو نفوذاً خارجياً متشابكاً.
ومع ذلك تمتلك الصين أدوات ناعمة فريدة تتيح لها المناورة، فهي لا تفرض إصلاحات سياسية، ولا تشترط تبني نموذج حكم معين، مما يمنحها شرعية في نظر عدد من الحكومات الأفريقية والآسيوية. وإذا ما استثمرت هذه "الشرعية الصامتة" في مسارات الوساطة من دون انحراف عن مبادئ الحياد الإجرائي، فقد تكون قادرة على تقديم نموذج غير تقليدي في تسوية النزاعات.
بإمكان الصين أن توازن بين مصالحها ودور الوسيط، ولكن ذلك يتطلب منها إرادة سياسية قوية، ومأسسة صارمة للحياد، وشفافية في الإجراءات، وإشراكاً مرناً لشركائها الإقليميين والدوليين. فنجاح الوساطة لا يقاس فقط بفض النزاع، بل بمدى قبول جميع الأطراف للوسيط، وثقتهم في عدالة العملية.
وفي ما يتعلق بإسهامات المنظمة، وعلى رغم حداثة عهدها، إلا أن الرؤية الصينية تشير إلى أولويات محتملة تشمل النزاعات الحدودية، وتسويات ما بعد الصراع، والتوترات التجارية بين الدول النامية. فالصين قد تركز على النزاعات التي تمس سلاسل الإمداد أو الاستقرار الإقليمي في مناطق ذات أهمية اقتصادية لها، مستخدمة أدوات ناعمة كالدبلوماسية الثنائية، ودعم المفاوضات، وتقديم أطر تقنية وقانونية للوساطة، لكن التحدي الأكبر سيكمن في مدى الشفافية.
يرى مؤيدو المبادرة أن الصين تنقل التنافس الدولي من ميدان الصراع العسكري إلى فضاء الوساطة والدبلوماسية، في ما يعتبره بعضهم إعادة تعريف للقوة العالمية الناعمة. أما المشككون، فيرون في المنظمة امتداداً ناعماً لنفوذ اقتصادي جارف، والراجح أن مدى نجاح الوساطة الصينية في أفريقيا سيعتمد لا فقط على أدواتها، بل على مدى استعدادها لقبول التعدد، وتحقيق التوازن بين النفوذ والمسؤولية، وبين المصالح والمبادئ.
هندسة التفاعلات
في خضم التحولات الجيوسياسية الراهنة، يزداد الاهتمام بمدى قدرة "المنظمة الدولية للوساطة" التي أطلقتها الصين ضمن إطار "مبادرة الأمن العالمي"، على لعب دور بنيوي في إعادة تشكيل خرائط الصراع في القارة الأفريقية. يتجاوز هذا الاهتمام البعد الدبلوماسي التقليدي، ليطاول أبعاداً أعمق تتعلق بإعادة تعريف علاقات القوة، وأشكال التسوية، وهندسة التفاعلات الإقليمية والدولية، في قارة تعج بتحديات مركبة وتاريخ مثقل بتدخلات خارجية لم تفض غالباً إلى الاستقرار.
تسعى الصين من خلال هذه المنظمة إلى ترسيخ نهج مختلف، قوامه الاحترام المتبادل، وتفادي الإملاءات، والتمكين المحلي، وهو ما ينسجم مع سردية "الحلول الأفريقية للمشكلات الأفريقية" التي وجدت صدى واسعاً لدى نخب القارة ومجتمعاتها على السواء. وفي وقت يشهد فيه النفوذ الغربي تراجعاً تدريجياً بفعل إخفاقات متكررة في إدارة الأزمات، تحاول بكين أن تملأ هذا الفراغ بأدوات أكثر مرونة وواقعية، تستند إلى الاقتصاد، والتعاون الأمني غير الصدامي، وبناء الثقة المتبادلة.
في حالات مثل السودان، أو أزمات الساحل، تظهر ملامح هذا النموذج الصيني كخيار بديل قد لا يحمل حلولاً آنية، لكنه يفتح مسارات جديدة للتفاوض، تعيد للفاعلين المحليين مركزيتهم في مسار الحل. ومع تراكم الخبرة وتوسع الحضور، تتحول الصين تدريجاً من شريك تجاري إلى صانع قواعد، يسهم في إعادة تعريف المعايير الناظمة للوساطة في أفريقيا.
ومع ذلك، يبقى التحدي الأبرز في كيفية حفاظ الصين على توازن دقيق بين مصالحها المتعاظمة في الموارد والاستثمار، والتزامها المعلن بالحياد وعدم التدخل. فنجاح هذه المبادرة لن يقاس فقط بقدرتها على إنهاء الصراعات، بل بمدى قبولها في الوعي الجمعي الأفريقي كوسيط صادق، وشريك تنموي يحترم السيادة ويعزز العدالة. وعند هذا التقاطع، قد تتشكل معادلة جديدة لا تستورد الحلول، بل تصوغها من داخل القارة، بروح تنسجم مع طموحات شعوبها وتحولات العالم من حولها.