ملخص
كتاباً بعد كتاب، يمضي الفيلسوف الفرنسي كلود رومانو، الأستاذ في جامعة "السوربون" والعضو في المؤسسة التي تتولى حفظ أرشيف الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل، في مشروعه الفلسفي الذي يسير عكس التيار، رافضاً إخضاع الفلسفة لقضايا الساعة، أو حصرها في التعليق على العلوم في زمن التحولات التكنولوجية المتسارعة والتصاعد غير المسبوق في قدرات الذكاء الاصطناعي وتنامي الخطاب "الترانسإنساني" الداعي إلى التخلص من حدود الجسد والارتقاء إلى "ما بعد الإنسان".
ينطلق الفيلسوف كلود رومانو في تساؤلاته من تاريخ الفلسفة الذي يتقنه بامتياز، مستحضراً القضايا الكبرى التي شغلتها عبر العصور، وعلى رأسها قضية علاقة الإنسان بالعالم. وما كتابه الجديد "الانتماء إلى العالم" الصادر حديثاً في باريس عن منشورات سوي (2025) سوى تأكيد إضافي لهذا التوجه الفلسفي الساعي إلى استعادة خبرتنا المعيشة وإعادة الاعتبار لجسدنا بوصفه الأساس الذي تتجلى من خلاله علاقتنا الوجودية بالعالم.
بمنهج يجمع بين المدرستين الفلسفيتين، المدرسة "القارية" التي تركز على مسألة الكينونة، والمدرسة "الأنغلوساكسونية" التي تولي أهمية كبيرة لتحليل الحجة واللغة، ينطلق رومانو بطموح لا يخلو من الجرأة والوضوح في عملية "تفكيك" الانحيازات المعرفية التي تعوّق علاقتنا المباشرة بالواقع.
يبدأ الكتاب بملاحظة تقول إن تصاعد هيمنة الذكاء الاصطناعي وانتشار الخطابات "الترانسإنسانية" ليسا معزولين عن إرث فلسفي طويل بدأ منذ القرن الـ17، حين شكلت الفلسفة الميكانيكية والفيزياء الـ"غاليلية" رؤية جديدة للطبيعة، اختزلت العالم في معادلات رياضية وأبعاد كمية، وهمشت الحضور الحسي والجسدي الذي يشكل أصل تجربتنا وعلاقتنا بالواقع. هذا التصور الميكانيكي ليس برأي رومانو مشكلة فيزيائية بقدر ما هو أزمة فلسفية، ذلك أن الفيزياء الحديثة، على رغم تغيّر أدواتها، ما زالت تنظر إلى الإنسان من خلال نموذج يرى العالم "كقوة عمياء وعديمة الشخصية، محرومة من الألوان والروائح والصوت"، أي من كل ما يكوّن التجربة الحسية.
التأملات الميتافزيقية
على عكس الذين يسعون إلى تبرئة ديكارت من مسؤوليته في الانقسام العميق الذي أحدثه في تصور العالم، يؤكد رومانو أن الفصل بين النفس والجسد، والنفس والعالم، تم بالفعل على يد صاحب "التأملات الميتافيزيقية"، بل ربما على يد غاليليو قبله، إذ كان غاليليو من أوائل الذين قدموا بصورة منهجية فكرة أن الواقع النهائي ذو طبيعة رياضية، وأن ما نراه ونشعر به في بيئتنا الحسية هو مجرد تقييمات قابلة للخطأ وأن الملاحظة والتجربة هما الطريق الصحيح لفهم العالم.
في هذا الكتاب، يقترح كلود رومانو العودة للـ"فنومنولوجيا" أو الظهاراتية كسبيل وحيد إلى استعادة عالمنا المعيش الذي غيّب طويلاً لمصلحة هذا النموذج العلمي الميكانيكي، دارساً ارتباط الذات بحركة العالم وحيوية ظواهره وكائناته وموجوداته كافة. ومنطلقه نقد صريح للخطابات المعاصرة التي ترى في الإنسان مجرد منظومة عصبية، كائناً منزوعاً من جسده وحساسيته. ولعله يعتبر أن هذا التأويل الاختزالي الذي حاول تفسير كل شيء وفقاً لمعايير كمية باردة هو حصيلة قرون من هيمنة التصورات الميكانيكية التي فرضتها الفلسفة والعلم منذ انطلاق مشروع الحداثة والتي نقلت فهمنا للعالم من تجربة حسية مباشرة إلى تصورات مجردة تُختصر في "معادلات فيزيائية" تتجاهل غنى التجربة المعيشة.
سائراً على خطى إدموند هوسرل الذي أشار في كتابه " أزمة العلوم الأوروبية والفنومنولوجيا الترنسندنتالية" إلى أن الخطر لا يكمن في العلم، بل في نسيان العالم الذي انبثق العلم منه، يتجاوز كتاب رومانو نطاق النقد، ليتطلع إلى تقديم مشروع فلسفي طموح عنوانه "الانتماء إلى" أو استعادة "العالم".
ووفقاً لهذا الفيلسوف، تبنّت الفلسفة الغربية نزعة مثالية قسمت الواقع إلى ظاهر زائف وواقع متعالٍ لا يمكن بلوغه، وأدى هذا التقسيم برأيه إلى تهميش تجربتنا اليومية وفقدان معنى حياتنا. أما الـ"فنومنولوجيا"، فهي على العكس من ذلك، تدعو إلى إعادة الاعتبار لهذه التجربة الأولية، السابقة على كل تنظير. وبهذا المعنى، يدعو كلود رومانو إلى التوقف عن النظر إلى العالم كموضوع خارجي ينتظر التفسير، وإلى العودة لـ"العالم المعيش" لا كما يعبّر عنه بصيغ رياضية مجردة، "بكل ما فيه من ألوان وأصوات وروائح".
مفهوم الجسد
وفي قلب هذا المشروع الـ"فنومنولوجي"، يحتل مفهوم الجسد مكانة خاصة، لكن رومانو لا يكتفي بتناوله كموضوع فيزيائي، بل يعيد إحياء التمييز الـ"هوسرلي" بين الجسد كشيء والجسد كما نشعر به من الداخل، أي الجسد بوصفه مقام الإحساس والشعور والتجربة الذاتية. فالجسد، عند رومانو، يحتضن في بنيته الـ"فنومنولوجية"، المعنى النهائي للوجود، فهو محرك الكائن في العالم ومصدر معارفه ومكان الانفتاح على الآخر، إذ لا معرفة ولا انفتاح من دون اختبار، ولا اختبار من دون الجسد. وفي هذا الإطار، يولي المفكر أهمية خاصة للإدراك باللمس لأنه يتيح تداخل الذات مع ذاتها ومع الآخر في تجربة وجودية مباشرة، على عكس الرؤية البصرية التي تفترض مسافة، فليس اللمس مجرد إحساس سطحي. في هذا السياق، يحاور رومانو أعمال ميرلو بونتي الذي يعتقد بأن الجسد هو الذي يتيح لنا الإدراك المباشر للواقع وتجربة المرآة، كما يستأنس بأبحاث المتخصص في الفيزيولوجيا العصبية آلان بيرتوز (مواليد 1939) الذي حاول دعم هذا الإدراك المزدوج تجريبياً في أعمال ركزت على التحكم المتعدد الحواس في حركة النظر والتوازن والتنقل والذاكرة المكانية.
ويعمق كلود رومانو أطروحاته إذاً من خلال تناول مفاهيم "فنومنولوجية" محورية، محاولاً تبيان كيف أن الـ"فنومنولوجيا" تعيد النظر في علاقتنا بالذات والآخر والعالم عبر المضي إلى الأشياء ذاتها. في هذا السياق، لا يتردد الفيلسوف في فتح حوار مع الفن، ولا سيما الرسم، متوقفاً عند العلاقة الفلسفية بين ميرلو بونتي وبول سيزان.
ولا يدّعي كتاب "الانتماء إلى العالم" تقديم أجوبة نهائية للمسائل والقضايا التي يثيرها، بل يسعى إلى إعادة طرح الأسئلة حول معنى وجودنا في عالم أصبح فيه الإنسان مهدداً. من هذه الزاوية، نقرأ أطروحته كنداء فلسفي حقيقي لاستعادة التجربة الأصلية التي تربط الإنسان بالعالم عبر الجسد والأحاسيس والمشاركة، في زمن حوّل فيه العلم أجسادنا إلى بيانات واختزل وعينا إلى خوارزميات، مذكّراً إيانا بأن الـ"فنومنولوجيا" علمتنا أننا لسنا آلات تفكر، بل كائنات تعيش وتشعر وتتجسد في عالم مشترك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولئن لم يكُن صعباً على رومانو أن يستنتج أن الواقع ليس إلا نتاجاً أو تمثلاً لوعينا، وهي الخطوة التي اجتازتها المثالية الألمانية في منعطف القرنين الـ18 والـ19، فإنه يذهب حدّ القول إن المادية التي لا تعترف بالوجود إلا لما هو خارج الذهن، ليست أيضاً سوى وجه آخر للمثالية، أو كما يقول "قفازها المقلوب".
ويشدد كتاب كلود رومانو على أن هذا الاتجاه يجد أقصى تجلياته في بعض أوهام اليوم التي تتغذى من النزعة ما بعد الإنسانية والتي تعدنا بأن الذكاء الاصطناعي أو علوم الأعصاب ستمكننا من التخلي عن أجسادنا والعيش بمعزل عنها. فيتحدث عن "الطوباوية الكئيبة" التي تجعل من الإنسان مجرد "دماغ في وعاء" أو "عقل أو "أنا" لا ترتبط بهذا الجسد إلا عرضياً"، منتقداً وعود دعاة الذكاء الاصطناعي والنزعة "الترانسإنسانية" بمستقبل مشرق، يتخلص فيه الإنسان من هذا الغلاف الجسدي المرهق الذي لا يحمل أية قيمة حقيقية لأنه لا ينقل بحسبهم معلومات قابلة للتحويل إلى خوارزميات قادرة على تعزيز قدراتنا من خلال واجهات الربط مع الآلة.
ويدعو كتاب "الانتماء إلى العالم" إلى كسر البديهيات التي رسخها عصر الحداثة، ساعياً إلى إزالة العوائق النظرية التي تحول بيننا وبين اعتبار أجسادنا جزءاً أصيلاً منا، وبين اعتبار الإدراك الحسي وسيلة مباشرة لإدراك الواقع كما هو.
عبر تأمل فلسفي عميق في المبادئ الأولى، يحاول كلود رومانو أن يجعلنا ندرك أننا لسنا فقط في العالم، بل من العالم، وأن مصيرنا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصيره. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، لا تتمثل مهمة الفلسفة في مساعدتنا في تجاوز عالمنا الحسي، بل في إعادتنا له واستعادة مكانتنا فيه، عبر التفكر في "وضعنا الجسدي الرائع"، على حد تعبير مونتاني.
في الختام، يشدد الكتاب على ضرورة تجاوز بعض الثنائيات كالجسد والروح، والمادة والذهن، فضلاً عن المفهوم التقليدي للجسد الذي يستعيض عنه بمفهوم "الجسد الحيّ"، ذلك أن الذات ليست مجرد عقل عائم، بل جسد يشعر ويعاني ويحب ويعيش.