ملخص
في أمة لم تتعاف بعد من صدمة "فضيحة ووترغيت"، لا تزال مقابلة ديفيد فروست مع الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون محفورة في الذاكرة، ليس فقط بسبب العرق الذي انساب من شفته ولحظات الصمت القاتلة التي تخللتها، بل من محاولات تطبيع فكرة السلطة الرئاسية المطلقة التي تعود اليوم أيضاً مع دونالد ترمب
في ربيع عام 1977، استوى الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون على كرسيه المريح داخل منزل يقع على شاطئ مقاطعة "أورانج كاونتي" في ولاية كاليفورنيا، ونطق 13 كلمة لخصت إرثه بعد فضيحة "ووترغيت"، " حسناً، عندما يقوم الرئيس بفعل ما... فهذا يعني أنه ليس غير قانوني". قالها بنبرة واثقة لرجل لا يزال مقتنعاً ببراءته، لتجسد عبارته هذه جوهر خلل السلطة المطلقة.
الشخص الذي سمع هذا التصريح الصادم كان بالطبع ديفيد فروست الذي أجرى مقابلات مع الرئيس الراحل لمدة 28 ساعة تقريباً، خلال شهري مارس (آذار) وإبريل (نيسان) من ذلك العام. وتجرى الآن إعادة عرض للقصة الكاملة وراء تلك اللقاءات على قناة "سكاي"، في إطار سلسلة تحمل عنوان "ديفيد فروست ضد..." David Frost vs… التي شارك في إنتاجها نجل فروست، ويلفريد، وهو مقدم برامج في القناة.
بعد مرور ما يقارب 50 عاماً، لا تزال كلمات نيكسون تلك تخيم كتحذير ثقيل الوطأة فوق رأس الديمقراطية الأميركية. ففي عصر الرئيس الأميركي دونالد ترمب -الذي لم يكتف بتبني النهج الإمبريالي الذي اتبعه نيكسون، بل تجاوز ذلك إلى مستوى أكثر تبجحاً وازدراءً للمعايير الديمقراطية- تبدو مقابلات فروست مع نيكسون أقرب إلى نبوءة مرعبة، منها إلى مجرد وثيقة تاريخية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المقابلات التي استحوذ عليها فريق إنتاج فروست لقاء مبلغ 600 ألف دولار، بعدما كانت رفضتها شبكات تلفزيون أميركية، عدها كثر مجازفة عبثية. وكان هناك شعور سائد بأن فروست لم يكن يمتلك الجاذبية الصحافية أو الحنكة اللازمة لمواجهة الرئيس المعزول بصورة فعالة. ومع ذلك، فإن ما حدث على مدى أربعة أسابيع من المقابلات، هز الرأي العام.
يقول ويلفريد فروست "لا بد من تذكر أن والدي راهن بكل شيء من أجل تلك المقابلات. فقد سخر حياته فعلياً للقيام بها. وفي حين يعتقد معظم الناس أن والدي أجراها من العدم، فإنهم ينسون أنه انكب على العمل على ملف ريتشارد نيكسون لفترة طويلة. وأجرى مقابلة معه عام 1968 عندما كان مرشحاً للرئاسة، وتولى تقديم حفل عيد الميلاد في البيت الأبيض من أجله.
في الواقع، تكمن عبقرية ديفيد فروست في أسلوبه الذي أتاح للرئيس الأميركي السابق الفرصة للحديث مطولاً وبإسهاب.
ويقول نجله ويلفريد في هذا السياق "استمرت بعض إجابات نيكسون لما يقارب 17 دقيقة، ولم يكن ذلك سهواً من جانب والدي، بل كان مقصوداً وجزءاً من خطة مدروسة بعناية. كانت استراتيجية مقابلة عبقرية، أتاحت لنيكسون الشعور بالراحة والانفتاح. أنا مقتنع بأن نيكسون لم يكن ليبوح بكلامه لأي شخص آخر".
ما حصل عليه ديفيد فروست من ريتشارد نيكسون لم يكن اعترافاً قانونياً ولا اعتذاراً صريحاً. لكن في حوار متقطع ومصاغ بعناية -وبعينين تلمعان بصورة واضحة- اعترف الرئيس الأميركي السابق بأنه "خذل البلاد" و"خذل النظام"، والأخطر من ذلك كان إعلانه أن السلطة الرئاسية يمكن أن تتجاوز القانون. لقد كانت لمحة عن عقلية ترى أن السلطة تبرر ذاتها، وهي عقلية لا تزال حاضرة بقوة في ذهن الرئيس الذي يجلس اليوم داخل البيت الأبيض.
منذ اللحظة الأولى لتولي دونالد ترمب الرئاسة، تزايدت المقارنات بينه ونيكسون. فهو لم يرث المنصب فحسب، بل تبنى أيضاً عقلية الحصار، إن لجهة الكراهية العميقة للصحافة أو الميل إلى السرية، أو أسلوب الحكم القائم على الولاء الشخصي الذي يطمس الخط الفاصل بين الواجب العام والمصلحة الشخصية.
لكن خلال وقت كان فيه نيكسون يهمس ويخطط في الخفاء، كان ترمب يصرخ علناً عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كانت لدى نيكسون تسجيلات صوتية، بينما نشر ترمب تغريدات وألقى خطابات نارية وأقام تجمعات حاشدة. بنى نيكسون رئاسته الإمبريالية خلف الكواليس، في حين أن ترمب تباهى بها وأخرجها إلى الملأ، مطلية بأحرف ذهبية، وموثقة باستعراضات إعلامية على قنوات الكابل الإخبارية.
يتشارك الرجلان اعتقاداً بأن الرئاسة تمنحهما نوعاً من الحصانة الأخلاقية. لكن بينما أفضت تجاوزات نيكسون إلى إلحاق العار به والاستقالة، فإن رئاسة ترمب تحدت منطق الجاذبية السياسية، إذ لم تتمكن محاكمتا عزل، وتمرد عنيف، وتحقيقات جنائية عدة، من زعزعة قبضته على قاعدته الشعبية. فهو بجميع المقاييس يجسد مقولة نيكسون الشهيرة، والدليل على ذلك أنه لم يواجه تحدياً حقيقياً حتى الآن.
إن قوة مقابلات فروست-نيكسون لا تكمن في ما قاله الرئيس السابق فحسب، بل في حقيقة أن هناك من تجرأ على مواجهته ومساءلته. فبالنسبة إلى أمة ما زالت تترنح تحت وطأة "فضيحة ووترغيت"، كانت تلك المقابلات بمثابة متنفس شعبي. وقام ديفيد فروست بإصرار مهذب وسحر آسر وتساؤلات دقيقة، بتصعيد الحوار، مما دفع بنيكسون إلى زاوية لم يتوقعها، وجعله يفكر في ما قاله.
في إحدى اللحظات الأكثر تأثيراً واجه فروست نيكسون مباشرة، قائلاً "إذاً ما تقصده هو أنه في بعض الحالات، يمكن للرئيس أن يقرر أن مصلحة البلاد تقتضي القيام بشيء غير قانوني؟". وقد توقف نيكسون لبرهة، ثم رد بتلك العبارة المشينة التي صدمت الجميع. كانت نظرة فروست -التي حملت مزيجاً من الذهول وعدم التصديق- انعكاساً لما شعر به ملايين الأميركيين آنذاك.
تلك المقابلات -التي شكلت خلال وقت لاحق أساساً لمسرحية كتبها بيتر مورغان، وفيلم رشح لجائزة أوسكار من بطولة مايكل شين - أصبحت بمثابة لحظة محاسبة عامة، ليس لنيكسون وحده، بل لمنصب الرئاسة نفسه، بحيث أكدت أن أحداً، حتى لو كان في أعلى منصب في البلاد، لا يمكن أن يكون في منأى عن مساءلة الشعب له والمحاسبة.
أما بالنسبة إلى دونالد ترمب، فلم تجر محاسبة مماثلة. بل على العكس تعرضت المؤسسات التي يفترض بها أن تكبح جماح السلطة الرئاسية -وهي الكونغرس ووزارة العدل و"المحكمة العليا"- لاختبارات متكررة، أظهرت غالباً أنها غير مؤهلة لأداء هذا الدور. وبدت محاكمات العزل أشبه بعروض حزبية منها بمحاولات جادة لتحقيق العدالة. كان المشهد العام يفتقر لديفيد فروست معاصر، والأهم أنه كان يفتقر لريتشارد نيكسون آخر مستعد لقبول المواجهة.
ما قدمته مقابلات فروست-نيكسون عام 1977 كان نموذجاً نادراً للمساءلة الديمقراطية. فعلى رغم أن اعتراف الرئيس السابق كان مقتضباً وملتبساً بلغة قانونية حذرة، فإنه أقر في الأقل بوجود خطأ ما وبتجاوز الحدود. كانت تلك اللحظة بمثابة مواجهة حتمية للحقائق، حتى وإن جاءت بنبرة متوترة وغير متناسقة.
على نقيض ذلك تماماً، يزدهر دونالد ترمب وسط الفوضى والضجيج. ولا يقوم تعامله مع الفضائح على الإنكار بل على التهرب والتصعيد. فعندما يتهم، يرد بتوجيه الاتهامات. وعندما يجرى التحقيق معه، يصرخ مدعياً أنه ضحية "مطاردة الساحرات" (ملاحقة سياسية). وعندما يكشف أمره، يضاعف الهجوم ويزيد من جرأته. لا مجال لديه للتأمل أو التراجع، بل يظل في حالة مواجهة مستمرة.
في مثل هذا المناخ، تبدو فكرة إجراء مقابلة خلال الوقت الراهن على غرار مقابلة فروست-نيكسون، غير واقعية تماماً. من يملك القدرة على منافسة ترمب في براعة العرض؟ دخل فروست إلى المقابلات مستعداً ومزوداً بمجموعة من الملفات والوثائق الضخمة، وشهور من التحضير، وعقل هادئ ونظرة ثاقبة. أما ترمب، فسيرد على مثل هذا النهج بالميمات الساخرة، والشعارات الرنانة، وهدير حشود أنصاره من تيار "ماغا".
يقول ويلفريد الذي ربما قد يكون الشخص الوحيد على هذا الكوكب الذي شاهد جميع المقابلات التي امتدت على 28 ساعة، ليس مرة واحدة، بل مرتين "لقد جعلت الأحداث المعاصرة هذه المقابلات والحلقة برمتها أكثر أهمية مما قد تتصورون. وبينما يبدو أن معظم ما قيل فيها ينطبق على شاغل البيت الأبيض الراهن، فإن الجزء الأكثر أهمية منها -أو اللحظة الحاسمة التي يعترف فيها نيكسون ويعتذر- هو النقيض الأساس لما يمكن أن يكون عليه رد فعل ترمب".
المأساة لا تكمن فقط في بقاء نظرة نيكسون للعالم حية، بل في فشلنا في استيعاب التحذير الذي أطلقه. فعندما قال الرئيس الأميركي السابق عبارته الشهيرة "عندما يقوم الرئيس بعمل ما، فهذا يعني أنه ليس غير قانوني"، أصيب الناس بصدمة. أما اليوم، فإن شريحة واسعة من الأميركيين تقبل ما رفض سابقاً.
لقد تفشت الرئاسة الإمبريالية وتغلغلت في مفاصل الدولة. لم تعد مجرد آفة نيكسونية أو ترمبية، بل هي آفة منهجية تشكل جزءاً من بنية النظام. فمع تزايد إصدار الأوامر التنفيذية من دون الرجوع إلى الكونغرس، باتت الرئاسة في الولايات المتحدة تقترب شيئاً فشيئاً من الملكية المطلقة في كل شيء ما عدا التسمية. ولم يعد بالإمكان الاعتماد على الخجل أو الأعراف لكبح جماح السلطة. ولم يعد لدينا نيكسون معاصر ليقر بالذنب، ولا فروست معاصر قارد على انتزاع اعتذار من الرئيس.
عادة ما تُتذكر مقابلات فروست-نيكسون بسبب أجوائها الدرامية، العرق المتصبب من الشفة العليا لنيكسون، ولحظات الصمت المشحونة، والنظرات الثاقبة لفروست. لكن الأهمية الحقيقية لتلك المقابلات لا تكمن في مشاهدها المؤثرة، بل في مجرد حدوثها في الأساس. صحيح أنها لم تكن محاكمة قضائية لكنها كانت استجواباً علنياً. ولم تكن جلسة علاج نفسي لكنها مثلت مواجهة صريحة. وفي تلك اللحظة، انكسر جبروت السلطة واهتزت للحظة خاطفة، اعترف خلالها نيكسون الذي طوقه فروست بحوار عقلاني هادئ، بما لم يكن في الحسبان.
إن استحالة تكرار مثل تلك اللحظة اليوم لا تعكس طبيعة الأشخاص الذين يتولون السلطة فحسب، بل تشكل أيضاً انعكاساً لطبيعة الجمهور الذي يمنحهم هذه السلطة. علينا أن نتذكر ما أجبر ديفيد فروست الرئيس نيكسون على البوح به، والأهم من ذلك، ما كان نيكسون يؤمن به في قرارة نفسه. لأننا اليوم أكثر من أي وقت مضى، مطالبون بالإجابة عن السؤال الذي أثاره نيكسون، سواء عن قصد أم لا، وهو كيف تبقى الديمقراطية إذا اعتقد الرئيس أنه هو القانون؟
كان من المفترض أن تشكل مقابلات فروست-نيكسون خاتمة لفصل مظلم من التاريخ الأميركي، لكنها تحولت إلى إنذار مبكر لحقبة أشد قتامة.
سلسلة الأفلام الوثائقية "ديفيد فروست ضد..." تعرض الآن في بريطانيا على "قناة سكاي الوثائقية" Sky Documentaries
© The Independent