Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وجبات المصريين "الإخبارية"... سريعة يصنعها "هوى الأقران"

مفهوم الخبر بالنسبة إلى البعض هو ما يبدو منطقياً وما يظهر عليه أمارات الاتفاق والاتساق مع أيديولوجيا وتوجهات المتابع

هذه الآونة تتضاءل فيها جهود فهم مصادر أخبار المصريين (فري بك)

ملخص

من زيارة ترمب التاريخية للخليج إلى سرقة القرن المليارية لفيلا نوال الدجوي إلى فستان ياسمين صبري إلى حرب غزة إلى أنف وزير الدفاع السوري إلى الطريقة السحرية لتقطيع البطيخ ثم "الموت العظيم" في أوروبا الذي أشار إليه إيلون ماسك ومنه إلى أسعار البيض والزيت والشاي والسكر تتعالى الأصوات الشارحة والمحللة والمفبركة من شاشات الهواتف المحمولة التي يحملها كل من أفراد الجموع الغفيرة والتجمعات في مصر.

"عزت" الحلاق رأى ما يحدث في غزة بعين أهلها، وعرف عن مسيرات الحوثيين بل رأى بعضها، ولديه رؤية شاملة حول أسباب ارتفاع سعر الطماطم وانخفاض سعر البصل وتوقعات سعر المانجو، وأصبحت لديه القدرة على سرد تطورات الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وتحليل الوضع المتفجر في السودان، وتوقع ما ستؤول إليه الأوضاع في ليبيا.

أستاذ "رؤوف"، كبير المحاسبين في البنك، يتبادل أطراف الحديث مع "عزت" أثناء الحلاقة، متفقاً معه حيناً ومختلفاً معه أحياناً، واللافت أن أسباب الاتفاق والاختلاف ترتكز على اختلاف المصادر التي يستقي منها كل منهما أخباره ومعلوماته، وإن بقيت المصادر واحدة من حيث النوع أو الفئة.

حزمة هزيلة

حزمة الصحف الهزيلة لدى "كشك الجرايد" (الصحف سابقاً) "كشك السجائر والحلوى" حالياً تقول كثيراً عما آلت إليها أمورها. خمس نسخ من صحيفة كذا، وأربع من كذا، واثنتان لزبونين مسنين يطلبانها بالاسم، وواحدة من كذا، والمرتجع تجري إعادته صباح اليوم التالي.

حتى هذه الصورة للصحف الورقية المتآكلة من حيث الأعداد، المتضائلة من حيث التأثير، المنقرضة من حيث القراءة، صارت صورة غارقة في القدم. مرحلة الاكتفاء بتصفح المواقع الخبرية لهذه الصحف في طريقها للانقراض أيضاً، وهذا يضع المصري الباحث عن الأخبار والتحليلات في خانتين لا ثالث لهما: التناقل الشفهي للأخبار وأشباه الأخبار، والـ "سوشيال ميديا" بشقيها الاجتهادي غير الموثق فاقد المصدر ومنزوع الصدقية، والمهني المحترف المنتمي لمؤسسات إعلامية تقليدية وإن بقي التسييس معضلة.

ما يتعرض له الإعلام التقليدي، سواء ما تبقى منه من إصدارات ورقية أو في هيئته الأحدث كمواقع خبرية، وكذلك محتواه المحترف على منصات الـ "سوشيال ميديا"، والرأي العام ومعه الوعي المجتمعي بما يدور في داخل الدول وخارج حدودها، والخيوط الفاصلة بين الخبر والخبر الموجه والمفبرك والمسيس والكاذب، جميعها ظاهرة عالمية تجتاح دول الأرض بدرجات متفاوتة منذ أعوام. تفرد الظاهرة في مصر يأتي من رغبة مصرية عارمة في معرفة ما يحدث والاطلاع على المتغيرات، شرط أن تكون المعرفة على الهوى، والاطلاع يناسب التوجه.

مؤسسات العالم الإعلامية

بحسب تقرير "رويترز" السنوي للأخبار الرقمية (2024)، تزخر دول العالم بأمثلة على تسريحات وإغلاقات وخفوض أخرى في المؤسسات الإعلامية التقليدية الناجمة عن مزيج من ارتفاع الكلف وانخفاض عائدات الإعلانات والانخفاض الحاد في زيارات مواقع التواصل الاجتماعي. إنها التحديات الاقتصادية التي أدت في بعض الدول إلى صعوبة مقاومة وسائل الإعلام الإخبارية لضغوط رجال الأعمال أو الحكومات التي تسعى إلى التأثير على التغطية الإعلامية والتحكم في الروايات.

ويشير التقرير إلى أنه لا يوجد سبب واحد لهذه الأزمة التي ظلت تتراكم بعض الوقت، لكن كثيراً من التحديات المباشرة تتفاقم بسبب قوة وإستراتيجيات شركات التكنولوجيا الكبرى المتنافسة المتغيرة، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث ومنصات الفيديو.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويرصد التقرير توجهاً واضحاً لخفض أولوية الأخبار والمحتوى السياسي في بعض المنصات، بينما حول بعضهم الآخر التركيز من الناشرين والصحافيين التقليديين إلى المبدعين والمؤثرين، ودفع مزيد من التنسيقات الممتعة والجذابة، بما في ذلك الفيديو، للحفاظ على المشاهدة والمتابعة على المنصات المختلفة. وتضيف "رويترز" أن شركات الـ "سوشيال ميديا" لا تتحمل أية التزامات تجاه الأخبار، ولكن مع حصول كثير من الأشخاص حول العالم على كثير من معلوماتهم، وربما معظم، من هذه المنصات المتنافسة، فإن هذه التحولات لها عواقب ليس فقط على صناعة الأخبار ولكن أيضاً على المجتمعات.

وتضيف، "وكأن هذا لم يكن كافياً، فإذ بالتقدم السريع في الذكاء الاصطناعي يدشن سلسلة جديدة من التغييرات، بما في ذلك واجهات البحث المعتمدة على الذكاء الاصطناعي وروبوتات الدردشة"، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من انصراف المستخدمين بعيداً من مواقع ومنصات الأخبار، ومن ثم إضافة مزيد من عدم اليقين حول الشكل الذي ستبدو عليه بيئات المعلومات، ومعها محتوى المعرفة وسبل تشكيل الرأي العام.

إعادة ضبط المنصات

يصف تقرير "رويترز" ما يجري على صعيد استهلاك الأخبار والمحتوى عالمياً بـ "إعادة ضبط المنصات"، وهي العملية التي تبدو معالمها وآثارها واضحة إلى حد كبير بين المصريين. التقرير يقول إنه مع ازدياد استخدام منصات مثل "تيك توك" و"إنستغرام" و"ريلز" و"يوتيوب"، يلاحظ إقبال المستهلكين على مشاهدة الفيديو بشكل أكبر، والتوجه نحو صفحات شائعة وبديلة بعينها، بما في ذلك صفحات المبدعين والمؤثرين، وجميعها يحظى بقدر أكبر من الاهتمام لا يقارن بمواقع ومنصات الأخبار الحقيقية.

صالون الأعضاء الفاره الفاخر في النادي الاجتماعي الحصري حيث الأعضاء من "كريمة المجتمع"، أي قمته العلمية والثقافية والمادية، وكذلك عربة مترو الإنفاق وعلى متن الميكروباص، تنضح الأجواء بأصوات متداخلة من الواعظين والمرشدين والشارحين والمحذرين والمنددين والمثنيين، تتخللها ضحكات عالية حيناً وبكاء وانتحاباً حيناً وعودة دائمة إلى نبرة السرد الخبري المعتادة، لكن بالعامية المصرية تارة، والعربية الفصحى تارة أخرى، والإنجليزية وبعض اللغات واللهجات الأخرى أحياناً.

من زيارة ترمب التاريخية للخليج إلى سرقة القرن المليارية لفيلا نوال الدجوي إلى فستان ياسمين صبري إلى حرب غزة ومقتل تسعة أطفال لطبيبة شابة إلى أنف وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة إلى الطريقة السحرية لتقطيع البطيخ ثم "الموت العظيم" في أوروبا الذي أشار إليه إيلون ماسك، ومنه إلى أسعار البيض والزيت والشاي والسكر، تتعالى الأصوات الشارحة والمحللة والمفبركة من شاشات الهواتف المحمولة التي يحملها كل من أفراد هذه الجموع الغفيرة.

الملاحظ أن كلاً منهم يعود لبيته أو يجلس مع أصدقائه أو يتبادل أطراف الحديث مع غرباء وهو يتصور أنه يحمل جعبة مليئة بـ "الأخبار" و"تحليلات الأخبار" و"خفايا ما وراء الأخبار". خبر واحد بنكهات عدة، و100 تحليل، و1000 خفية، ومنها كثير يقف على طرفي نقيض. إنها تعددية المعرفة الخبرية التي تشيع بين المصريين بشكل لافت ويدعو للبحث.

عشرات التوجهات

البحث عن الرأي العام مثلاً في ما يختص بغزة، والذي يفترض أنه يرتكز على ما يطالعه الناس من أخبار وما يصلهم من تفاصيل وما يصادفونه من تحليلات وتوقعات، يؤدي إلى عشرات التوجهات. بين فئة مؤيدة لـ "حماس"، تعظم ما جرى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وتطالب العالم بالتدخل الفوري لإنقاذ الحركة، وأخرى منتقدة لها ومعتبرة ما جرى دليلاً على السذاجة وربما تفسيرات أخرى أكثر اتهاماً للحركة، وثالثة لا يعنيها في الأمر سوى إنقاذ أهل غزة، ورابعة مطالبة بتدخل مجلس الأمن وضرب إسرائيل ضربة دولية، وخامسة مؤكدة أن دول العالم أجمع ضد إسرائيل، وسادسة جازمة بأن دول العالم أجمع تؤيد إسرائيل، وهلم جرا.

 

هذه الاختلافات الكبرى والاختلالات العظمى لا تقتصر على مسائل السياسة التي تتشابك فيها الآراء وتتداخل فيها الأيديولوجيات فقط، بل تمتد إلى أسعار السلع الغذائية بين فريق يرى، بناء على الأخبار التي اطلع عليها، أن الحكومة تبذل كل ما في وسعها لتوفير الطعام والشراب بأسعار معقولة، وآخر يرى، بناء على الأخبار التي اطلع عليها أيضاً، أن الحكومة يجب أن تستقيل ويجري تقديم الوزراء للمحاكمة وعودة بطاقة التموين التي تدعم كل شيء وأي شيء من الإبرة للصاروخ، كما تشمل حرب روسيا في أوكرانيا، وحديث وزيرة الهجرة السابقة نبيلة مكرم عن قضية ابنها المتهم بالقتل، وضربات أميركا للحوثيين، وقانون الإيجار القديم، ومصير "حزب الله"، والانتخابات البرلمانية المقبلة، وموقف إيران وقوتها النووية، والحجاج المصريين هذا العام، ووضع لبنان، وحكم قول "الله أكبر" عند الرفع من الركوع، والإطلالة الجريئة لهنا الزاهد، والتريليون دولار التي يلوح بها ترمب موازنة عسكرية لأميركا وقائمة "الأخبار" التي يطلع عليها المصريون، ويتحدثون عنها حديث العالم العارف الكاشف، حمالة أوجه لا حصر لها، وكاشفة توجهات تختلف بحسب الرغبة، وعاكسة أيديولوجيات تنافس ما ورد في موسوعة "بريتانيكا" باب "أصول وخصائص أيديولوجيات العالم".

وداعاً لتأثير الصحف

في الأزمنة القديمة كان الباحثون والأكاديميون يبحثون ويدرسون تأثير الصحف الإلكترونية في تشكيل اتجاهات الشباب المصري، وذلك على اعتبار أن غير الشباب ملاصقون لصحفهم الورقية. بعدها ببضعة أعوام حول الباحثون الدفة صوب انصراف الشباب عن المواقع الإلكترونية الخبرية، وانفراد الأكبر سناً بها. بعدها بقليل، لم تعد الصحف، ورقية أو إلكترونية، مجال بحث كمصدر رئيس للأخبار، بل كمنصة تفتئت على محتوى الـ "سوشيال ميديا" أو كمؤسسات تبحث عن موضع قدم في مواقع التواصل، ولو أدى ذلك إلى تخليها عن معاييرها المهنية وتبنيها قواعد السوق في صناعة الترند وتخليق الوسم وجذب المشاهدات.

تحول نحو أشباه الأخبار

هذه الآونة تتضاءل فيها جهود فهم مصادر أخبار المصريين ونتائج اختلاف هذه المصادر اختلافاً جذرياً عما كان شائعاً قبل عامين أو ثلاثة، هذا التحول الجمعي الشعبي الجارف نحو الأخبار وأشباه الأخبار والتحليلات الإخبارية، بغض النظر عن نسبة الوهم والكذب والخيال إلى نسبة الحقيقة، المرئية أصبح حقيقة واقعة، لكن تبقى آثاره قيد البحث لمن أراد.

هذه الأصوات النابعة من ملايين المقاطع على منصات الـ "سوشيال ميديا" تلف المجال الجوي المصري، وتكاد تطوقه بالكامل. تتداخل فيها أصوات نساء ورجال وأحياناً أطفال، تتخللها مقاطع من أحاديث رؤساء وزعماء وفنانين وقادة عسكريين، إضافة للأصوات المخلقة عبر خوارزميات يتيحها الذكاء الاصطناعي ليبدو المقطع الذي يحتوي على تعليقاً على ارتفاع سعر الفاصوليا في مقابل انخفاض سعر الجوافة في ظل غياب الرقابة الحكومية وكأنه صوت بشري، وهو ليس كذلك.

إنها المصادر التي كانت ثانوية، ثم أصبحت حكراً على فئة شبابية بعينها، ثم تحولت المصدر الرئيس للأخبار لقاعدة عريضة من المصريين، بحسب التقرير الصادر عن "كيبيوس" (2024) (مؤسسة تحلل استخدامات الشعوب لمنصات الـ 'سوشيال ميديا' وأنشطتهم أون لاين)، بلغ عدد مستخدمي الـ "سوشيال ميديا" في مصر 45.5 مليون شخص، أي نحو 40 في المئة من المصريين.

القدرة على الإدهاش

حتى اللحظة لا يزال بعضهم قادراً على إدهاشك. يخبرونك أن إسرائيل قررت التوقف عن ضرب غزة، وأن الدول الأوروبية قطعت علاقاتها مع إسرائيل، وأن دول الشمال تقف الآن لدعم غزة وأهلها. تسألهم عن مصدر الخبر، يجيبون: "قالوا على النت". من قال؟ أو كيف قال؟ أو ماذا قال؟ وعلى أية أسس ومصادر اعتمد في قوله هذا؟ تبقى أسئلة هامشية ثانوية. وهي لا تجد إجابة فقط، بل تقابل باستهجان حيناً، وتقليل من شأن السائل أحياناً.

الخبر هو ما يناسبني

مفهوم الخبر بالنسبة إلى بعضهم هو ما يبدو منطقياً وما يظهر عليه أمارات الاتفاق والاتساق مع أيديولوجيا وتوجهات القارئ، أو بالأحرى المستخدم أو المتابع. المنطقي أن تتدخل الحكومة لمراقبة الأسعار وخفض الغلاء وتوفير الشاي والزيت والسكر دون مقابل على بطاقة تموين، إذن هو الخبر. المنطقي أن تترك الحكومة الأسعار لمزاج السوق، ولا يعنيها من الغلاء إلا توفير حزمة ضمان اجتماعي لغير القادرين، وقصر بطاقات التموين على أقل القليل من أفقر الفقراء هو المنطقي، إذن هو الخبر.

تتحكم في تحديد وتعريف وقياس صدقية الخبر بعض عوامل تتداخل فيها الرغبة مع الثقافة مع قدر من التسييس والانتماءات الأيديولوجية. قبل أيام، انتشرت تدوينة على هيئة منشور منسوب لمنصة إخبارية رقمية على "فيسبوك" تداولها مستخدمون مصريون كما لم يتداولوا منشوراً من قبل. هبد ورزع، وصراخ ونحيب وبكاء على عصير المانجو المسكوب بسبب "الخبر الكارثي": "الجمارك: مصر صدرت مانجو في عام 2024 بقيمة 113 مليون دولار واستوردت عصائر مانجو بقيمة 234 مليون دولار في العام نفسه".

تعليقات بلا هوادة تشجب الحكومة التي سمحت بهذا الهزل، وتنديدات لا تعرف الرأفة بمسؤولي الاقتصاد الذين يفتقدون ألف باء الاقتصاد، وبكائيات على حائط عام من حكم جماعة الإخوان "بتاعة ربنا" التي وفرت المانجو بلا قيود ولم تستورد العصائر إلا في أضيق الحدود، واستدعاءات ثورية مطالبة بالثورة على العصير والاحتجاج على التبديد والتظاهر ضد الدولة من بوابة المانجو.

قلة قليلة فقط هي التي شككت في الأرقام، وتعاملت معها باعتبارها "أخبار النت" وهي العبارة التي باتت تعني أنها كاذبة أو مفبركة إلى أن تثبت العكس.

لقطة و"ريتش" وإفيه

وعلى رغم النقد الشديد الذي وجهه رئيس تحرير الموقع الإخباري الذي نسب له المنشور الدوار الخبر العجيب، محمود المملوك، لكن المنشور ظل يصول ويجول. كتب المملوك: "لا أحد يقرأ، ولا أحد مهتم يدقق، أو يتأكد أو يعرف الحقيقة. فقط اللقطة والريتش (الوصول) والإفيه. حتى لو كان محسوباً علينا صحافياً (من كتب المنشور) واستقصائياً وكده، طبعاً باين (واضح) جداً من ركاكة التصميم وحجم الفونت والأخطاء اللغوية إنه مفبرك ولم يصدر عن الموقع".

المانجو والعصير

صولان منشور المانجو وعصيرها وتجواله دفع المستشار الإعلامي لرئيس مجلس الوزراء هاني يونس لكتابة السطور التالية على صفحات الـ "سوشيال ميديا" تحت عنوان: "حرب الإشاعات". كتب: "بقالنا يومين بوست دوار شغال (وأشار إلى محتوى المنشور عن المانجو)، وإن الجمارك هي التي صرحت بهذا الكلام، وأنه منشور بـ (لوغو) أحد المواقع. والناس "تشير" (تشارك الخبر) وتسب وتشتم. طيب يا سيدي الفاضل، تحقق قبل أن تنشر هذه الإشاعات! أولاً، لا الجمارك قالت هذا الكلام، ولا الموقع أصلاً نشر هذا الكلام. تفضل هذه المعلومات الصحيحة من مصادرها: الرقابة على الصادرات والواردات. خلال 2024، تم تصدير مانجو طازجة بقيمة 143 مليون دولار، وتم استيراد مانجو طازجة بقيمة أربعة آلاف دولار. وجرى تصدير عصير مانجو بقيمة 7 ملايين دولار، وجرى استيراد عصير مانجو بقيمة 377 ألف دولار".

خبر المانجو وعصيرها نموذج فج، ولكن النماذج على اختلاف درجاتها كثيرة وتجري على مدار الساعة.

 

الاعتماد شبه الكلي للقاعدة العريضة من المصريين على منصات الـ "سوشيال ميديا" مصدراً رئيساً للأخبار وتحليلها أصبح واضحاً، وآثاره تتجلى بمرور الوقت. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من الباحثين عن الأخبار، أو حتى أولئك الذين يجدونها أمامهم دون بحث أثناء تصفح الـ"سوشيال ميديا" يتجرعونها في صور ومقاطع فيديو، دون محتوى مكتوب. وحتى حين يكون هناك محتوى مكتوب، إما يكتفي المستخدم بقراءة العنوان، معتبراً إياه خبراً، حتى لو كان مكتوباً على سبيل الهزل أو الاجتزاء أو الاستشهاد مما قاله أحدهم من باب الإثارة، أو يكون المحتوى عبارة عن عنوان فقط. وتكتمل دائرة أشباه الأخبار التي تقدم نفسها باعتبارها أخباراً بتنامي ظاهرة مجموعات الـ "واتساب" والـ "ماسينجر" المغلقة على أصحابها والتي تحوي كماً هائلاً من تشارك الأخبار وأشباهها، بل وعقد حلقات حوارية لمناقشة خبر قد يكون إشاعة أو مفبركاً أو عمره عشرة أعوام.

يشير تقرير "رويترز" إلى انخفاض استخدام كثير من الشعوب، ولا سيما خارج أوروبا وأميركا الشمالية لـ "فيسبوك" باعتباره وسيلة للحصول على الأخبار، والاعتماد المتزايد على تطبيقات المراسلة الخاصة ومنصات التواصل الاجتماعي التي تعتمد على المقاطع المصورة.

قلق ما

وعلى رغم إشارة التقرير إلى ارتفاع القلق بين المستخدمين في بعض الدول جراء القدرة على التفرقة بين ما هو حقيقي وما هو مزيف على الإنترنت في ما يتعلق بالأخبار، إلا أن هذا الوعي كان حكراً على دول بعينها، وعلى رأسها جنوب أفريقيا والولايات المتحدة الأميركية. وأرجع التقرير السبب إلى أن الدولتين شهدتا انتخابات في ذلك العام.

وتجدر الإشارة إلى أن القدرة على التمييز بين المحتوى الموثوق وغير الموثوق تبلغ أدناها في كل من "إكس" وتيك توك"، وذلك مقارنة مع باقي المنصات. وهذا يعني أن قلقاً ما ينتاب بعضهم من صدقية الأخبار، لكنه لا يرقى إلى القلق الجمعي. وتشير المعلومات، بحسب التقرير، إلى أن كلا المنصتين حوتا كماً هائلاً من المعلومات المضللة أو الأخبار والتحليلات التي تعكس مؤامرات عن قضايا وأخبار أبرزها حرب غزة، وصحة أميري ويلز، إضافة إلى محتوى الصور والفيديو "المزيفة بعمق".

الذكاء الاصطناعي، والتزييف العميق وبقية الأدوات التقنية الرقمية التي تتيح الأكاذيب والمفبركات والمضللات، سواء بالصوت أو الصورة أو كليهما، أصحبت متاحة للملايين. بين هذه الملايين ناشرون، سواء أفراد أو مؤسسات، يستخدمون الذكاء الاصطناعي وأدواته لصناعة الأخبار، وهو ما يضع كثيراً من علامات الاستفهام والتعجب وإضافة علامات القلق غير الموجودة في علامات الترقيم.

طوفان القصص الإخبارية الجادة، ولا سيما المتعلقة بالسياسة والحرب والاقتصادي وغيرها، يحمل استخداماً مكثفاً للذكاء الاصطناعي، وهو ما يجعل التحقق من صدقيتها وحقيقتها أمراً صعباً للمؤسسات، فما بالك بالأفراد؟

القاعدة العريضة من المصريين، شأنهم شأن بقية شعوب الأرض، لا تضع التحقق من الأخبار والكشف عن الزيف ضمن أولوياتها اليومية. ليس هناك متسع من الوقت أو الجهد أو المعرفة لذلك. كما أن الخبر "الذي يوائم هوى المستخدم" هو بكل تأكيد خبر دون شرط التحقق!

الحاجة إلى التحديثات السريعة

في أطروحة ماجستير عنوانها "التحول إلى استهلاك الأخبار المرئية: استكشاف دوافع المستخدمين المصريين وسلوكياتهم وتصرفاتهم وتصوراتهم لقيم الأخبار ومصداقيتها والاعتراف بها على إنستغرام كمصدر للأخبار" (2025) للباحث في الإعلام في الجامعة الأميركية في القاهرة حسين بطاح، جاء أنه في ظل التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة في مصر والمنطقة، مثل حرب غزة والأزمة الاقتصادية، أصبحت الحاجة إلى تحديثات إخبارية سريعة وبسيطة أمراً ضرورياً. ويقول إن "إنستغرام" لبى هذه الحاجة لدى كثيرين، ولا سيما الشباب، هذا الاستخدام يحمل كثيراً من المعاني عن أثر استهلاك الأخبار المرئية عبر هذه المنصة، ونظرة المستخدم المصري لقيم الأخبار، وحجم الثقة في المحتوى، وكيف تؤثر المفاتيح الاجتماعية الخاصة بالمستوى والفئة والطبقة التي ينقلها المحتوى في نظرة المستخدمين المصريين له.

يتطرق بطاح إلى ما يعرف بـ "التغذية الإخبارية السريعة" أو News snacking وهي تعرض المستخدمين لكثير من الأخبار بسرعة في دفعات قصيرة، وهو ما يقدمه "إنستغرام" بشكل مثالي. سلوك التغذية الإخبارية السريعة هذا يلائم مستخدمي الأخبار حالياً، إذ يفضلون قراءة العناوين الرئيسة بدلاً من الاضطرار إلى قراءة أو مشاهدة محتوى طويل، وهو ما يؤدي إلى تجربة إخبارية مجزأ ومفتتة، ناهيك بالحصول على معلومات وأخبار بشكل عرضي أثناء تصفح المحتوى دون البحث عنها عمداً.

وإضافة إلى ما يحصل عليه المستخدم من وجبات إخبارية مجتزأة مفتتة غير معلومة المصدر أو الغاية، يشير الباحث إلى ارتفاع مستوى الرقابة على وسائل الإعلام التقليدية في مصر والتحكم في محتواها، ولجوء كثيرين إلى الـ "سوشيال ميديا" بشكل عام باعتباره منطقة منزوعة الرقابة.

وجبات سريعة وفقدان ثقة

فقدان الثقة في الإعلام التقليدي، الذي ترجعه المصادر المستعان بها في الأطروحة إلى "الانحياز الواضح للحكومة وانعدام الموضوعية"، دفع كثيرين من المصريين إلى البديل وهو الـ "سوشيال ميديا"، وتحديداً الأخبار الاقتصادية والسياسية.

الملاحظ أن أغلب المستخدمين المصريين يعتمدون على المحتوى الذي ينتجه أقرانهم من المواطنين عبر المنصات، ويعتبرونه أخباراً موثقة وذات صدقية، والغالبية تعتبر الصحافي المواطن صحافياً محترفاً تبع القيم والمعايير الصحافية التي يسمعون عنها. ويعتبر بعضهم المشاعر الجارفة والعواطف الجياشة والهموم الفياضة التي يبديها المواطن الصحافي أو المؤثر على المنصات، وهي المشاعر والعواطف والهموم التي يراها مطابقة لما يدور في قلبه وعقله، سبباً كافياً للمتابعة والثقة والصدقية.

الغريب أن الصحافي التقليدي، على الجانب الآخر، فقد كثيراً من مكانته وصدقيته لمجرد إنه يعمل أو يتبع في منصة إعلامية تقليدية.

 

نقطة ضوء في نفق أشباه الأخبار والعواطف التي تجمع صناع الأخبار بمستهلكها على منصات الـ "سوشيال ميديا"، المصدر الرئيس للأخبار والمعرفة، هي أن مستخدمي الـ "سوشيال ميديا" يلجأون إلى الصفحات الرسمية للدولة والحكومة للبحث عن الأخبار والحقائق، وهو ما يعني ربما أن جانباً على الأقل من المستخدمين يعرف ولو في عقله الباطن أن محتوى الـ "سوشيال ميديا" يختلط فيه الخبر بالرأي بشبه الخبر بالمعلومة بنصفها بالخيال بالحقيقة بالكذب بالفبركة بالتسييس.

في أوقات الأزمات والطوارئ والأحداث الجسيمة، يلجأ المستخدمون إلى مصادر الأخبار  ثم يعودون أدراجهم للـ "سوشيال ميديا" بعد انتهاء الأزمة.

قيمة الأخبار اختلفت في مصر. بعضهم يقول إنها اختلت، ما جرى هو أن نسبة كبيرة من مستخدمي الأخبار على الـ "سوشيال ميديا"، ولا سيما "إنستغرام"، يعنيهم الخبر المعبأ بالأحاسيس أو المتخم بالمشاعر والمحمل بالإنسانية، أكثر ما يعنيهم الخبر الجاف ذي الصدقية.

يشير بطاح إلى أن الخبر ذا الصلة بالمستخدم سواء من حيث الخدمات، أو المشاعر، أو الجوانب الشخصية، أو الميول السياسية التي يفضلها أهم وأكثر قيمة من الخبر الذي يستوفي معايير الجودة والموضوعية.

وداعاً لجدوى الخبر

قيمة أخرى من القيم التي تم ضرب عرض الحائط بها ضمن الهجرة الجماعية من الصحف والمواقع إلى الـ "سوشيال ميديا" هي "الجدوى الإخبارية". يقول بطاح إن الصور والألوان والموسيقى المؤثرة جميعها يسهم في تحويل دفة الاهتمام والتركيز من صدقية المحتوى وقيمته إلى جودة صناعة مقطع الخبر المرئي.

المثير إن برامج الـ "توك شو" الحوارية التي كانت حتى أعوام قليلة مضت حديث القاصي ومصدر أخبار الداني، وكان مذيعوها أقرب ما يكونون إلى نجوم سياسة ومحاوريها صناع قرارات ومعديها محددو مصائر، أصبحت هي نفسها مادة خام لصناع المحتوى الرقمي، تارة من باب المصدر وأخرى على سبيل السخرية والتنكيت، وذلك بحسب التوجه السياسي لصانع المحتوى ومعه متابعيه.

بالطبع، لا يزال بعضهم يتابع برامج الـ "توك شو" ذات المحتوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، معتبرين إياها مصادر أخبار، لكن آخرين يعتمدون على ما تطرحه عليهم خوارزميات الـ "سوشيال ميديا" من مقاطع البرامج.

مذيع يصرخ غاضباً من تفاعلات شعبية هنا، وآخر يهدد بحدث كوني يلوح في الأفق هناك، وثالث يحذر بنبرة هادئة تليق بزعيم كبير أو فيلسوف عميق من أن "المصريين سيشهدون حدثاً جللاً، وتحولاً ضخماً، وزلزالاً سياسياً مريعاً في الأيام القليلة المقبلة" وأن عليهم الاستعداد لذلك، من دون توضيح أو تفسير جزئيات يجري تداوله ضمن محتوى صناع الأخبار على الـ "سوشيال ميديا"، وتجري متابعتها ضمن ما يحصل عليه مستهلكو الأخبار على الأثير.

المؤكد أن محتوى منصات التواصل الاجتماعي التي تتابعها القاعدة العريضة من المصريين ينشئه المؤثرون والمواطنون الصحافيون، وهي المهيمنة على المخزون الخبري وربما المعرفي، وهم المسيطرون على السرد الإعلامي. ويظل هامش الوعي لدى مستهلك الأخبار المصري والخاص بصدقية الخبر على الـ "سوشيال ميديا" غير محدد، وإن ظل موجوداً بدرجات متفاوتة.

 أما نتيجة الاعتماد شبه الكلي لهذه الأعداد الغفيرة من المصريين على محتوى الأخبار المنسوب لأفراد لا مؤسسات إعلامية، من حيث توجهات الرأي العام، واللعب على المشاعر الدينية، والتلاعب بأيديولوجيات اليمين واليسار وبالطبع الإسلام السياسي، إضافة إلى طرق التعامل مع المشكلات الداخلية، وتكوين آراء في ما يتعلق بالأوضاع الإقليمية، وفهم ما يجري من تدشين لنظام عالمي جديد بتوازنات مختلفة ومصالح مغايرة، فتنتظر من يحللها دون تسييس ويشرحها بلا توجيه.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات