ملخص
عدد كبير من المخرجين اكتفوا بفيلم روائي واحد كان بمثابة لعنة أوقفت إبداعهم في ما بعد، إذ تعدد أسباب عدم تكرارهم للتجربة ما بين العوائق الإنتاجية والرقابية، فيما جاء بعض تلك المشاريع عربياً متواضعاً بشهادة النقاد والجماهير.
المخرج هو سيد العمل الفني والقائد الحقيقي للدراما، الذي تقع عليه مسؤولية توظيف الممثلين وقبلها اختيارهم وتسكينهم في الأدوار الملائمة من وجهة نظره، وهو يحصد الثناء في حال النجاح ويتحمل الهجوم إن لم تكن النتيجة مرضية. إنها مهمة شاقة تستدعي متطلبات عديدة مثل الموهبة والخبرة والتدريب، والقبول بأن يذهب البريق كله لمن هم أمام الكاميرا، ولكنها أيضاً مهنة التحكم والسيطرة والقيادة، وموقع المخرج بالطبع يتمتع بجاذبية لا يمكن نكرانها، لا سيما للعاملين بالوسط الفني من مؤلفين وممثلين ومصورين، إذ قد تأخذهم الرغبة في التجريب ليحاولوا الحصول على كرسي المخرج لبعض الوقت، والنتيجة عشرات التجارب "الوحيدة" في هذا المضمار. محلياً وعالمياً ومنذ بدايات السينما، نجد كثراً خطفهم هذا العالم لكنهم على ما يبدو لم يتحملوه وعادوا إلى قواعدهم سالمين، مكتفين بما حققوه في مجالات فنية أخرى.
تعددت المواقف التي وضعت هؤلاء في قلب هذه التجربة الاستثنائية التي لا شك أنها تحمل شيئاً من السحر والجاذبية، وتعددت أيضاً أسباب عزوفهم عن تكرارها مرة أخرى، لتصبح وكأنها لعنة فرقت بينهم ومهنة الإخراج، في ما جاءت غالبية هذه المشاريع متواضعة المستوى بشهادة الجمهور والنقاد لدرجة أنها تسقط بسهولة من ذاكرة محبيهم، ولا تدون عادة في سجل إنجازاته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على رغم ذلك كانت هناك تجارب قليلة للغاية تعد فارقة على المستوى الفني والموضوع للمخرجين أصحاب الفيلم الروائي الطويل الواحد، قد يكون أبرزها "المومياء" للمصري شادي عبدالسلام، فيما جاءت معظم التجارب الباقية بتوقيع ممثلين لديهم خبرات طويلة في الصناعة، ولهذا أقدموا من دون تردد للجلوس على كرسي المخرج، وبينهم نور الشريف وماجدة وكمال الشناوي، وكذلك تضم القائمة كثيراً من نجوم هوليوود.
موضوعات شائكة
يُعد هاني فوزي أحد أبرز من اكتفوا بتجربة الإخراج السينمائي الروائي الطويل لمرة واحدة فقط حتى الآن، من خلال فيلم شائك قدمه عام 2013 هو "أسرار عائلية"، الذي قام ببطولته محمد مهران إلى جانب سلوى محمد علي، وكتبه محمد عبدالقادر. ودارت قصته حول شاب من أسرة متوسطة، مثلي الجنس، ويعيش في وضع مربك نظراً إلى عدم تقبل المجتمع لميوله.
العمل أثار ضجة وقت عرضه نظراً إلى جرأة الطرح، فيما كان لفوزي تجربة إخراجية أخرى من خلال فيلم قصير لا تتجاوز مدته الـ17 دقيقة بعنوان "موعد غرامي" عام 2010. وهاني فوزي مؤلف بارز له رصيد مهم من الأفلام التي حققت صدى نقدياً وجماهيرياً كبيراً، وغالبيتها تناولت قضايا حساسة وأثارت جدلاً كبيراً ومن بينها "بحب السيما" و"الريس عمر حرب"، و"أرض الأحلام" و"بالألوان الطبيعية" و"فيلم هندي".
وفي ما يتعلق بتجربته الإخراجية الطويلة الوحيدة، صرح هاني فوزي مراراً بأن "أسرار عائلية" تناول قضية المثلية الجنسية في المجتمع المصري، بطريقة مختلفة لم تطرح من قبل بهذه الصورة، ولهذا السبب تحمس لأن يكون باكورة أعماله في السينما كمخرج، والمعروف أن الفيلم مثل كثير من أعمال هاني فوزي التي كتبها واجه أزمات مع الجهات الرقابية قبل السماح بعرضه.
تجارب مهمة ومتأزمة
لكن الحال الأكثر شهرة عربياً هي حال شادي عبدالسلام (1930-1986)، مهندس الديكور والمؤلف ومصمم الملابس والمخرج والمنتج أيضاً، والذي يعطي لكل عمل حقه لدرجة الإرهاق، مما يجعل تكرار التجربة يبدو صعباً وبخاصة إذا ما واجهته عثرات متعلقة بالموازنة والرقابة وبظروف العرض، إذ إن فيلمه الروائي الوحيد لم يعرض إلا بعد تصويره بستة أعوام.
الفنان الذي لم يختلف على موهبته أحد أنجز خلال عام 1969 فيلماً مهماً في تاريخ السينما العربية هو "المومياء"، الذي كان أولى تجاربه الإخراجية الطويلة وآخرها، وتناول عالم سرقة الآثار الفرعونية، وقام ببطولته أحمد مرعي إلى جانب نادية لطفي وكتب له عبدالسلام السيناريو أيضاً، إذ قدم صورة شديدة الخصوصية وأجواء مهيبة، وعلى رغم عدم جماهيرية الفيلم فإنه يعد من أهم أعمال صناعه، وبعدها حاول شادي مراراً أن يعيد تجربة الإخراج السينمائي للأفلام الطويلة ولكنه واجه عوائق كثيرة، كما أنه استغرق وقتاً طويلاً للتحضير لفيلم "إخناتون"، وانتهى بالفعل من رسم الاسكتشات، وظهر حينها الفنان محمد صبحي بمكياج الشخصية، ولكن العقبات كانت كبيرة. وصرح صبحي مراراً بأن الموازنة الضخمة التي لم يتمكن الفريق من توفيرها كانت أحد أبرز أسباب تعطل المشروع، ليقدم عبدالسلام في ما بعد ثلاثة أفلام تسجيلية وقصيرة هي "شكاوى الفلاح الفصيح"، و"آفاق"، و"جيوش الشمس"، ثم يرحل عن الحياة.
يعتقد الناقد الفني طارق الشناوي أن تجربة العمل السينمائي الأوحد متكررة عربياً وعالمياً، مشيراً إلى أن كل مشروع في هذا الصدد له ظروفه، ومعتبراً أن شادي عبدالسلام كان الحال الأكثر خصوصية.
ويتابع الشناوي "قدم شادي أفلاماً تسجيلية مهمة، ويعد من الفنانين الأكثر إخلاصاً للموهبة وللمهنة، وكان انتهى بالفعل من سيناريو فيلم "إخناتون"، ومن غالبية التجهيزات والرسومات وحتى لقطات الديكوباج، ولكن توقف المشروع تماماً برحيل صاحبه".
مشروع متأخر
على رغم التوقعات العريضة التي صاحبت تجربة الراحل نور الشريف الإخراجية السينمائية الأولى والوحيدة "العاشقان" (2001)، فإن النتيجة جاءت دون المتوقع، وخرج العمل في إطار رومانسي به لمحة من التراجيديا، وشاركت في بطولته معه زوجته حينها الفنانة بوسي، ونفذ المشروع بعد محاولات كثيرة وتحضيرات من الشريف، الذي عرف بثقافته الموسوعية وبحبه للتجريب وبالطبع بخبراته الطويلة مع عشرات المخرجين، إذ إن رصيده الفني يتجاوز الـ130 عملاً، مع ذلك توقع الجمهور إبهاراً لم يجده في الفيلم الذي كتبته كوثر هيكل.
والمعروف أن نور الشريف خريج المعهد العالي للفنون المسرحية، وبخلاف قيمته كممثل فهو أيضاً منتج، وقام بإخراج أكثر من عمل مسرحي بينها "محاكمة الكاهن" و"الأميرة والصعلوك". وللناقد الفني طارق الشناوي رأي في مشروع نور الشريف الإخراجي، إذ يشير إلى أن تأخر احترافه الإخراج السينمائي أثر سلباً على مستوى العمل على رغم أنه كان يحلم بهذه التجربة منذ أعوام طويلة.
ويضيف الشناوي "كان نور الشريف تقدم قبل أعوام من تنفيذ ’العاشقان‘ بأكثر من فكرة سينمائية لجهاز الرقابة على المصنفات الفنية، جميعها رفضت، وأخيراً تمت الموافقة على ’العاشقان‘ حين كان على مشارف الـ60 من عمره، وأنا أرى أن العمل يلتزم بالمعايير من دون ومضات أو إبداع خاص، وقد يكون السبب هو تقدم الشريف في السن نسبياً، لأن العمر يجعل الفنان يفقد الجرأة وتقل لديه روح المشاغبة والإقدام على التجريب، مقارنة بما لو كان قدمه وهو في الثلاثينيات من عمره، لهذا فشل الفيلم فنياً وجماهيرياً".
يرى الشناوي أن الممثل مهيأ بنسبة ما لأن يكون مخرجاً، نظراً إلى احتكاكه الدائم بما يجري، وفي وضع نور الشريف فقد كان دائم البحث والتساؤل، ولكن بالطبع الإخراج ليس فقط إلماماً بأنواع العدسات والكاميرات وزوايا التصوير وخلافه، ولكنه فن قيادة الممثل، فقد يكون المخرج موهوباً ولكنه لا يستطيع قيادة الآخرين في التمثيل وتوجيههم.
إخراج بالصدفة
على النقيض كانت حال الفنانة ماجدة الصباحي، التي لم تكن تسعى يوماً لاحتراف الإخراج بعكس نور الشريف، إذ وجدت ماجدة نفسها عام 1966 أمام أكثر من أزمة بعد وفاة المخرج أحمد ضياء الدين في بداية تصوير فيلمها "من أحب"، الذي كتبت قصته أيضاً، فتولت إنتاجه وبطولته مع إيهاب نافع وأحمد مظهر، إذ أنقذت ماجدة الموقف وتولت دفة توجيه الممثلين والكاميرا ليخرج العمل للنور، ولكنها تعتزل بعدها الإخراج نهائياً، مؤكدة أنها لم تحب التجربة وتفضل أن تكون أمام الكاميرا لا خلفها، إذ كان تحركها نابعاً من خوفها على تعطيل العمل الذي استنزف أشهراً من التحضير له، ومالاً باعتبارها المنتجة، إذ عرفت ماجدة بتميزها كمنتجة لأعمال سينمائية نوعية.
وما لا يعرفه كثر أن الفنان كمال الشناوي إلى جانب التمثيل والإنتاج احترف الإخراج لمرة وحيدة فحسب، من خلال فيلم "تنابلة السلطان" الذي يدور حول قصة خيالية، بطلها "سلطان" يتزوج بامرأتين تنشأ بينهما صراعات بعد أن تنجب إحداهما ذكراً، وهو فيلم لم يحقق شهرة كبيرة، ويصنف على أنه تجربة متواضعة، ولهذا السبب لم يكررها صاحبها الذي كان نجماً سينمائياً لامعاً خلال ذلك الوقت (1965).
وجه جديد
الفنان أحمد مظهر كانت له أكثر من تجربة إنتاجية لعل أبرزها ثلاثة أفلام قدمها منذ مطلع ستينيات القرن الماضي وحتى منتصف التسعينيات، هي "الضوء الخافت"، و"نفوس حائرة"، و"حبيبة غيري". الأول من بطولته مع سعاد حسني، والثاني مع ميرفت أمين، والثالث مع نادية لطفي، والأخيران بصفة خاصة قام بتأليفهما وإخراجهما كذلك. أما الأسباب التي دفعت مظهر للإخراج للمرة الأولى فتعود لرغبته في تقديم الفنانة ميرفت أمين في عمل من بطولتها، إذ كانت لا تزال وجهاً جديداً آنذاك وموهبة تستحق التشجيع، وبالفعل أنتج وألف وأخرج لها "نفوس حائرة" عام 1968 وبعدها بعام جاءت انطلاقتها الكبرى أمام عبدالحليم حافظ في الفيلم الشهير "أبي فوق الشجرة".
وخلال وقت كرر نجوم مثل ناتالي بورتمان وجوني ديب وأنجلينا جولي وبن أفليك تجربة الإخراج السينمائي أكثر من مرة، فإن زملاء كثراً لهم اكتفوا بعمل سينمائي وحيد وقفوا فيه خلف الكاميرا، ولعل أبرزهم مورغان فريمان عام 1993 في "بوفا" (Bopha)، وبيري لارسون بـ"Unicorn Store" عام 2017، وعلى رغم تداول معلومات قبل أعوام عن تعاقدها على بطولة وإخراج فيلم بعنوان Lady Business (سيدة أعمال) لمصلحة "نتفليكس" فإن المشروع تعثر على ما يبدو، فيما تعد رجينا كينج من أكثر نجمات التمثيل تميزاً كمخرجة برصيد يقترب من 18 عملاً، بينها فيلم سينمائي طويل وحيد هو One Night in Miami (ليلة في ميامي)، 2020، الذي ترشح لثلاث جوائز "أوسكار"، والباقي يتوزع ما بين الأعمال الوثائقية والتلفزيونية.
المهنة المرهقة التي تتسم بالهيمنة وأيضاً بالضغوط، وتضمن لصاحبها مكانة كبيرة ولكنها بعيدة من الأضواء الساطعة التي يلقاها الممثلون، تتطلب إضافة إلى الدأب والتركيز والاجتهاد والموهبة والتفرد والتحايل على المحددات الرقابية وعوائق الإنتاج والموازنات والاعتذارات، معايير خاصة للغاية لن يتحملها الجميع بالطبع.