ملخص
ترى شريحة كبرى من السوريين بعد تشكيل "هيئة العدالة الانتقالية" أن تلك الهيئة ستراعي منطق عدالة ما قبل إسقاط نظام بشار، ومن ثم ستتغاضى عما حصل بعده من قتل وخطف لم يتوقف.
أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع أخيراً مرسوماً بتشكيل "هيئة العدالة الانتقالية" على أن تكون مهمتها كشف الحقائق في شأن انتهاكات النظام السابق ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكاته مع جبر الضرر الواقع على الضحايا وترسيخ مبادئ المصالحة الوطنية، كذلك تتمتع تلك الهيئة بالشخصية الاعتبارية والاستقلالية المادية والمعنوية.
المرسوم فتح الباب عريضاً أمام التساؤل حول محاسبة "داعش" و"النصرة" وبقية الفصائل المعارضة التي أوغلت في الدم السوري عبر القنص والقتل وهجمات الانتحاريين والمفخخات التي أفضت إلى مقتل عشرات آلاف السوريين خلال أعوام الحرب الطويلة، كذلك فإنها تراعي فقط منطق عدالة ما قبل انتصار الثورة وتغض النظر عن مقتل آلاف المدنيين ما بعد انتصار الثورة على يد فصائلها، على ما يقوله سوريون.
مفهوم معقد
لا شك أن قرار الشرع يفتح المسار أمام معادلة سياسية واجتماعية جديدة في سوريا، ويمكن النظر إلى ذلك القرار من زاوية المفهوم الدولي على أنه أحد أبرز سمات الركائز المتينة نحو طريق السلام والاستقرار في مرحلة ما بعد الديكتاتورية المباشرة التي استمرت عقوداً، لكن الحال في سوريا الممزقة يختلف في هذا السياق، فالعدالة الانتقالية لا تعني المحاسبة فقط، بل تشمل المحاكمات، ومنح العفو حين يلزم، مما يضع مسار الهيئة أمام تحديات صعبة، ليس على صعيد ارتكابات النظام السابق من جرائم ومجازر دموية وحسب، بل لشكل سوريا نفسها ما بعد الثورة وانعدام تجانس المكونات التي أفضت إلى ارتكاب فصائل المعارضة التي وصلت إلى الحكم، مجازر وانتهاكات جديدة، فعلى أي زمن ستُحسب تلك التجاوزات والمرسوم واضح في أي اتجاه سيحاسب؟
المرسوم الرئاسي رقم (20) القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية#رئاسة_الجمهورية_العربية_السورية pic.twitter.com/RQlpZsX1Or
— رئاسة الجمهورية العربية السورية (@SyPresidency) May 17, 2025
المشكلة التي تراها شريحة كبرى من السوريين اليوم، والتي عبروا عنها في أحاديثهم وتدويناتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، تشير إلى أن تلك الهيئة ستراعي منطق عدالة ما قبل إسقاط نظام بشار، ومن ثم ستتغاضى عما حصل بعده من قتل وخطف لم يتوقف، ومن قضية الساحل في مارس (آذار) الماضي التي لا يزال صداها يتردد داخلياً وخارجياً إثر مقتل نحو 2000 مدني أعزل على أيدي جماعات أُثبت انتماؤها إلى الجهات الرسمية في غالب الأحيان، وعليه، يخشى أولئك الضحايا أن تتحول العدالة الانتقالية إلى أداة انتقامية نافذة فتعمّق معها الخلاف والانقسام والأحقاد عوضاً عن أن تكون أداة جامعة في مسار الصلح الأهلي والمجتمعي.
أستاذ القانون الدولي السابق في جامعة دمشق عبدالله سامح يقول لـ"اندبندنت عربية" إن "مفهوم العدالة الانتقالية معقد ومحفوف بالألغام والأخطار التي يجب تجاوزها للتمكن من بناء مجتمع قوي ورصين لا تستقوي فيه فئة على أخرى، ولا يغفل جرائم طرف على حساب طرف آخر، فالعدالة يجب أن تكون نزيهة وشفافة وموضوعية وغير منحازة وإلا فإنها ستعيد إنتاج مظلوميات بالجملة".
يحضر هنا في هذا الإطار رأي سارة سلامة الأكاديمية في علوم اللغات إذ تساءلت عن محاسبة قاتلي أخيها الذي قضى عام 2015 بقصف نفذته فصائل المعارضة من غوطة دمشق على حي باب توما في العاصمة السورية بقذائف الهاون، وتقول "لسنا ضد العدالة، ولكن أن تكون عدالة فعلية تحاسب كل من أجرم في حق الشعب السوري، الذي لم يكن يميز النظام والمعارضة بين الضحايا حين يقصفون الأحياء السكنية".
الثورة تمحو ما قبلها
على رغم الاستقرار الأمني النسبي في سوريا طوال عقود ما قبل الحرب، فإن ذلك لم يكن كافياً لدرء انفجار ثورة قامت على مظلوميات اجتماعية وإقصائية طويلة، ومع الثورة وتداخل القوى وصراع النفوذ والسيطرة صارت سوريا ساحة للقتل وآلة حاسبة لتعداد أرقام القتلى يومياً من كل الأطراف، وما تلا ذلك من خطف وتغييب قسري وانتهاكات جسدية ومعنوية وترهيب مستمر. وفي خضم ذلك استخدمت أطراف الصراع مختلف صور القصف على المدن والبلدات والحواضر، وكان المدني دائماً حاضراً على رأس سجلات القتلى، وعلى رغم أن النظام فاق بوحشيته سواه، حين قصف أعداءه بالأسلحة المحرمة دولياً كالكيماوي والسارين والصواريخ المركزة وغيرها، فإن "داعش" لم يقل بوحشيته في عز قوته عن النظام، ولم تكن "النصرة" بمنأى عن تبني عشرات التفجيرات والانتحاريين ومئات المعارك.
يطرح الحائز على دبلوم العلاقات الدبلوماسية، منير صبرة، تساؤلات حول "ما إذا كان تم توافق سلطوي ضمني على أن انتصار الثورة يمحو ما قبلها، ولكن ماذا عما حصل بعدها من أحداث دموية عصفت بحمص وحماة والساحل ودرعا ودمشق وغيرها"، ويقول، "نحن اليوم أمام حالة تعامٍ مقصودة عن انتهاكات موصوفة وموثّقة لدى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، هذه الحال ستزيد من معاناة عشرات الآلاف الجدد الذين انضموا إلى قائمة الضحايا، وإلا لماذا لا يزال لدينا 30 ألف هارب إلى لبنان من الساحل و10 آلاف محتمون في مطار حميميم، ممَّ يخافون لو كان هناك مسار عدالة حقيقي؟".
بدورها ترى الحقوقية ميرنا عمران أن "المرسوم يقسّم السوريين إلى نخبة أولى وثانية، فتجاهل طرف على حساب طرف آخر قد يعيد إنتاج فوضى دموية نابعة من شعور طرف بفرط القوة وذلك أكبر إسفين ممكن أن يوضع في جسد بناء مستقبل مشترك لجميع السوريين".
وفي إطار مضاد يرى الشاب محمد محمد وهو معتقل سابق أن "ما اقترفه نظام الأسد من جرائم وانتهاكات وسجون لم يسبقه إليه أحد"، وأن "الإجرام يبدأ وينتهي عند ماكينة الأسد العسكرية والأمنية"، معتبراً أن "الفصائل المعارضة دائماً كانت في حال دفاع عن النفس، حتى في حال أحداث الساحل فهي كانت تواجه فلول نظام مخلوع. الحرب مع ’داعش‘ لم تنته فهي خارج تصنيف تطبيق مفهوم العدالة، أما النصرة التي صارت هيئة تحرير الشام وحررت سوريا ومعها بقية الفصائل، فهؤلاء ثوار كانوا يردون الأذى عنهم وعن أهلهم".
حجر الأساس
يرى حقوقيون ومتخصصون في الشؤون القانونية أن هيئة العدالة في الحال السورية تتخطى كونها ملفاً قانونياً وسياسياً بحتاً، بل هي حجر الأساس في بناء المجتمع ونزع فتيل التوتر من بين أفراده، وعليه يؤكدون أنها لا يجب أن تناصر طرفاً على آخر فتقوض معها جهود المصالحة وتعزز حالات الثأر والانتقام خارج أروقة المحاكم.
"عام 2011 اختُطف أخواي الاثنان في حمص وقُتلا لاحقاً، وقتها لم يكن هناك فصائل متشددة، كانت معارضة مسلحة تقليدية"، يقول المهندس جابر معروف ابن مدينة حمص، متسائلاً عن قتلة أخويه وعن جدوى المرسوم الذي لن يحاسبهم بعد مضي 14 عاماً على فقدانهما، ويضيف، "هل من شخص حمل السلاح ولم يتورط بالقتل؟ نعم قد يكون بعض المسلحين ركز على مواجهات عسكرية مباشرة على الجبهة، لكن ماذا عن خطف آلاف المدنيين والتنكيل بهم وقصف المدن ليل نهار بالقذائف؟ وبالمناسبة أنا هنا لا أعفي الأسد، فقد كان يبرع بتلك الممارسات، أنا فقط مهتم بأن تبحث هيئة العدالة عن قاتلي أهلي وأخويّ".
شروط النجاح
يرى القاضي المتقاعد رؤوف الجندي أن "العملية المرتبطة بالعدالة الانتقالية يجب أن تتسم بأساسات لا يمكن تجاوزها، وعلى رأسها وجود آليات قضائية مستقلة تتمتع بالحياد والسيادة والشفافية والاستقلالية التامة مع صلاحيات مطلقة ومفتوحة تشمل كل أراضي الجمهورية العربية السورية لتبحث في الانتهاكات التي وقعت خلال أعوام الحرب في مختلف المواقع، فمدن شرقية مثل دير الزور لم تقل معاناتها عن مدن أخرى شهدت حروباً ضروساً، كذلك فإن أطرافاً أخرى لها انتهاكاتها، كقوات ’قسد‘ الكردية التي لا يمكن تطبيق عمل اللجنة عليها لانفصالها عضوياً عن حكومة دمشق المركزية".
ويؤكد القاضي خلال حديثه مع "اندبندنت عربية" أن "اللجان التي ستنبثق عن الهيئة تلك ستحتاج إلى دعم مركزي منقطع النظير مع دعم إقليمي واستشارات دولية عبر الفرق المتخصصة في مجالات القوانين الدولية والإنسانية"، مؤكداً أن "إشراك أطراف خارجية في التحقيقات سيضمن نزاهتها، وما يمكن أن يزيد من نزاهة تلك اللجان مجتمعةً هو أن يكون المجتمع الأهلي شريكاً من دون إقصاء لمكون أو طرف على حساب آخر"، ويضيف أن "عمل اللجنة لا يجب أن يقتصر على مرتكبي جرائم الحرب، بل يجب أن يتعداه نحو أدوار أكثر خصوصية كمثل إزالة ثقافة الانتقام والثأر وتعويضها بالتسامح الجمعي، ويمكن أن يكون ذلك عبر الإرشاد والتوعية انطلاقاً من المدارس والمعاهد الشرعية والجامعات والمنابر الدينية والمنتديات الثقافية والإعلام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صراع المظلوميات
في آراء مقابلة، يرى آخرون أن الأسد هو من فجّر الصراع، وهو من استقوى بميليشيات الداخل والقوى الخارجية، فولّد لدى الطرف الآخر ردود فعل عنيفة، فيما يُواجه هذا الرأي بأن الأمر كان كذلك فعلياً ولكنه لا يمكن أن يبرر بأية صورة حوادث المفخخات والانتحاريين والمتشددين الذين صاروا ركيزة في قتاله ضمن ساحة عالمية تمتص الأفكار المتشددة، ويستذكر البعض أن حمص وحدها تعرضت لانفجار أكثر من 90 سيارة مفخخة في الفترة ما بين عامي 2012 و2017، عدا عن مفخخات المدن الأخرى، والأحداث المؤلمة والقتل العشوائي والقصف على الأحياء المدنية، وما بين كل ذلك من اقتتال فصائل المعارضة في ما بينها، فهل ستشمل العدالة الانتقالية البحث في ذلك الملف أيضاً؟ يبدو الأمر مستبعداً للغاية.
الآن يرى سوريون كثر أنهم تعرضوا لمظلمة كبرى بعيد انتصار الثورة، ويقابلهم سوريون بمظلمة أكبر قبل انتصارها، وما بين المظلمتين لا يمكن أن تستوي العدالة بمحاسبة طرف دون آخر، خصوصاً مع اتهامات بتمييع عمل لجنة تقصي الحقائق التي كلفتها السلطة للبحث في أحداث مجازر الساحل، وها قد مضى شهران من دون نتيجة، فهل سيقبل رفاق سلاح الأمس أن يكونوا مدانين بعدما تسلموا أبرز المناصب العسكرية أخيراً؟
تجارب دولية
ليست سوريا البلد الوحيد الذي شهد حرباً عنيفة ونزاعاً قاسياً وانقسامات مريرة في العصر الحديث، فثمة دول شهدت أحداثاً مشابهة، ومنها مَن تمكن من الخروج من عباءة الأنظمة الديكتاتورية، ولعل النماذج التصالحية التي طُبقت في تلك الدول بعيد صراعاتها تصلح لإسقاطها على الحال السورية والاستفادة منها، وعلى رأس تلك التجارب تكوين لجنة مصالحة آلفت المجتمع الجنوب أفريقي في ما بينه عقب سقوط نظام الفصل العنصري، وعبر تلك اللجنة مُنح كثر العفو مقابل الاعتراف ومن ثم وُلِدت بيئة جديدة من التسامح والتعايش، كذلك رواندا التي شهدت إبادة جماعية، فلجأت الدولة بعد انتهاء النزاع إلى المحاكم الرسمية وإلى نظام العدالة التقليدي القبلي المتبع كعرف ضمن المجتمع المحلي، مما أسهم في تسريع المحاكمات وإعطاء الضحايا فرصة لمواجهة جلاديهم قبل الوصول إلى إطار اجتماعي تسوده المصالحة، وأيضاً تجربة البوسنة والهرسك التي شكلت محاكم لكبار مجرمي الحرب والمتورطين بالإبادة العرقية والجرائم ضد الإنسانية في إطار برنامج متكامل لإعادة التوطين وبناء مؤسسات مدنية تعزز التعايش السلمي في خطوة نحو محو الماضي المؤلم.