Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النزوح العكسي ينذر بتفتت جغرافي وتحول ديموغرافي في السودان

قد يفتح الأمر المجال أمام ظهور مطالب اجتماعية وسياسية جديدة مع إعادة تشكيل موازين القوى على المستوى المحلي

تعد التحولات الديموغرافية التي أطلقتها الحرب ملامح أولية لإعادة تشكيل السودان اجتماعياً وسياسياً (أ ف ب)

ملخص

تلعب ديناميكيات التحول الديموغرافي دوراً إضافياً في تفجير النزاعات من خلال تزايد معدلات التحضر العشوائي والنزوح القسري وانتقال الشباب من الأرياف إلى المدن، بما يفوق قدرة البنية التحتية على الاستيعاب.

في ظل الحرب المستعرة في السودان منذ أبريل (نيسان) 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تتجلى ملامح التحول الديموغرافي العميق الناتج من التداخل البنيوي بين العنف المسلح والحراك السكاني القسري، حيث كشفت عن الأثر المتسارع والعميق الذي خلفه النزاع في الخصائص الاجتماعية والاقتصادية للسكان، سواء في المناطق التي تشهد الاقتتال أو تلك التي تستقبل الفارين منه، أو نزوح بعضهم العكسي في رحلة العودة لديارهم أو إلى مناطق أخرى للاستقرار، بعد أن خفتت فيها وتيرة الصراع.

وهذا التهجير القسري لا يقتصر أثره في الخريطة السكانية وحسب، بل يفضي أيضاً إلى تغيرات في البنية العمرية والنوعية للسكان، فينخفض حضور بعض الفئات مثل الشباب الذكور وتتضخم نسب النساء والأطفال وكبار السن، مما يؤدي إلى اختلالات اجتماعية واقتصادية متراكمة.

ويلاحظ أن أثر هذه التحولات لم يقتصر على المناطق المنكوبة وحدها بل امتد إلى المدن المستقبلة للنازحين، حيث باتت تشهد تضخماً سكانياً غير مسبوق مما ينذر باختلالات متنامية في التوازن الإثني والاقتصادي، ويهدد بتفكك المنظومة المجتمعية القائمة، وقد أصبحت بعض المدن، مثل ود مدني والقضارف وبورتسودان ومدن الولاية الشمالية، مراكز جذب جديدة تحتضن أعداداً ضخمة من النازحين القادمين من الخرطوم ودارفور وكردفان، مما يفتح المجال أمام ظهور مطالب اجتماعية وسياسية جديدة، مع إعادة تشكيل موازين القوى على المستوى المحلي.

وفي المقابل تواجه بعض المناطق الريفية تحدياً يتمثل في الفراغ السكاني الحاد الذي ينعكس سلباً على الإنتاج الزراعي والأمن المحلي، بينما تعاني المدن المستقبلة توسعاً حضرياً عشوائياً يزيد الضغط على الموارد والخدمات، ويتوقع على المدى البعيد أن تترك هذه التغيرات بصماتها على الخريطة السياسية، ولا سيما في ما يتعلق بإعادة ترسيم الدوائر الانتخابية وفق الكثافة السكانية الجديدة، وظهور فاعلين اجتماعيين غير تقليديين، ونشوء هويات محلية هجينة نتيجة التفاعل المستمر بين النازحين والمجتمعات المستضيفة، وعليه فإن التحولات الديموغرافية التي أطلقتها الحرب لا تعد مجرد نتائج عرضية للنزاع، بل ملامح أولية لإعادة تشكيل السودان اجتماعياً وسياسياً على نحو عميق ومركب.

محن مروعة

وأفادت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأنه "بعد عامين من بدء الأزمة نزح ما يقارب 15 مليون شخص، أي واحد من كل ثلاثة سودانيين، ويشمل ذلك نحو 10 ملايين نازح داخل السودان و4 ملايين إلى دول الجوار".

وقال المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، إن "فرقنا في المنطقة تصف المحن المروعة التي تواجهها النساء والفتيات النازحات قسراً عند فرارهن من السودان"، مضيفاً "يجب أن تتوقف هذه المجموعة المروعة من انتهاكات حقوق الإنسان، وتقديم المساعدة لدعم الناجيات والمعرضات للخطر أمر مُلح، ولكن التمويل محدود للغاية حتى الآن".

ووفقاً لـ "يونيسف" فإن السودان يمثل أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم، ولقد حرم الصراع ملايين الأطفال السودانيين التعليم، إذ لا يحصل أكثر من 90 في المئة من أطفال البلاد في سن الدراسة، والبالغ عددهم 19 مليون طفل، على تعليم رسمي.

وعلى رغم انخفاض النزوح بنسبة اثنين في المئة مع عودة ما يقارب 400 ألف شخص لمواطنهم الأصلية في ولايات الجزيرة وسنار والخرطوم، لكن هذا الانخفاض لا يشير بالضرورة إلى تحول مبشر أو إلى تحسن في الظروف، فقد حذر رئيس فريق "المنظمة الدولية للهجرة" في السودان، محمد رفعت، من أنه "في حين أن كثيرين يتوقون للعودة لديارهم لكن الظروف اللازمة للعودة الآمنة والمستدامة والاندماج غير مُهيأة بعد"، مضيفاً أن "الخدمات الأساس، بما في ذلك الرعاية الصحية والحماية والتعليم والغذاء، شحيحة، وسيصعب نقص البنية التحتية العاملة والقدرة المالية على الأسر إعادة بناء حياتها".

ووفقاً لـ "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (أوتشا) فإن "الملايين من سكان السودان يحتاجون إلى مساعدات عاجلة، إذ وصل انعدام الأمن الغذائي إلى مستويات كارثية، وهم يواجهون جوعاً حاداً، وقد تأكدت بالفعل المجاعة في أجزاء من شمال دارفور وجبال النوبة، ومن المتوقع أن تنتشر ظروف مماثلة خلال الأشهر المقبلة".

إعادة التوزيع

وتجسد ولاية الجزيرة الواقعة وسط السودان حالاً ميدانية بارزة لهذا التغيير الديموغرافي المفاجئ، إذ استقبلت ما يزيد على 700 ألف نازح من ولاية الخرطوم وحدها خلال الأشهر الأولى من النزاع، بحسب تقارير "منظمة الهجرة الدولية"، وأدى هذا التدفق المفاجئ إلى تضخم سكاني غير مسبوق نتج منه ضغط هائل على البنية التحتية ونقص في الخدمات الصحية والتعليمية، مع ارتفاع حاد في أسعار الإيجارات والسلع الأساس، فضلاً عن ظهور أنماط جديدة من الهشاشة الاجتماعية والتوترات المجتمعية بين السكان الأصليين والوافدين.

وتمثل ولاية الجزيرة مركزاً حضرياً موقتاً بديلاً للخرطوم، خصوصاً العاصمة ود مدني ومحليتي الحصاحيصا والكاملين، فقد قرر جزء من النازحين من الخرطوم الاستقرار الموقت فيها، وبعد اشتعال المعارك فيها قرر النازحون العودة لمناطقهم الأصلية، وبعض المجموعات نزحت إليها ثم عادت لقراها في الجزيرة نفسها، مما أسفر عن إعادة توزيع سكاني داخل الولاية وظهور أحياء عشوائية جديدة على أطراف المدن، وتغيير في نمط الطلب على التعليم والصحة والسكن،

قال اختصاصي "برنامج السكان والتنمية" في "صندوق الأمم المتحدة للسكان"، فيصل إسحاق عبدالله، إن "إجمال عدد سكان ولاية الجزيرة كان نحو 10 ملايين نسمة عام 2023، بما في ذلك 4.2 مليون نازح من الخرطوم وولايات أخرى عقب اندلاع النزاع في الخرطوم، ويقدر عدد سكان النازحين داخلياً في المناطق الحضرية بنحو 77 في المئة، بينما يبلغ عدد المقيمين في المناطق الحضرية 23 في المئة، بينما يبلغ متوسط حجم أسرة النازحين في الجزيرة 10 أشخاص، وهو أعلى بكثير من المتوسط على المستوى الوطني والذي يقدر بنحو ستة أشخاص لكل أسرة"، مضيفاً أن "النتائج كشفت عن عدم كفاية المساعدة وشعور النازحين داخلياً بالعزلة، على رغم إستراتيجيات التكيف التي تشمل الاعتماد على الشبكة الاجتماعية والاستفادة من الروابط الاجتماعية مع الأقارب والأصدقاء للحصول على المساعدة، وإن لم تكن كافية".

تدفقات عكسية

ومن المناطق التي شهدت عودة النازحين أيضاً ولاية النيل الأبيض وخصوصاً محليتي السلام والجبلين، بسبب قربها من مناطق النزوح مثل الخرطوم ومدينة كوستي واستقرارها الأمني النسبي، فقد شهدت تدفقات عكسية من نازحين فروا بداية الحرب إلى الجنوب ثم عادوا باتجاه هذه المناطق، ونتيجة لذلك حدث ارتفاع في الكثافة السكانية بصورة غير متوازنة، إضافة إلى ظهور مجتمعات مختلطة من قبائل عدة خلفت ضغوطاً على الموارد، كما تراجع النمط الزراعي التقليدي لمصلحة أنشطة خدماتية وتجارية صغيرة.

وهناك أيضاً بعض مناطق إقليم دارفور وخصوصاً شمال دارفور وشرقها، فبعض المجموعات عادت لقراها بسبب تعقيدات الحياة في أماكن النزوح، مثل دار السلام ونيالا والجنينة، ولكنها عودة محدودة ولا سيما في مناطق ظلت آمنة نسبياً. وتركزت العودة في محيط الفاشر وكبكابية وتابت وأدت إلى تغيير تركيبة بعض القرى بسبب عدم عودة كل السكان وتعزيز دور بعض المجموعات شبه العسكرية في تشكيل المشهد السكاني، كما شهدت ولاية جنوب كردفان وخصوصاً مناطق كاودا والدلنج والريف الجنوبي، عودة بعض النازحين من مناطق سيطرة "الحركة الشعبية- شمال"، إذ عادوا لمناطقهم الأصلية بعد فترات نزوح طويلة، وأدت العودة إلى تقارب سكاني بين مجموعات كانت مفصولة زمن الحرب، وهناك احتمالات بتصاعد صراع على الموارد الزراعية والمائية.

وعلى المستوى الأعمق عرضت الحرب سبل العيش المستقرة للسكان لأخطار جمة، فقوضت منظومات الإنتاج الزراعي والحرفي وأضعفت البنى التحتية للخدمات الأساس مثل الصحة والتعليم والمياه، مما فاقم هشاشة السكان وجعلهم أكثر عرضة للأوبئة وسوء التغذية والأمراض المزمنة، كما أن البيئة المحيطة، بما فيها من موارد مائية ومراع وأراض زراعية، تأثرت بدورها بالاستغلال المفرط أو التلوث والتدهور، مما عزز دوامة التهجير والتنافس على الموارد، إذ يُتوقع أن يفتح المجال أمام مزيد من العنف البنيوي والمعاناة الإنسانية.

أزمات مركبة

تقول الاختصاصية الاجتماعية عالية ميرغني إنه "في خضم هذه الحرب التي تعصف بالسودان يبرز العامل الديموغرافي كعنصر مركزي في فهم تعقيدات الصراع وتحولاته، فالسكان ليسوا مجرد أرقام في سجلات الإحصاء بل هم قوى فاعلة تعيد تشكيل موازين القوى الاجتماعية والسياسية على نحو مستمر، ولا سيما حين يكون النمو السكاني غير متوازن بين المكونات الإثنية والدينية المختلفة"، موضحة أن "هذا التفاوت يتجلى في معدلات الخصوبة والنمو الطبيعي بوضوح، مما يخلق اختلالاً في التركيبة السكانية يثير الهواجس الوجودية لدى بعض الجماعات، ويدفع أخرى إلى المطالبة بدور أكبر في الدولة ومؤسساتها، في سعي إلى إعادة تعريف ملامح السلطة وتوزيع الثروة".

وأفادت ميرغني بأن "المفارقة الديموغرافية تظهر حين تتنامى جماعة سكانية بوتيرة متسارعة، بينما تظل فرصها في التمثيل السياسي والاقتصادي محدودة أو خاضعة لهيمنة جماعات أبطأ نمواً مما يُفضي إلى شعور عميق بالإقصاء وعدم الإنصاف، وفي بلد متعدد الأعراق والديانات كالسودان يتحول هذا الشعور سريعاً إلى وقود لصراعات دموية تتغذى على سرديات التهميش وسعي الجماعات إلى انتزاع حقها في تقرير المصير أو الهيمنة، بحسب موقعها من ميزان القوة الديموغرافية".

وأوردت الاختصاصية الاجتماعية أنه "إضافة إلى هذا التوتر البنيوي فإن ديناميكيات التحول الديموغرافي تلعب دوراً إضافياً في تفجير النزاعات من خلال تزايد معدلات التحضر العشوائي والنزوح القسري وانتقال الشباب من الأرياف إلى المدن، بما يفوق قدرة البنية التحتية على الاستيعاب، لتفضي هذه التحولات إلى أزمات مركبة في سوق العمل مع تنامٍ في الفقر الحضري والبيئات الحاضنة للعنف، سواء في شكل ميليشيات مسلحة أو تيارات دينية متشددة".

وزادت، "في بلد يشهد طفرة شبابية واسعة كالسودان، ومع غياب السياسات الاحتوائية والتعليمية الفعالة، فإن هذه الفئة تتحول إلى هدف سهل للتجنيد من قبل الجماعات المتطرفة، في ظل ما تعانيه من انقطاع الصلة بين تطلعاتها المستقبلية والواقع المعيشي المتدهور، وتفاقم الضغوط البيئية مثل شح المياه وتآكل التربة وتناقص الموارد نتيجة وطأة الأزمات السكانية، مما يجعل الصراع في السودان ليس مجرد حرب على الأرض، بل أيضاً صراعاً على المستقبل الديموغرافي للدولة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هندسة ديموغرافية

وفي ضوء المشهد السوداني المعقد تتجه الحرب نحو مرحلة جديدة تتجاوز العمليات العسكرية المباشرة لتتخذ أدواتها طابعاً ديموغرافياً مدروساً يخدم غايات جيوسياسية أعمق، فمع اشتداد النزاع وتكرس الانقسام الجغرافي بين مناطق النفوذ سيتطور النزوح ثم العودة لعمليات تهجير قسري للسكان، تستخدم كأداة إستراتيجية لإعادة تشكيل الخريطة السكانية بما يتسق مع مشاريع الهيمنة الإثنية والدينية، متسترة أحياناً خلف أطر قانونية موجهة تعيد إنتاج سياسات السيطرة من خلال "هندسة ديموغرافية" ممنهجة.

وهذه التحركات لا تعد مجرد نتائج جانبية للصراع بل مؤشرات على نيات إستراتيجية تسعى إلى إعادة رسم حدود السلطة السياسية والاجتماعية في البلاد، فالتغيير القسري في التركيبة السكانية بات يوظف لتحقيق غلبة إثنية أو طائفية، ولفرض أمر واقع جديد يضعف البنية التقليدية للانتماءات القبلية ويحطم التماسك الاجتماعي المحلي، ويكتسب هذا النمط خطورته من كونه يجري تحت غطاء ولاءات سياسية وقبلية ظاهرها السلم وباطنها التمكين الجغرافي، ومع استعادة الجيش بعض المواقع الحيوية بدأت معالم "سودان جديد" في التشكل، إذ تتبدل الخرائط عبر تفريغ مناطق بأكملها من سكانها الأصليين وإعادة توطين آخرين وفق اعتبارات الولاء والهيمنة، وفي الوقت ذاته يتقاطع هذا الواقع مع تعنت طرفي النزاع الذي يغذي الانقسام ليعيد إنتاج الصراع بصيغ أكثر تعقيداً تحول دون نشوء مركز وطني جامع.

وينذر المشهد السوداني المقبل بدولة مشطورة الأوصال تعاني تفتتاً جغرافياً وانعداماً للأمن، فيما توزع جهود الإعمار والتنمية بصورة انتقائية تخدم أولويات أطراف محلية وخارجية، وسينتج من عمليات التهجير الجارية طيف واسع من النازحين الدائمين الذين لا يملكون مقومات العودة، مما يحولهم إلى وقود لأزمات أمنية قادمة ويرسي بنية هشة لدولة ما بعد الحرب، يصعب معها تحقيق سلام مستدام أو تعايش متوازن.

ومن هذا المنظور فإن فهم الديناميات الديموغرافية الناتجة من الحرب في السودان لا يعد فقط مدخلاً لتحليل الأبعاد الإنسانية والاجتماعية للنزاع، بل يمثل أيضاً أداة لتحليل آثار الحرب على مستقبل الدولة واستقرارها وتوازناتها الإقليمية، بما يجعله محوراً حيوياً يشكل التحولات الجارية ويعيد تصور مآلاتها المستقبلية.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير