ملخص
أثيرت أخيراً قضايا جنائية عدة تتسم بالحساسية، كان للـ"سوشيال ميديا" دور في إلقاء الضوء عليها بصورة ساعدت في تحريكها وإيصال أصوات أصحابها إلى الجهات المعنية، لكن كان هناك ثمن غالٍ وهو الكشف عن هويات المتورطين، وبينهم متهمون لم تثبت إدانتهم وضحايا لا يرغبون في الظهور، وكذلك أطفال قصر غير بالغين، فيبدو كأن هذا الدور المزدوج لا مفر منه في ظل عدم وجود آلية لضبط العالم الافتراضي".
شهدت مصر خلال الأسابيع الأخيرة مجموعة من القضايا اتُخذت إجراءات سريعة حيالها وغالبيتها تتسم بالحساسية، إذ وصل صداها إلى المعنيين بالأمر، وكانت الـ"سوشيال ميديا" في كل خطوة شريكاً أساساً، هي العين والأذن واليد التي أشارت وضغطت وقادت حملات، حتى وضع الأمر في مكانه الصحيح، وهو قاعات المحاكم وغرف التحقيق.
اهتمام مواقع التواصل الاجتماعي بلا شك كان له أثر إيجابي وبشهادة كل الأطراف أسهم في إسراع الإجراءات، وأثلج كثيراً من الصدور التي اطمأنت أن العدالة تأخذ مجراها، لكن كيف يمكن تمييز الحد الفاصل بين الزخم الضروري للمساعدة في رفع ضرر أو تصحيح أوضاع، وبين التشهير، بخاصة أن الكشف عن هوية أطراف أية أزمة أو صراع قد يؤذي حتى الطرف المعتدى عليه نفسه، وليس فقط المتهم الذي لم تثبت إدانته بعد.
عشوائية التدوينات وعدم احتكامها إلى أي قواعد منظمة شيء طبيعي لأنها تخرج من جمهور متعدد وليس له إطار، ولا تحكمه مهنة كما أن معاييره الأخلاقية نفسها متباينة، وفي حين يرى بعضهم أن من الضروري عدم الإفصاح عن معلومات خاصة تتعلق بالضحايا لأن من شأنها أن تعرض حياة أسرهم للخطر أو تسبب لهم إزعاجاً في أماكن عملهم، والأمر نفسه بالنسبة إلى المتهمين الذين لا يزالون مجرد "متهمين"، يرى بعضهم الآخر أن هذا "الفضح" هو جزء من العقاب المجتمعي الضروري للجاني الذي يتضمن النبذ والتشهير، وفي سبيل ذلك يطاول الانتقام من دون قصد، من يُقدّمون في أية قصة على أنهم الطرف المجني عليهم، فقد يكونون مرتبكين إذا ما كشفت هويتهم وهوية أفراد أسرهم، مما قد يوقع عليهم ضرراً بالغاً نفسياً ومجتمعياً وربما بدنياً. فهل هذه مجرد خسائر جانبية متقبلة مع قيام هذه المنصات بدورها في إيصال الأزمة إلى المؤسسات القضائية والأمنية، أم هي أمور تجعل بعض مروجي الحدث شركاء في جرائم من نوعية أخرى سواء عن عمد أو لا، بل قد تسهم أيضاً في تراجع عدد كبير من الأشخاص عن اللجوء إلى الشرطة من الأساس طلباً لرفع الظلم، خوفاً من أن تكبر الواقعة، وتتحول إلى "ترند" جنائي هم في غنى عنه؟
من دون فلتر
أستاذ الإعلام ومتخصص الإعلام الرقمي الدكتور فتحي شمس الدين يرجع سبب هذا التأثير الكبير في حياة الأفراد الذين يجري تناول أزماتهم على الـ"سوشيال ميديا" إلى أن هذه المنصات باتت هي "الإعلام البديل الذي يندرج تحت نمط الإعلام الشبكي"، موضحاً أن أبرز خصائص هذا الإعلام أنه "بلا ميثاق شرف وبلا اتفاق عالمي وبلا إطار تنظيمي، بالتالي يستطيع أي شخص أن يكتب ما يريد". ولفت إلى أن مهمة "الفلترة" و"التنقية" كان يقوم بها ما يُطلق عليه في الإعلام التقليدي "حارس البوابة" الذي ينقي المحتوى ليجعله مواتياً للعادات والتقاليد ويتأكد من صدقيته، وكذلك يحرص على أن يتوافق مع السياسة التحريرية "والقوانين".
ويضيف أنه "وبسبب افتقادها هذه الشروط، تحولت الـ’سوشيال ميديا‘ إلى وسيلة لنقل الإشاعات والتشهير وعرض المحتوى غير السليم وربما السام، بصورة كبيرة لأن ليس هناك رقيب إلا قواعد الشبكات الاجتماعية نفسها، فتحدد هي معايير ما ينبغي نشره وما يجب حذفه، مدعية محاربة الأخبار الكاذبة، ولكن للأسف يجري تجاوز هذه القواعد كثيراً بدليل انتشار خطاب الكراهية عبرها".
من يدفع فاتورة الخسائر؟
يبدو نموذج قضية الطفل ياسين الذي أشارت عائلته إلى أنها عانت لمدة تزيد على عام لتشهد قضيته تحركاً دافعاً، متوافقاً مع التساؤلات التي تطرح حول دور الـ"سوشيال ميديا" المزدوج، فنحن أمام طفل بالكاد بلغ السادسة يصدم عائلته باعترافه بتعرضه لاعتداء جنسي من قبل مسؤول في مدرسته اقترب من الـ80 سنة. إنها تفاصيل وملابسات مثالية لتحريك الرأي العام، لكن العائلة تكتمت للحفاظ على خصوصيتها وعلى أمان ابنها النفسي بعدما تعرض له، وهنا جاء دور مواقع التواصل الاجتماعي وبين يوم وليلة أصبح الطفل ياسين الذي شبه بعضهم ما حدث معه بأحداث مسلسل "لام شمسية" الذي عُرض خلال رمضان الماضي وناقش قضية التحرش بالأطفال "بيدوفيليا"، محور الحديث بين مشكك في روايته ورواية أسرته، وبين متعاطف يطالب بالعدالة الفورية، ومحاكمة جميع المتورطين والمتواطئين في المدرسة وليس المتهم الرئيس فقط، والحقيقة أن المتعاطفين كانوا أكثر عدداً وتأثيراً، وبالفعل عقدت محاكمة وصدر خلالها حكم ابتدائي بالسجن المؤبد للمتهم الأول والوحيد حتى الآن، لكن في خضم كل هذا كانت هناك أصوات تتساءل عن الأهل الذين يطالبون بحذف أية معلومات تدل على هويتهم وهوية صغيرهم، وعلى رغم امتنانهم للـ"سوشيال ميديا"، فإنهم أيضاً قلقون على مستقبل ابنهم إذا ما أصبح وجهه معروفاً، وكذلك طالبوا بعض الأشخاص بحذف التدوينات التي تكشف عن تفاصيل خاصة جداً من واقع ما جاء ضمن التحقيقات. إذاً من يحمي خصوصية الأطراف وكيف يمكن أن يستفيد المصريون من الأثر الإيجابي للزخم الذي تحدثه هذه الحملات عبر مواقع التواصل الاجتماعي من دون أن يحصدوا خسائر على جبهات أخرى؟
قوة جبارة وسلاح مزدوج
تقر هبة الطماوي، اختصاصية الإرشاد النفسي والتربوي والعلاقات الأسرية ومؤسسة مبادرة "أمان أطفال مصر" لرفع الوعي النفسي والتربوي لدى الأمهات، بأن هناك صعوبة كبيرة في السيطرة على تيارات المعلومات المتباينة على الـ"سوشيال ميديا"، لافتة إلى أن التأثيرات السلبية لمثل هذه القضايا التي تتحوّل إلى قضايا رأي عام بسبب انتشارها على "فيسبوك" و"تيك توك" وغيرهما، واردة سواء نفسياً أو مجتمعياً.
لكن الطماوي مع ذلك تحتفي بقدرة الـ"سوشيال ميديا" على المساعدة في أن تعود الأمور لمجراها الصحيح بالنسبة إلى أزمات عدة، ووصفت قوة هذه المنصات في مصر بأنها جبارة ومؤثرة للغاية في المجتمع، مشددة على أن الأمر ينطبق على مناطق كثيرة من العالم، حيث تؤثر مواقع التواصل الاجتماعي في تحويل القضايا السياسية والاقتصادية الراكدة إلى تيار هائج خلال وقت قياسي.
وتابعت رؤيتها للحال المصرية بالقول، "لدى المجتمع المصري خصوصية تتعلق بأنه أكثر عاطفية وأنه يتوحد مع القضايا التي يشعر فيها بأن طرفاً ما وقع عليه ظلم، فيسعى إلى إنصافه بما في يديه، وهي أمور نابعة من الشعور بالترابط، بالتالي تظهر هذه القوة بصورة متزايدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بخاصة حينما تكون هناك قضية إنسانية مثل قضية الطفل ياسين، فكان هناك خوف ومحبة ورغبة في إنصاف الأسرة".
وطالبت الطماوي بأن يكون هناك توازن في التناول ووعي كي لا يقع الباحث عن العدالة في ورطة تؤثر في مستقبله ونفسيته، والابتعاد من النبش وراء المعلومات الخاصة التي من المحتمل أن تجعل كثيرين يقلقون من اللجوء إلى الطرق الشرعية في سبيل البحث عن حقوقهم، فيخشون الكشف عن هويتهم، مما قد يلحق بهم أضراراً وعواقب سلبية.
الخائفون من المواجهة
من جهتها توضح عضو المجلس القومي للمرأة المحامية صفاء عبدالبديع أن قضية الطفل ياسين المثيرة للجدل شهدت اتهامات لأطراف كثيرة، وبعضهم تحفّظ على قرار النيابة بحفظ التحقيقات على مدى أشهر طويلة، إذ تشدد على أن قرار حفظ القضية حق مطلق للنيابة وحدها، منوهة إلى وجود طرق قانونية للاعتراض لإعادة فتح التحقيق، مما حدث ويحدث في كثير من القضايا، إذ إنها أمور متعلقة بالإجراءات والفنيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن كيف يكون تأثير الضجة التي تحدثها هذه القضايا في أصحاب المظلوميات المماثلة، هل يتشجعون أم على العكس يرتدعون ويترددون؟ تقول القانونية صفاء عبدالبديع "من صميم التجربة والواقع في حملات المجلس القومي للمرأة، هناك كثير من قضايا الاعتداء مسكوت عنها، ليس من المعتدي أو من المجتمع، إنما من قبل الطرف المجني عليه خوفاً من الأفكار السلبية السائدة وبينها الشعور بالعار لأنها قضايا حساسة وشائكة، فيتعرض المجني عليه سواء كان شاباً أو فتاة لدائرة من الضغوط والترهيب والذعر، في حين أن العكس يجب أن يحدث كي لا يتشجّع الجاني ويستمر في أفعاله، وعلى رغم النشاط القوي للمجلس والنتائج الإيجابية التي تحققت، فإن تغيير الوعي بصورة مؤثرة بحاجة إلى أعوام وأعوام".
محاولة انتحار والانتقام بالتشهير
وفي مطلع هذا العام شهدت محافظة الفيوم جنوب غربي العاصمة المصرية القاهرة، محاولة انتحار شاب معروف بعمله في مجال الهندسة التكنولوجية خلال طريقه إلى قاعة المحاكمة، إثر اتهامه بالابتزاز والتشهير والتهديد لفتاة كان يرغب في الارتباط بها. وبعضهم وجد أنه لم يتحمّل الضغوط والآراء السلبية التي ملأت الصفحات حول شخصيته وسلوكياته ونعته بـ"المضطرب"، في حين اعتبر آخرون أن أسرة الضحية سلكت كل الطرق القانونية التقليدية لكي ينال عقابه، لكنها فشلت على مدى خمسة أعوام، فلم يجدوا حلاً إلا الاستغاثة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والنتيجة أن المتهم أصبح في القبضة الأمنية، بينما هناك شق آخر يتعلق بالكشف عن هويته وتداول صوره على نطاق واسع، وهي أمور قد لا يتحمّلها نفسياً الجميع، بمن فيهم المتهمون في قضايا خطرة، فوجد النشطاء أنفسهم أمام أسئلة مربكة كثيرة، بينها كيف يمكن حماية جميع الأطراف في القضايا المتأزمة مثل تلك من دون التنازل عن العدالة؟ وهل بطء الإجراءات الأمنية له دور كبير في اتخاذ قرار باللجوء والاستغاثة بمواقع التواصل الاجتماعي؟ لأنه وبخلاف هذه القضية، في أوقات أخرى لا يكتفي بعضهم بأن تأخذ العدالة القانونية مجراها المعتاد، بل يمعنون في السب والقذف، مستندين إلى معلومات في بعض الأوقات تكون غير دقيقة، بل أيضاً قد يحدث التشهير بطرق لا يعاقب عليها القانون، كأن يكون بصورة غير مباشرة ومن خلال دوائر متباعدة، مما يصعب مهمة إثبات الجرم.
عدالة... ولكن!
وتؤكد عبدالبديع أن هناك قوانين معتادة يجري اللجوء إليها وتصبح فاعلة، لكن في حال كان السب والقذف والتشهير وتوجيه الاتهامات من دون دليل مثبت، أما في ما يتعلق بالتأثير في حياة الأفراد، فهي ترى صعوبة حقيقية في السيطرة والضبط، وتقول "قد يحدث توجيه غير نزيه في الآراء، وقد يجري اللجوء إلى اللجان الإلكترونية من أجل تشويه سمعة أشخاص أو مؤسسات، فبين يوم وليلة يمكن اختلاق قضية رأي عام تنتشر أصداؤها بسرعة الصاروخ، وتختلط فيها الأكاذيب بالحقائق، ولا يوجد سوى الاستمرار في التوعية بعدم الانسياق وراء ما يتردد من دون التحقق من مصادر موثوقة".
وخلال الفترة الماضية أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر أيضاً في سرعة تحريك قضايا بارزة أخرى بعدما جرى الضغط في شأنها، وبينها أزمة طبيبة كفر الدوار التي دأبت على صنع محتوى مصور ينتقد الحالات التي تتعرض لها، وتوجه لهم اتهامات أخلاقية، فعوقبت بالإيقاف عن العمل، كذلك حُكم على مدرب "كيك بوكسينغ" بالسجن 10 سنوات بعد إدانته بالاعتداء على فتيات خلال تدريبهن، كذلك فُتح تحقيق مع طبيب بيطري اتهم بقتل كلب من دون سبب، وغيرها من الأزمات، وكانت البداية في كل مرة مجرد تدوينة أو فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن كل هذه الإيجابيات لا تمنع بأية حال وجود أثر سلبي هنا أو هناك حتى على الأطراف غير المباشرين.
وحدة مراقبة معلوماتية
أستاذ الإعلام وعضو المجلس الأعلى للثقافة الدكتور فتحي شمس الدين يعتقد بأنه من الضروري تفعيل ما يسمى نظرية "المسؤولية الاجتماعية"، مشيداً بحملة "فكر قبل ما تشير" التي كانت تهدف إلى التدقيق في المحتوى قبل نشره وعدم الاعتماد على صفحات مجهولة للاستقاء منها. وأضاف "ينبغي أيضاً على كل دولة أن تضع معايير خاصة بها لاستخدام هذه الشبكات لأنها مفتوحة على العالم كله وتحمل محتويات وعادات وتقاليد قد لا تكون مناسبة، ومن المفيد هنا وضع وحدة للمراقبة المعلوماتية لا الأمنية للتأكد من ملاءمة المحتوى لطبيعة كل مجتمع".
شمس الدين أشار إلى أن شبكات التواصل الاجتماعي كبيئة رقمية بات لها دور سياسي واجتماعي وإعلامي بعد ثورات "الربيع العربي"، وزاد عدد مستخدميها للحصول على المعلومة، إذ تنتمي إلى ما يسمى "الإعلام الشبكي"، المختلف عن التقليدي وحتى الإلكتروني المعتاد، واختتم حديثه بالقول "من خلالها يمكن للمستخدم أن يصنع المادة بنفسه ويتحرر من النماذج التقليدية ومن ’حارس البوابة‘، فالمعلومة تنتقل للجمهور مباشرة من مصدر واحد من دون المرور على وسيلة لتنقيتها والتأكد منها".