ملخص
تخشى الأوساط التجارية في دمشق من أن يشكل التذبذب الحالي في سعر الليرة مؤشراً إلى دخولها مرحلة جديدة من التدهور، على غرار ما حدث خلال الأعوام السابقة، إذ سجلت خسائر قاسية أمام الدولار، محذرة من أن استمرار هذا الاتجاه قد يؤدي إلى زيادة في التضخم، مما سيفاقم من الأزمة المعيشية.
للمرة الأولى منذ أربعة أشهر تقريباً تجاوز سعر الدولار الأميركي في السوق الموازية السورية السعر المحدد من قبل مصرف سوريا المركزي 12 ألف ليرة سورية، بعدما سجلت العملة الأميركية 13 ألف ليرة مع بداية الأسبوع الجاري، قبل أن تتراجع إلى 12600 ليرة ثم إلى 11900 ليرة، إلا أنها عاودت الارتفاع إلى 12200 ليرة مع نهاية الأسبوع نفسه.
ويأتي هذا "التذبذب" في سعر الصرف وسط أزمة سيولة خانقة وطلب متزايد على الدولار، وتزامن تراجع سعر العملة المحلية مع موجة ارتفاع في الأسعار، بينما الأسواق تغص بالسلع المستوردة والمهربة.
وعلى رغم استعادة الليرة بعض خسائرها في اليومين الماضيين، فإن هناك توقعات بوصول الدولار إلى 15 ألف ليرة (سعر العملة قبل سقوط نظام بشار الأسد المخلوع).
إلى ذلك، تخشى الأوساط التجارية في دمشق من أن يكون التذبذب الحالي في سعر الليرة مؤشراً إلى دخولها مرحلة جديدة من التدهور، على غرار ما حدث خلال أعوام 2022 و2023 و2024، عندما سجلت خسائر قاسية أمام الدولار، إذ حذر متخصصون في حديثهم إلى "اندبندنت عربية" من أن استمرار هذا الاتجاه قد يؤدي إلى زيادة في التضخم، مما سيفاقم من الأزمة المعيشية التي يعانيها السوريون منذ أكثر من عقد، مشيرين إلى أن السعر الحقيقي للدولار حالياً هو 18 ألف ليرة وهو السعر الذي يتحوط بموجبه التجار والمنتجون.
في غضون ذلك، قالت جمعية حماية المستهلك في سوريا إن "الأسواق المحلية شهدت ارتفاعاً واضحاً في الأسعار وصل إلى 25 في المئة للسلع الغذائية"، مشيرة إلى أن ذلك سيشكل ضغطاً على القدرة الشرائية للمواطنين، خصوصاً مع انتشار الفقر ومحدودية الدخول.
من جهته أكد أمين سر الجمعية عبدالرزاق حبزة أن "تثبيت سعر الصرف يحتاج إلى شروط وظروف غير متوافرة في البلاد حالياً، خصوصاً أنها تعاني اقتصاداً ضعيفاً وهشاً وسط تراجع واضح في الإنتاج وسوء الموسم الزراعي نتيجة الجفاف الذي وصل إلى درجة القحط، مما أثر في الأمن الغذائي". ورجح أن "يكون موسم قمح هذا العام الأسوأ منذ سنوات طويلة إلى جانب تراجع التصدير"، قائلاً "الأخطر هو في تحول سوريا إلى سوق مستوردة لبضائع رخيصة وغير مراقبة تستنزف كميات كبيرة من القطع الأجنبي".
أسباب نفسية وسياسية وأمنية
التجار الدمشقيون أكدوا أن تثبيت السعر الرسمي لا يعكس واقع السوق، في حين يبدو هبوط الليرة السورية الحالي الأكبر من ناحية القيمة اليومية منذ أن أعاد مصرف سوريا المركزي إصدار نشراته الأسبوعية قبل نحو أربعة أشهر. وأشاروا إلى تأثر هذا الانخفاض بالتوترات الجيوسياسية والأمنية المتصاعدة في المنطقة التي تزيد الضغط على الليرة وسط غياب أدوات تدخل فاعلة لدى السلطات النقدية.
وقال رجل الأعمال السوري وعضو غرفة تجارة دمشق محمد حلاق، "لا توجد أية ظواهر أو أسباب اقتصادية جوهرية تدفع الدولار إلى الارتفاع مقابل العملة المحلية"، مرجعاً ذلك إلى أسباب نفسية وسياسية وأمنية، فضلاً عن الرغبة المستمرة لدى السوريين في الاكتناز (تخزين العملات الأجنبية)، وهذا ليس جديداً ويعود لأعوام طويلة خلت، اعتاد خلالها السوريون على ادخار أموالهم بعيداً من الجهاز المصرفي المحلي".
في الوقت نفسه قلل حلاق من تأثير موسم الحج ودوره في زيادة الطلب على الدولار، بالتالي ارتفاعه، قائلاً "بفضل لجوء الناس إلى الحفاظ على مدخراتهم بالدولار، فإن من سيؤدي فريضة الحج ستكون لديه العملة الأجنبية أو الدولار الأميركي، كذلك من يرغب في شراء سيارة أو يستورد سلعاً فلديه مدخراته". وأشار إلى أن السوريين تعلموا الدرس منذ وقت طويل وأصبح سلوكهم الادخاري جله بالدولار والذهب، موضحاً أن "كلها مخبأة تحت البلاطة"، مؤكداً أنه حتى خلال عهد فرع الخطيب الشهير (أحد أفرع الأمن التي كان يستدعى إليها المتهمون بالتعامل والمتاجرة بالدولار في عهد النظام السابق وفقاً لقانون تجريم التعامل بالدولار)، كان الاقتصاد السوري "مدولر" (التركيز على التعامل بالدولار بعيداً من العملة المحلية للبلاد) وكل شيء يسعر ويدفع بالدولار بصورة غير علنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد حلاق أن "استمرار المركزي في سياسة تقييد الكاش وحبس السيولة، ليس في مصلحة سعر الصرف ولا في مصلحة الاقتصاد"، قائلاً "حان الوقت للتفكير من خارج الصندوق واللجوء إلى سياسات داعمة للعمل والإنتاج وليست مقيدة له"، لافتاً إلى تأثير الاستيراد الكبير في سعر الصرف، إذ بلغت واردات سوريا منذ سقوط النظام وحتى نهاية أبريل (نيسان) الماضي نحو 8 مليارات دولار مقابل صادرات لا تتعدى الـ200 مليون دولار"، وأضاف أن "تلك القيمة ليست كبيرة، إذا ما قورنت بواردات سوريا قبل الحرب". وأردف أنه "إذا أخذنا عامل التضخم في الاعتبار فإن قيمة واردات سوريا يجب أن تكون حالياً 60 مليار دولار"، واصفاً القيمة بـ"الطبيعية"، وأوضح "لولا أن التصريف سيئ وقدرة الناس على الإنفاق أقل من الحدود الدنيا لكانت هذه القيمة هي الواقع الفعلي". ولفت إلى أن "الاستيراد سيتوسع بصورة كبيرة في المستقبل، خصوصاً عندما تبدأ عملية الإعمار ودخول الاستثمارات وتنفيذ المشاريع"، قائلاً "حينها سنتحدث عن أسعار صرف الليرة، فالأمر سيكون مختلفاً تماماً".
ورأى حلاق أن إعطاء الولايات المتحدة الضوء الأخضر لدولة قطر لتمويل رواتب موظفي القطاع العام في سوريا لمدة ثلاثة أشهر ستقدم خلالها 87 مليون دولار من شأنها أن تساعد في تحريك الأسواق الراكدة، من دون أن يكون لذلك تأثير يذكر في سعر صرف الليرة"، قائلاً "إذا لم يدخل البنك المركزي السوري السوق المحلية كبائع ومشترٍ، فلن تتحسن الأمور ولن يستقر وضع العملة".
عنق الزجاجة
من جهته رأى الأستاذ في كلية الاقتصاد والمدير السابق لمكتب الإحصاء في سوريا شفيق عربش أن ارتفاع سعر الصرف في السوق الموزاية قد لا يتوقف على المدى القريب، خصوصاً بعد أن تخطى السعر الرسمي، بل إنه يتجه نحو استعادة سعره ما قبل السقوط أي 15 ألف ليرة، وبعدها قد يكون الأمر ربما مفتوحاً على ارتفاعات متتالية. وأوضح أن "الحوالات الخارجية تراجعت خلال شهر رمضان وعيد الفطر الماضيين إلى 30 في المئة من حجمها المعتاد خلال الأعوام الماضية، ومع تراجع الإنتاج وتوقفه والميل الحاد إلى الاستيراد وعدم وصول الاستثمارات ونتيجة الظروف السياسة والأمنية بدأ الدولار بالارتفاع بينما ينخفض في العالم"، مؤكداً أن "الاقتصاد السوري غير مربوط بالاقتصاد العالمي ولا يزال معزولاً عنه". وأشار عربش إلى أن متوسط ارتفاع الأسعار في الأسواق السورية بلغ نحو 25 في المئة، منذ عيد الفطر بسبب ارتفاع الدولار، واصفاً ظاهرة تراجع سعر الدولار بعد سقوط النظام السابق بأنها "ظاهرة غير طبيعية"، خصوصاً أن الواقع الاقتصادي في أضعف حالاته، فالإنتاج متوقف وحوامل الطاقة لا تساعد على إطلاق عملية إنتاجية واستثمارية في البلاد، والبضائع الرخيصة والرديئة دخلت من كل حدب وصوب وأنهكت ما بقي من صناعات محلية الغذائية منها بصورة خاصة، وأيضاً الوعود لم تتحقق، فلا الرواتب ارتفعت ولم تتحسن الكهرباء كما يجب، وارتفعت أسعار الغاز والمشتقات النفطية نتيجة ارتفاع الدولار النفطي إلى 12 ألف ليرة. وتابع أن "الرواتب باتت مختنقة، إذ يقضي الموظف ساعات وأياماً للحصول عليها، ويضاف إلى كل ذلك تأثير الظروف الأمنية والسياسية واستمرار العقوبات، إذ تضع الولايات المتحدة الأميركية شروطاً فوق الشروط لرفعها"، قائلاً "اليوم كل الحياة الاقتصادية في عنق الزجاجة".
عربش لفت أيضاً إلى أن التحديات أمام الحكومة السورية كبيرة جداً وقد تكون فوق طاقتها، إذ هي في حاجة إلى ظروف أفضل للعمل وإلى الاستعانة بمزيد من الكفاءات عوضاً عن أصحاب "الولاءات"، حتى تتمكن من التعامل مع واقع اقتصادي هش جداً ويحتاج إلى معالجات عميقة وكبيرة، آملاً في أن تشهد الفترات المقبلة حالاً من الاستقرار السياسي والأمني كي تنطلق عملية التعافي الاقتصادي.
ارتفاع سعر الدولار إلى 15 ألف ليرة أمر حتمي
مستشار السيولة والنقد في وزارة الاقتصاد والصناعة جورج خزام كتب على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي منشوراً أكد ضمنه أن "ارتفاع سعر صرف الدولار بالحد الأدنى إلى 15 ألف ليرة هو أمر حتمي وهي النقطة التي انطلق منها بالانخفاض الوهمي بعد اليوم الأول لسقوط النظام السابق بسبب تجفيف الصرافين السيولة بالعملة المحلية". وقال "ليس من المنطق الاقتصادي الصحيح، أنه بعد الإغراق بالمستوردات التركية واستيراد السيارات وإغراق البلاد بملايين الدولارات المزورة مع توقف المصانع والورشات وانتشار البطالة بأن ينخفض سعر صرف الدولار إلى سبعة آلاف ليرة، بدلاً من الارتفاع إلى 19 ألف ليرة"، مضيفاً أن "هذا السعر الذي يعبر عن حقيقة القوة الشرائية لليرة السورية". وأردف أن "الصرافين في الداخل والخارج يشترون الدولار بأقل من سعره الحقيقي للحصول على أعلى ربح"، مستدركاً "لكن بالتدرج حتى لا يرتفع بسرعة من أجل استبدال كامل الأموال بالليرة التي احتبست لديهم بأقل سعر بعد أن وقع الانهيار الكبير للاقتصاد السوري، خصوصاً أنه لم يعُد هناك ما يستحق الاستمرار في تجفيف السيولة وجاء وقت تقاسم الأرباح بين المتآمرين على الاقتصاد السوري بعد أن حولوا الاقتصاد إلى خردة".