ملخص
"بريكست" غير المشهد السياسي البريطاني، مما أدى إلى تراجع هيمنة الحزبين التقليديين وصعود حزب "ريفورم" الذي يضغط على المحافظين، وهو ما يفتح الباب أمام إعادة تشكيل النظام الحزبي في بريطانيا بصورة غير مسبوقة.
إحدى السمات اللافتة الكثيرة لهذه الدورة الانتخابية اللافتة حقاً هي أننا نادراً ما شهدنا، سواء في المجالس والبلديات المختلفة أو في الانتخابات الفرعية التنافسية جداً في "رانكورن"، مواجهة تقليدية مباشرة بين حزبي العمال والمحافظين.
بدلاً من ذلك، كان المشهد الأكثر شيوعاً هو مواجهات بين "العمال" وحزب "ريفورم" (إصلاح المملكة المتحدة)، وأحياناً كان المحافظون يحاولون التنافس مع المتمردين التابعين لنايجل فاراج، وبعض المواجهات في جنوب وغرب إنجلترا بين أحزاب المحافظين والديمقراطيين الليبراليين والخضر.
إن فكرة المقعد البرلماني الهامشي الذي يتبادل احتلاله ممثلو حزبي العمال والمحافظين، التي كانت شائعة في السابق، تبدو غارقة في القدم بصورة واضحة اليوم. حتى إن عدداً أقل من الناس حافظوا على ولائهم للحزبين الرئيسين مقارنة بما فعلوه في الانتخابات العامة الأخيرة، عندما حصل الحزبان معاً على ما يزيد قليلاً على نصف الأصوات التي أُدلي بها، وكانت تلك نسبة منخفضة بصورة قياسية بالنسبة إلى الثنائي التقليدي المهيمن سياسياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا عاينا الوضع من منظور الاضطرابات الانتخابية في الأعوام الـ10 الماضية، يبدو الأمر وكأننا نشهد مرحلة أخرى من مراحل إعادة التنظيم التي شهدها عقد من الزمن، وقد أثارتها عملية "بريكست" واستفتاء عام 2016 حول عضوية الاتحاد الأوروبي. لقد بلغ الأمر حداً بات فيه مستقبل حزب المحافظين كقوة راسخة ومهيمنة في يمين السياسة البريطانية موضع شك، وبات بالإمكان النظر بجدية إلى فاراج – الذي أدى دوراً محورياً في زعزعة المشهد السياسي خلال ربع القرن الماضي – على أنه "زعيم المعارضة الحقيقي" ومرشح محتمل لرئاسة الوزراء.
كيف وصلنا إلى هنا؟ "هناك تغير كبير يلوح في الأفق" كما يقول فاراج، في معظم الأحيان.
في هذه الأوضاع الراهنة، تبدو قضية زعامة حزب المحافظين، الذي يعد أقدم وأنجح قوة في أي نظام سياسي ديمقراطي في تاريخ البشرية، غير ذات صلة تقريباً. والسبب هو أن بقاء كيمي بادينوك في زعامة "المحافظين" أو ذاك الشخص الذي قد يحل محلها، يعتبر قضية ثانوية في سياق هذه التغيرات المجتمعية الأكثر جوهرية.
بعبارة أخرى، يبدو حزب المحافظين محكوماً عليه بالفشل، كائناً من كان الشخص الذي يتولى زمام الأمور فيه، حتى ولو كان هناك أمل في تعافيه. ثمة مساحات شاسعة من البلاد كان بإمكان "المحافظين" الاعتماد عليها دوماً، مثل لينكولنشير، وستافوردشير، بحق الله، وهي الأخرى قد سقطت في أيدي أنصار فاراج.
في الانتخابات العامة، خسر المحافظون بعض دوائرهم الانتخابية لمصلحة حزب العمال والديمقراطيين الليبراليين، مثل كامبريدجشير، وأكسفوردشير، وديفون، وهم لن يستعيدوا أياً منها حالياً. من الصعب أن نرى أي قائد أو أي أجندة يمكن أن يظهرا ويكون من شأن أي منهما أن تسمح للمحافظين بذلك. وإن أي اتفاق مع فاراج، الذي لا يرى أي داع له، سيكون ببساطة استسلاماً لتمرد حزب "ريفورم".
هناك مؤشر آخر. تعرض المحافظون بهدوء، ولكن على نحو ينذر بالسوء، لإذلال أكبر بكثير في انتخابات دائرة رانكورن الفرعية مقارنة بما لقيه حزب العمال. في "الظروف العادية"، وفيما يمسك حزب العمال بالسلطة، كان متوقعاً فوز المحافظين بذلك المقعد. لكن ما حدث هو أن الناخبين الساخطين تجاهلوهم تماماً، وكادوا يخسرون تأمينهم الانتخابي [أي فشل الحزب في الحصول على نسبة الأصوات المطلوبة (خمسة في المئة) لاسترداد مبلغ التأمين الذي يدفعه المرشح أو الحزب عند الترشح للانتخابات].
في هذه الانتخابات المحلية وانتخابات المجالس، شهدنا نوبة أخرى من الموت البطيء لإنجلترا المحافظة، ولن تكون النوبة الأخيرة.
سياسياً كما اقتصادياً، لا يزال البريطانيون يحاولون تجاوز تبعات "بريكست"، وعملية التكيف المؤلمة لم تنته بعد. وكما حطم "بريكست" الاقتصاد البريطاني – وبهذا، بصورة ساخرة، وفر التربة الخصبة للمظالم والشكاوى التي استغلها حزب "ريفورم" ببراعة تحت شعار "بريطانيا محطمة"، فإنه بات اليوم يحطم النظام الحزبي نفسه. ويرزح الوضع التقليدي لحزب المحافظين، الذين كثيراً ما كان من المسلم به أنهم هم الحزب الطبيعي للحكم، تحت ضغط شديد.
إن الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي الذي أقره ديفيد كاميرون بغباء قبل عقد من الزمان، بفعل ضغوط مارسها نايجل فاراج نفسه هو وحزبه آنذاك، حزب "استقلال المملكة المتحدة"، قد أدى إلى حصول انقسام في حزب المحافظين، لم يتعاف منه أبداً.
لم يكن الحزب يتمتع بشعبية كبيرة في العقد الثاني من القرن الـ21، إذ اعتمد على الديمقراطيين الليبراليين من أجل تشكيل الائتلاف الحاكم، وبالكاد فاز بغالبية عام 2015، ثم خسرها عام 2017.
إن تراجع حزب المحافظين يعود إلى ما هو أبعد مما نعتقد، لكن استفتاء عام 2016 يمثل بداية إعادة التنظيم الحزبي التاريخية التي تتواصل حالياً. لقد أدى ذلك إلى تصدع التحالف الداخلي التقليدي للحزب من المعتدلين وأنصار تاتشر، بين المؤيدين لأوروبا والمشككين فيها، وبين الاشتراكيين الليبراليين والمحافظين، وهذا خطأ من صنع أيديهم.
كان قرار بوريس جونسون الساخر والمتعصب بالتنكر لتوجهه الليبرالي المألوف المؤيد لأوروبا للانضمام إلى حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، التي لم يكن فوزها متوقعاً على الإطلاق، هو العامل الحاسم في هذه النتيجة الكارثية. ففي ظل القيادات المتعاقبة لتيريزا ماي، وجونسون، وتراس، وسوناك، والآن بادينوك، تخلى الحزب عن عناصره المعتدلة المؤيدة للاتحاد الأوروبي، وعن الوسطية، وعن أجندته الخضراء. وأعلن الحرب على ناخبيه، وتحول حزباً يمينياً متشدداً، لكنه لم يتمكن قط من منافسة التيار الراديكالي الحقيقي بقيادة فاراج.
حقق جونسون فوزاً ساحقاً في انتخابات عام 2019، إذ هدم "الجدار الأحمر" الشهير ولكن من هذا المنظور، يبدو ذلك أشبه بانحراف، وفترة استراحة ممتعة مخادعة على طريق النسيان طويل الأمد.
لم يكن الناخبون المتعبون متحمسين كثيراً لحزب المحافظين، لكنهم صوتوا لإنهاء الجدل العقيم الذي لا ينتهي، وتحقيق ما وعدوا به: "إنجاز بريكست". كذلك فإنهم لم يعجبوا بالبديل الذي قدمه حزب العمال بقيادة كوربن. في تلك اللحظة، وعد بوريس جونسون بأن "بريكست" وسياسة "تقليص الفجوات ورفع مستوى المعيشة" سيغيران حياة الناس. بيد أنه فشل في الوفاء بتلك الوعود، لأسباب مبررة (تكلفة جائحة كوفيد) وأخرى غير مبررة (سوء الإدارة والكذب).
وعندما حلت الانتخابات العامة التالية في العام الماضي، نال المحافظون العقاب الذي يستحقون. والآن جاء دور حزب العمال لكي يتحمل مسؤولية فشله في تحقيق "التغيير" الذي تحدث عنه كثيراً. إن كل ما استطاعت وزير الدولة إيلي ريفز [وهي أيضاً رئيسة حزب العمال] الإشارة إليه بوصفه إنجازاً لحكومة حزب العمال في رانكورن هو إنشاء أربعة نوادٍ للإفطار المدرسي. وهذا أيضاً يفسر سبب نجاح فاراج.
قد يكون النظام الانتخابي البريطاني قد أبطأ من وتيرة إعادة التشكل الحزبي التي أعقبت "بريكست"، لكنه بالتأكيد لم يمنعها. ففي الفترة بين الحربين العالميتين، استغرق الأمر أكثر من عقد من الزمن حتى تمكن حزب العمال من أن يحل محل الليبراليين كالقوة "التقدمية" الرئيسة في مواجهة المحافظين – ولم تكن تلك عملية سلسة أو متسلسلة أو متوقعة، بل إن حزب العمال نفسه انقسم بشدة في ثلاثينيات القرن الـ20، قبل أن يتعافى ويشكل أول حكومة أكثرية له بعد الحرب العالمية الثانية. وبحلول ذلك الوقت، كان حزب الليبراليين قد أصبح شبه منقرض.
لا ينبغي لأحد أن يتكهن بأن يصبح "ريفورم" الحزب الأول أو حتى الثاني في مجلس العموم قريباً. ومن الممكن أن يتمكن المحافظون في النهاية من لملمة شتاتهم وتوحيد صفوفهم والتغلب على حزب فاراج، تماماً كما انتصر حزب العمال على تحالف الديمقراطي الاشتراكي-الليبرالي في ثمانينيات القرن الـ20. فقد كان ذلك التحالف بمثابة فجر كاذب لمحاولة إعادة تعديل النظام الحزبي التي كانت لها جذور أيضاً في المسألة الأوروبية، إذ كان ساسة من أحزاب مختلفة يعملون معاً في أعقاب استفتاء عام 1975 حول السوق الأوروبية المشتركة.
أما هذه المرة، فالتحولات الزلزالية تجري على اليمين، وحزب "ريفورم" هو الذي يدفع المحافظين تدريجاً إلى التراجع أكثر فأكثر. لا شيء في السياسة محتوم أو مقدر سلفاً، ولكن لا يتمتع أي حزب سياسي بحق إلهي في البقاء، ناهيك بالحكم.
© The Independent