Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"التابعة"... دراما جزائرية تفكك المعتقدات الغيبية في المخيال الشعبي

لقي المسلسل تفاعلاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي لناحية الإخراج والسيناريو والتمثيل

تميز سيناريو "التابعة" بحوارات قوية وواقعية تعكس طبيعة العلاقات الأسرية في مناطق قروية تحكمها العادات والتقاليد (مواقع التواصل)

ملخص

في مسلسل "التابعة" تعود "ياقوت" إلى قريتها الأم، مع ابنتها وزوجها "لزهر" من ذوي الحاجات الخاصة، كي تنتقم من "خلة" وعائلته، تلك العائلة التي تسببت في أذيِّتها وتدمير حياتها، عندما أبعدتها هي وأمها عن القرية لسنوات وفرَّقتها عن أختها "هدى" التي تركت في كنف والدها وزوجته الثانية "زرفة".

عرضت قناة "النهار" الجزائرية مسلسل "التابعة" في شهر مارس (آذار) الماضي، وحمل عنوانه اللافت دلالة صريحة على معتقدات غيبية تؤمن بها شريحة كبيرة من المجتمع الجزائري. ومن خلال هذا العمل قدم صناع الدراما عملاً فريداً من نوعه ومختلفاً عن النمط السائد في المسلسلات الجزائرية خلال السنوات الأخيرة.

تميز "التابعة" بـ"تيمات" جريئة وحساسة، إذ ناقش هيمنة الوعي الخرافي على تفكير شريحة واسعة من الناس، لا سيما في المجتمعات القروية، مثل الإيمان بالسحر الأسود، ولجوء البعض إلى المشعوذين أملاً في تغيير أقدارهم وتحسين حظوظهم وشراء الحب منهم أو الكراهية للتفرقة بين المتحابين، في مشهد عام مشبع بالخوف المرضي من العين والحسد، والتوجس من الجن والأرواح الخفية.

تستند فكرة "التابعة" في جوهرها إلى معتقد شائع في الوعي الشعبي المغاربي، فإذا أردنا شرح مفردة "التابعة" بدقة في بلدان شمال أفريقيا، فهي تعني كائناً غير مرئي، يملك قوى خفية وشريرة قادرة على تدمير حياة امرأة، فتقول لك إحداهن إنها تعاني التابعة حين تشعر بأنها مُتابعة وتتوالى عليها سلسلة من الخيبات والفشل والعراقيل، كحالات طلاق أو فسخ خطوبة، أو إجهاض متكرر، وما إلى ذلك، تفكر بأن ما يحدث معها غير معقول، وأن ما يلاحقها من نحس هو بسبب شخص فكر في أذيِّتها وسخَّر كائناً شريراً لعرقلة حياتها، لكن صفة التابعة في المسلسل، استخدمت في سياق مختلف يعود إلى البطلة "ياقوت" التي أدت دورها الممثلة "درصاف آية خرفي"، وهي شخصية كانت تنعت طوال الوقت بالتابعة بسبب تطيُّرهم منها وخوفهم من نحسها المزعوم.

"التابعة" في مواقع التواصل الاجتماعي

لقي مسلسل "التابعة" تفاعلاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أشاد النقاد والمشاهدون بعمل المخرج التونسي أنور الفقيه، كما أشادوا بقوة السيناريو الذي كتبته منال مسعودي، والأداء التمثيلي الجيد للممثلين، لا سيما من القديرة جميلة عراس التي لبست شخصية "زرفة" وتماهت معها لتؤدي أحد أقوى وأفضل أدوارها في دور صعب ومركب يتطلب خبرة كبيرة للإقناع بتناقضاته، إذ جسدت عراس سيدة ريفية جمعت بين الدهاء والسذاجة، والحنان والقسوة، والمنطق وسوء التدبير، شخصية تعددت وجوهها من أم حنون على ابنها إلى زوجة أب ترغم ربيبتها على الزواج حفاظاً على مصالح العائلة، وأخت صغرى فرطت في حقوقها وخضعت لسلطة الأخ الكبير ممتثلة لكل قراراته، بينما أدى الممثل لعمري كعوان شخصية "خلة"، كبير العائلة الذي استحوذ على الميراث وحرم ذويه اليتامى من حقوقهم، من دون أن يتوانى عن ممارسة طقوس السحر الأسود. وإلى جانب جميلة عراس ولعمري كعوان، أبدع الممثلون الشباب في أداء أدوارهم بإدارة ذكية من مخرج أبرز مواهبهم وقدم أفضل ما لديهم على رغم تفاوت الخبرة بين الممثلين، لنشاهد أداءً لافتاً لكل من درصاف آية خرفي وأحمد مداح واجتهاداً من إلياس مشاكرة ونوران حريد التي تعرف كمؤثرة في مواقع التواصل وأحلام قواسمي التي نجحت في إيصال صراعات الشخصية كزوجة مخدوعة وابنة محبة لأب مكروه.

تميز سيناريو "التابعة" بحوارات قوية وواقعية تعكس طبيعة العلاقات الأسرية في مناطق قروية تحكمها العادات والتقاليد والتقدير الذي يكنه الشباب لكبار العائلة، إذ قد يتخذون خيارات مصيرية كالزواج والانفصال والتقدم بشكوى أو التنازل عنها فقط طاعة وخضوعاً لقرارات الأب أو الأم. أما الموضوع الذي سبب جدلاً آخر في مواقع التواصل، فكان عرض كف الطفلة "صفاء"، إذ صورت الكاميرا كفها بخط مستقيم، مما يعني أنها "زهرية"، أي طفلة محظوظة ولدت بخط مستقيم في الكف، يغري السحرة باستغلاله في طقوس الشعوذة والعثور على الكنوز المدفونة والمخفية، مما سبب جدلاً في "فيسبوك" وأظهر تخوف المشاهدين على حياة الطفلة الممثلة نفسها، من أشخاص منحرفين ومضطربين، قد لا يستوعبون حيل المكياج والتصوير، وقد لا يفرقون بين الواقع والدراما، مما قد يجعلهم يفكرون في اختطافها وأذيِّتها.

قصة "التابعة"

 في مسلسل "التابعة" تعود "ياقوت" إلى قريتها الأم مع ابنتها وزوجها "لزهر" من ذوي الحاجات الخاصة، كي تنتقم من "خلة" وعائلته، تلك العائلة التي تسببت في أذيِّتها وتدمير حياتها، عندما أبعدتها هي وأمها عن القرية لسنوات وفرَّقتها عن أختها "هدى" التي تركت في كنف والدها وزوجته الثانية "زرفة". تعود الياقوت بعد وفاة أمها، وسط استغراب أهالي القرية من واقع ارتباطها برجل يعاني مرضاً عقلياً، لتواجه بقوة المشعوذ "خلة" وابنته "هجيرة" وأخته "زرفة". تفرض "ياقوت" نفسها في ذلك المجتمع القروي، بلا خوف من سحر المشعوذ والمشكلات التي قد تعترضها بسبب نبشها للماضي ومحاولاتها للصلح مع أختها كي تشرح لها أن هربها مع الوالدة لم يكن سهلاً ولا برغبة منها، ولكن الوالدة اضطرت إلى الرحيل لتنقذ ابنتها البكر من الفضيحة.

لا تقتصر "التابعة" في تيماتها على استحضار المعتقدات الغيبية، بل تناقش مواضيع مهمة من واقع المجتمع الريفي الجزائري، والعلاقات الأسرية التي كثيراً ما تفرقها نزاعات الميراث، واستحواذ الابن الأكبر أو الأقوى على حصص إخوته، فلا يكاد يخلو بيت من مثل هذه المشكلات، خصوصاً حقوق النساء المهضومة التي استحوذ عليها إخوتهن، فثمة دائماً نزاعات عائلية تستمر لعقود، بعضها لم تصل للقضاء ولم تفصل فيها محاكم، حكايات كثيرة عن ورثة فارقوا الحياة وهم على قطيعة مع إخوتهم بسبب الميراث.

يناقش المسلسل أيضاً قضية تهريب البنزين إلى تونس عبر الحدود، وخطيئة قتل الأخ "توفيق" لأخيه "ميلود" التي تذكرنا بأول جريمة ارتكبها الإنسان حين قتل قابيل شقيقه هابيل. كما لم يغفل المسلسل عن انتقاد سلوكيات شائعة في الواقع اليومي، كالنميمة والتنمر والعنف اللفظي والشماتة في المرض والمعايرة بالعقم والأمراض النفسية، وما إلى ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لهجة الشرق الجزائري

طغت لهجة الشرق الجزائري على السيناريو المكتوب، كما أن معظم الممثلين ينتمون إلى ولايات شرقية، بين سطيف وباتنة وعنابة وقسنطينة، مما سهل عليهم الحديث بلهجتهم الأم. فالجزائر على رغم مساحتها الشاسعة تتميز بلهجات مختلفة تماماً في مفرداتها وإيقاعها من منطقة إلى أخرى، من العاصمة التي ينطق فيها حرف القاف كما هو في العربية الفصحى إلى لهجة الغرب القريبة من اللهجة المغربية، ولهجة الشرق الجزائري القريبة بدورها من اللهجة التونسية، فضلاً عن لهجات المدن الوسطى وولاد نايل وسكان الجنوب، لذا من السهل تمييز اختلاف الألسنة واللهجات من جزائري إلى آخر، فكان توحيد لهجة الشرق في المسلسل نقطة قوة أسهمت في خلق انسجام بين الممثلين لأنها كثيراً ما اعتبرت نقطة ضعف في أعمال درامية كثيرة قدمت حوارات غير مقنعة، تشتت متابعة المشاهد لأسرة يتحدث فيها الأب باللهجة العاصمية والأم بالوهرانية والطفل بلهجة شرقية، هذا الحرص على توحيد لهجة الشرق الجزائري في سيناريو التابعة، منح صدقية مهمة للعمل وأداءً تمثيلياً قوياً وصادقاً وتلقائياً.

لم يكتفِ المخرج أنور الفقيه باعتماد لهجة الشرق الجزائري في "التابعة"، بل وظف كل ما يخص الثقافة المحلية للمنطقة من تراث وموسيقى وأزياء، مانحاً طابعاً خاصاً لمشروعه ومظهراً اهتماماً واضحاً بأدق التفاصيل، فحتى الموسيقى التصويرية المرافقة للمشاهد كانت موسيقى قصبة، تجعلك تتخيل وكأنك تسمعها من عرس بعيد، كما نفذ المخرج مشاهد حفل زفاف "هدى" بما يحاكي الاحتفالات في القرى الصغيرة المحافظة، حيث يتم فصل النساء عن الرجال، وتسمع أغاني شاوية وسطايفية، ويطلق البارود احتفالاً فيما يرتدي العريس البرنس للدخول على عروسه، ومن بين الأزياء اللافتة أيضاً كان الزي الشاوي الذي ارتدته الممثلة درصاف، وحلي الفضة الذي زين جبينها، إضافة إلى البرنس الوبري الذي لم يفارق كتفي الممثل لعمري كعوان في معظم حلقات المسلسل.

روج المخرج التونسي إذاً لثقافة السكان المحليين، بالتعاون مع السيناريست منال مسعودي التي نجحت في صياغة حوارات محكمة ومقنعة، وصفها الناس بأنها "تشبهنا وتشبه واقعنا الجزائري".
تنوعت أدوات مسعودي بين الصدمات المباشرة والإيحاء، كما استعانت بالأمثال الشعبية المتداولة على ألسنة الناس، خصوصاً كبار السن في المنطقة، فسمعنا "زرفة" على سبيل المثال، تعبر عن حزنها على رحيل ربيبتها بهذا المثل الشعبي: "سور الرمل لا تعليه، قد ما يعلى يجي النهار وين يريب ساسه، وولد الغير لا تربيه، كي يكبر يعرف ناسه".
لا يمكن اعتبار مسلسل "التابعة" مجرد عمل درامي ناجح فحسب، بل تجربة فنية عكست ثقافة الناس وأصالة المنطقة، دراما اقتربت من الجمهور بتخيل يحاكي الواقع يثبت مرة أخرى أن الانطلاق من التفاصيل المحلية للعمل قد يكون سر نجاحها.

اقرأ المزيد

المزيد من فنون