ملخص
في سيرته الذاتية "أمل"، كشف البابا فرنسيس عن جوانب من حياته وتقصيره، لكنه تجنب الخوض في تفاصيل الفضائح الكنسية والقضايا الشائكة، على رغم اعترافه بوجودها.
قبل أيام معدودة من مغادرة منصبه، اختار الرئيس الأميركي السابق جو بايدن أن يختتم ولايته ببادرة رمزية لافتة، إذ قلد البابا فرنسيس وسام الحرية الرئاسي الأميركي مع مرتبة الشرف، وهي المرة الأولى طوال فترة رئاسته التي منح فيها بايدن هذا الوسام المرموق بهذا التمييز. وجاء في حيثيات التكريم "ليس البابا فرنسيس كمن سبقوه. إنه، قبل كل شيء، بابا الشعب".
لم يأت هذا التوصيف من فراغ، بل أكدته بوضوح السيرة الذاتية التي نشرها البابا نفسه خلال يناير (كانون الثاني) الماضي تحت عنوان "أمل: السيرة الذاتية" Hope: The Autobiography، وهو عمل غير مسبوق في تاريخ الحبرية، إذ لم يقم أي بابا بتدوين سيرته الذاتية وهو لا يزال على رأس الكرسي الرسولي. فعلى سبيل المثال، صدرت مذكرات البابا يوحنا الثالث والعشرين "يوميات نفس" Journal of a Soul بعد وفاته عام 1963، أما كتاب "عبور عتبة الرجاء" Crossing the Threshold of Hope للبابا يوحنا بولس الثاني، فقد استند إلى أجوبة مكتوبة أعدها رداً على مقابلة ألغيت لاحقاً.
في هذا العمل الفريد، ينسج البابا فرنسيس خيوط سيرته مع تأملاته الشخصية في قضايا الإيمان والحب والفقر والمهاجرين ومكانة المرأة وحقوق المثليين والصراعات المحتدمة داخل الكنيسة الكاثوليكية بين التيار الليبرالي والمحافظين التقليديين.
بخلاف السير الذاتية المعتادة التي يكتبها السياسيون ونجوم السينما ومدربو كرة القدم، لم يكن بوسع البابا فرنسيس وضع عنوان فرعي لكتابه يقول "كنت على صواب طوال الوقت". بل على العكس، فقد أقر مراراً بأخطائه وتحدث بصراحة عن الأوقات العصيبة التي مر بها. ومع ذلك، فإن ما يثير الإحباط حقاً هو نزعته إلى الإيجاز المفرط حين يتعلق الأمر بتفاصيل تلك الإخفاقات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن، ولحسن الحظ، لم يخل الكتاب من لحظات كشف مدوية، من أبرزها تلك الحقيبة الضخمة التي سلمها له سلفه البابا بنديكتوس، والمليئة بوثائق تتعلق بفضائح شائكة، إلى جانب واقعة دراماتيكية كشف فيها أن أجهزة الاستخبارات البريطانية أنقذت حياته خلال زيارة له إلى العراق.
لكن إذا أردنا بداية فهم ما الذي جعل من فرنسيس شخصية مختلفة تماماً عن كل من سبقوه في سدة البابوية، فربما تجدر بنا العودة إلى خلفيته التي لا تخلو من سحر. في كتاب "أمل"، يستعيد البابا فصول بداياته حين كان فقط خورخي ماريو برغوليو، المولود عام 1936 في الأرجنتين، وسط عائلة كبيرة مهاجرة من أصول إيطالية. نشأ في كنف تقاليد المهاجرين، تنفس أجواء كرة القدم وعشق رقصة التانغو (تلك الرقصة التي يرى فيها "صلابة وعمقاً وشخصية وحواراً عاطفياً وغريزياً متجذراً في أعماق التاريخ").
بعد إنهاء دراسته في الكيمياء، التحق برغوليو برهبنة اليسوعيين، ثم سمي كاهناً، وسرعان ما تسلم قيادة الرهبنة في بلاده وهو في سن صغيرة نسبياً، إلى أن أصبح في نهاية المطاف الكاردينال رئيس أساقفة بوينس آيرس. وبحلول وقت كان يتهيأ فيه للتقاعد، باغت البابا بنديكتوس السادس عشر العالم سنة 2013 بإعلان استقالته – كان أول بابا يقدم على ذلك منذ القرن الـ15. عندها، توجه الكاردينال برغوليو إلى روما للمشاركة في المجمع المغلق الذي سيختار خليفة بنديكتوس، والباقي أحداث يعرفها الجميع.
لا يذكر الكتاب أن برغوليو حل في المرتبة الثانية خلال المجمع الذي انتخب فيه بنديكتوس السادس عشر عام 2005، لكنه يشير إلى أنه لم يتوقع قط أن يقع عليه الاختيار لقيادة الكنيسة الكاثوليكية التي تضم 1.4 مليار مؤمن، حتى إنه اشترى تذكرة عودة وترك جميع أمتعته في بوينس آيرس.
ربما اعتقد أن فرصته جاءت وولت. لكنه يروي لاحقاً تفاصيل انتخابه، وجولات التصويت الخمس التي استغرقتها العملية حتى بلغ المجمع غالبية الثلثين المطلوبة لارتقاء من ينتخب إلى ما يعرف بـ"عرش القديس بطرس".
نقرأ، بكلمات البابا نفسه، كيف شعر لحظة إدراكه أنه أصبح الحبر الأعظم... هدوء تام ويقين عميق بأنه لا يريد مظاهر البذخ التي تحيط بمنصب البابوية. ولم يرغب في ارتداء الحذاء الأحمر التقليدي، بل آثر حذاءه الأسود الطبي. أما السروال الأبيض، فاستبعده بلا تردد لأنه، بحسب تعبيره، سيجعله يبدو كأنه بائع مثلجات، فاختار سرواله الأسود المعتاد. ولم يغره السكن في الشقة البابوية داخل القصر الرسولي في الفاتيكان، بل فضل غرفة متواضعة في دار القديسة مارتا، المخصصة أصلاً للضيوف. ويكتب قائلاً "أنا سعيد في [دار] القديسة مارتا لأنني محاط بالناس".
ويستعيد زيارة البابا بنديكتوس له بعد أيام قليلة من انتخابه، إذ قدم له البابا الفخري صندوقاً أبيض كبيراً. وكثرت التكهنات حينها حول محتوى الصندوق، وظن بعض أنه يحوي معلومات عن فضائح مختلفة، بينما أفاد مصدر لصحافيي الفاتيكان بأنه مليء برسائل إلكترونية ومحتويات أخرى.
أما في كتابه "أمل"، فيروي فرنسيس أن بنديكتوس سلمه الصندوق قائلاً "كل شيء موجود هنا". وكتب البابا أن محتوى الصندوق تضمن "وثائق تتعلق بأصعب القضايا وأكثرها إيلاماً حالات اعتداء، وفساد، وصفقات مريبة، وتجاوزات". لكنه ترك القارئ معلقاً، إذ لم يفض بمزيد من التفاصيل حول ماهية تلك الفضائح.
ومن المؤكد أن من بين تلك الوثائق ما يتعلق بالكاردينال ثيودور مكاريك، الذي شغل خلال وقت من الأوقات منصب رئيس أساقفة واشنطن، وواجه اتهامات بسوء السلوك الجنسي تجاه شبان من طلاب الإكليريكية، ورفعت هذه الاتهامات إلى الفاتيكان أكثر من مرة. ومع ذلك، قال فرنسيس إنه لم يكن على علم بتجاوزاته قبل عام 2018، وهو العام الذي قدم فيه مكاريك استقالته، ثم جرد من الكهنوت عام 2019. غير أن البابا، لم يخصه في "أمل" إلا بإشارة عابرة، على رغم أن قضيته تعد من أضخم الفضائح التي عصفت بالكنيسة في العصر الحديث.
وتتضمن السيرة الذاتية أيضاً حكايات شخصية لم ترو بتفاصيل كافية. فعندما عين فرنسيس، في الـ36 فقط من عمره (رئيساً إقليمياً) للرهبنة اليسوعية في الأرجنتين، دخل لاحقاً في خلاف مع اليسوعيين. كان حينها رجلاً متشدداً، محافظاً، فانتهى به الأمر "منفياً" من قبل القيادة العالمية للرهبنة إلى مدينة كوردوبا، ثاني كبرى مدن الأرجنتين، إذ اقتصر دوره على الاستماع للاعترافات، من دون السماح له بإقامة القداس في كنيسة اليسوعيين هناك.
لكن بعد عامين من هذه "العقوبة"، عاد إلى بوينس آيرس وقد تغير تماماً. وأصبح أكثر مرونة وأكثر فهماً ورحمة. ومع ذلك، لم يفصح عن الأسباب التي أحدثت هذا التحول العميق في كوردوبا.
كما أنه لم يسرد بالتفصيل مصير اثنين من زملائه اليسوعيين، أورلاندو يوريو وفرانتس ياليكس، اللذين اعتقلهما المجلس العسكري الأرجنتيني واحتجزهما لنحو خمسة أشهر. ووجهت للبابا فرنسيس اتهامات بالتقصير في نجدتهما في مناسبات عدة، وهو يرد في كتابه قائلاً "لقد فعلت كل ما بوسعي"، من دون إيضاح ما الذي شمله هذا "الكل".
ومع ذلك، تتضح في النص صورة قاتمة للأرجنتين في تلك الحقبة، إذ تعرض أحد أساتذة البابا نفسه لانتهاكات من قبل الحكم العسكري. ويكشف فرنسيس أنه أخفى ذات مرة مجموعة كتبه الماركسية والراديكالية في مكتبة تابعة للرهبنة اليسوعية.
بالطبع، شكل العنف مصدر قلق دائماً لقادة العالم، وبالنسبة إلى البابا فإن تدابير الأمان المحيطة به تكون مشددة على الدوام، وبخاصة أن البابا يوحنا بولس الثاني نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال عام 1981.
كشف البابا فرنسيس أنه عام 2021 رصدت أجهزة الأمن البريطانية مؤامرة لاغتياله أثناء زيارة له إلى العراق. وأخبرت الاستخبارات البريطانية الشرطة العراقية أن امرأة تحمل متفجرات كانت في طريقها إلى الموصل وكانت تخطط لتفجير نفسها أثناء الزيارة البابوية. ويوضح "كانت هناك شاحنة تسير بسرعة ولديها الهدف نفسه"، ليبلغ لاحقاً بأنه تم التعامل مع كل من التهديدين.
وإضافة إلى تسليط الضوء على الأخطار التي تعرض لها فرنسيس -إذ زار عدداً من الأماكن الخطرة في حياته- فقد كشف هذه الحادثة عن لحظة مهمة من التعاون بين الفاتيكان والمملكة المتحدة. وكان هذا التعاون مختلفاً تماماً عن الفترات السابقة، إذ لم يتم التطرق في السيرة إلى الفترة التي كان فيها الكاردينال خورخي بيرغوليو من بوينس آيرس، إذ ترأس قداساً لإحياء الذكرى الـ13 لنهاية حرب الفوكلاند.
لقد حث بيرغوليو فرنسيس الناس المجتمعين حينها على "الدعاء من أجل الذين سقطوا، أبناء الوطن الذين خرجوا للدفاع عن الوطن، لاستعادة ما كان سلب منهم [من قبل البريطانيين]".
وكذلك لا يتطرق "أمل" إلى القلق الذي أثاره انتخاب برغوليو والذي دفع الحكومة البريطانية لإرسال سفير المملكة المتحدة إلى الفاتيكان لزيارة أمين سر البابا، والتأكيد أن جزر الفوكلاند -أو مالفيناس كما سماها البابا الأرجنتيني- هي جزر بريطانية.
وعلى رغم أن الرسالة بدت واضحة، فإن البابا فرنسيس لم يكن شخصاً دبلوماسياً دائماً، وهو ما يفسر سبب وجود بعض الرسائل المهمة التي وجهها إلى الإدارة السابقة للرئيس الأميركي دونالد ترمب، ولا سيما في شأن التغير المناخي وترحيل المهاجرين، ومدى الحاجة إلى الرحمة تجاه الفئات المهمشة والضعيفة.
كاثرين بيبينستر كاتبة متخصصة في الشؤون الدينية، وعملت سابقاً رئيسة تحرير مجلة "ذا تابلت" الأسبوعية الكاثوليكية.
© The Independent