ملخص
مع دخول الحرب في السودان عامها الثالث، أصبح المواطن العادي مصدراً رئيساً للأخبار بعد تراجع الصحافة التقليدية ضمن مناطق النزاع، إلا أن الخبراء يؤكدون أن صحافة المواطن لا يمكن أن تحل محل الإعلام التقليدي، نظراً إلى افتقار الإعلام الجديد الدقة والمصداقية، مما يتطلب التحقق المستمر من الأخبار.
منذ اندلاع الحرب الطاحنة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" قبل ثلاثة أعوام، لم يلتزم أطرافها قوانين الحرب الدولية، بل أصبح الصحافيون هدفاً سواء بالاعتقال أو التعذيب وأحياناً القتل، في حين تعرضت معظم المؤسسات الصحافية للتدمير والتخريب المتعمد، بالتالي فر معظم الصحافيين من مناطق النزاع بحثاً عن الأمان، مما أحدث فجوة إعلامية كبيرة وجعل المواطن العادي الذي لم يترك بيته ومنطقته ومدينته مصدراً للمعلومة من خلال بثه المتواصل للصور والفيديوهات وكل ما يدور على جبهات الحرب من عمليات عسكرية وانتهاكات وغيرها من أحداث، حتى أصبح مصدراً رئيساً للخبر تتناقله الوكالات والقنوات الإخبارية والمواقع الصحافية المختلفة.
فإلى أي مدى استطاعت صحافة المواطن (الإعلام الجديد) أن تسد فجوة غياب الصحافة التقليدية المحلية؟ وهل يمكن أن تحل محلها وأن تكون أكثر تأثيراً لدى المتلقي؟
الحلقة العميقة
عضو مجلس نقابة الصحافيين السودانيين خالد فتحي قال "بالفعل أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ذات أهمية كبيرة من ناحية تتبع الأخبار أياً كان نوعها، ليس في السودان فقط بل في جميع أنحاء العالم، حيث وصفها المتخصصون بالحلقة العميقة التي لديها قدرة على إظهار الحقائق وتعقبها وتوثق لها بصورة عميقة وسريعة، وهذا تطور طبيعي للإعلام، فإذا اعتبرنا مواقع التواصل الاجتماعي منصات للإعلام الجديد، وليست البديل لأنها ليست بديلة لمنصات الإعلام التقليدية، فيُعد ذلك من دون أدنى شك تطوراً طبيعياً نشأ في عالم الميديا".
وأضاف أن "في الماضي كان الصحافي مصدر المعلومات الوحيد، وكان الناس ينتظرون الصحف أو يشاهدون التلفزيون أو يستمعون إلى المذياع لمعرفة الخبر، لكن مع انتشار التكنولوجيا وتوسع مواقع التواصل الاجتماعي وانتشار المحتوى الرقمي، أصبح المواطن العادي يشارك في عملية الصحافة عبر الهواتف الذكية بصورة مباشرة، وسميت ’صحافة المواطن‘".
وتابع أن "المواطن الصحافي انتشر في السودان بسبب غياب المؤسسات الصحافية التقليدية ضمن مناطق كثيرة منذ تفجر الحرب، نتيجة لعوامل كثيرة أهمها انعدام القضاء القانوني الذي يمكّن الصحافة من تغطية الأحداث الساخنة، فطرفا النزاع لم يهتما بوجود صحافة تغطي الأحداث بصورة يومية، بل بات الصحافيون دائماً أهدافاً مشروعة، سواء عبر الإبعاد من مناطق النزاع أو الاعتقال والتشكيك فيهم والتضييق عليهم، مع خطورة وجود الصحافيين".
وقال فتحي "لا يمكن أن يكون توثيق الأحداث عبر الهاتف، وأن يكون بديلاً عن الصحافة التقليدية لأن الهاتف لا يستطيع أن يوثق الأحداث بطريقة متكاملة، فقد يقوم بتوثيق فوري سريع للحدث، لكن الصحافة التقليدية لديها القدرة على التحقق من المعلومات حتى الصحافة الأميركية اشتكت من التزييف العميق الذي يحدث في المشهد الصحافي القائم على البث عبر صحافة المواطن، بالتالي تأتي الحاجة إلى التحقق من كل ما ينشر من معلومات ومقاطع الفيديو، هل هو صحيح أم مفبرك؟ وهل هو حديث أم قديم؟ وهل أُعيد إنتاجه وتدويره؟".
أهمية التقصي
وأردف فتحي أن "كل هذه المسائل يجري التحقق منها عبر الصحافة التقليدية التي تتميز بأهمية التقصي بصورة دقيقة من المعلومات والتحليل العميق، فضلاً عن التزامها المعايير الأخلاقية والقانونية، مما يصعب تحقيقه عبر صحافة الهاتف التي غالباً ما تفتقر إلى الدقة والموضوعية".
وزاد أنه "في ظل هذه المفارقات الواضحة نجد أن الصحافة التقليدية هي الأكثر مهنية لأنها تتيح فهم الأحداث على نحو أعمق وأوضح، فضلاً عن أنها تعرض الحدث بكل جوانبه وتستعرض الرأي والرأي الآخر وآراء المحللين من مختلف توجهاتهم".
وقال "صحيح أن مقاطع الفيديو التي وثقت ما دار من قتال وانتهاكات في مناطق النزاع، بخاصة في ولاية الجزيرة والتي جرى تداولها بصورة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، تمثل شهادات حية وصادقة للأحداث، وهي معظمها التقطت بكاميرات مواطنين عاديين وتناقلتها وسائل الإعلام المختلفة، لكن هذا لا يجعلها بديلة عن التقارير الإعلامية التقليدية المحكومة بالرقابة والقيود الأخلاقية والقانونية، فعندما تُحصر أعداد الضحايا في المجازر، يعود ذلك لمصدر مستقل، وهو أمر مهم".
ويرى فتحي أن "الناس فقدوا ثقتهم بالإعلام التقليدي لأسباب عدة، من بينها الضغوط الاقتصادية والسياسية والأمنية، وهي غير متوافرة في الإعلام الجديد الذي من دون شك يكمل للمتلقي صورة الحدث، لكن هذا لا يعني أن صحافة المواطن تملك القدرة على ملء فراغ الصحافة التقليدية، فالأولى لديها مشكلات على رغم سرعة انتشارها ومواكبتها للأحداث تتمثل في افتقارها إلى المعايير المهنية والدقة المطلوبة والتحقق من الأخبار، فضلاً عن المهارة في تناول المادة وصياغتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأردف "بالتالي يظل الإعلام التقليدي منافساً قوياً في تناول الأحداث، ويعتبر حضوره مؤثراً في الساحة الصحافية، فيما يمكن وصف منصات الإعلام الجديد بأنها تقوم بالإمساك بطرف الخيط الذي تتعقبه الصحافة التقليدية".
إثبات الجرائم
من جانبها قالت المتخصصة في مجال الإعلام الإلكتروني نازك محمد "في نظري أن الإعلام الجديد غيّر مفهوم الإعلام ككل، وأصبح بديلاً لا يمكن إنكاره في توثيق ما يدور من أحداث، وشاهدنا ما أحدثه في السودان من توثيق لأحداث ثورة ديسمبر (كانون الأول) عام 2019، بخاصة أعمال العنف والقتل وغيرها من الانتهاكات، بل ساعد في سقوط حكم الرئيس السابق عمر البشير، وأيضاً قام بدور كبير في الحرب الدائرة حالياً بنقله تطوراتها على الأرض وخارجها بصورة لافتة وحية وسط غياب الصحافة المحلية".
وترى محمد أنه "من المؤكد أن صحافة المواطن أصبحت اليوم الأهم في نقل الأحداث بصورة سريعة وأقرب إلى الواقع من الإعلام التقليدي الذي كان دائماً تحت سيطرة مؤسسات معينة، لكن صحافة المواطن كسرت هذا الاحتكار، فالمواطن هو الذي يكتب وينقل ويوثق الأحداث بصورة مباشرة، بخاصة في مناطق الأزمات أو الحروب وأقرب دليل ما يحدث الآن في حرب السودان حيث أصبح المواطن المصدر الرئيس للمعلومة والصورة ومقاطع الفيديو وغيرها".
ونوهت إلى أن التكنولوجيا منحت صوتاً للمواطن العادي الذي تحول من متلقٍ كما كان في السابق، قبل ثورة الاتصالات، إلى مشارك ومتفاعل، وأحياناً صانع للمحتوى والحدث.
وأشارت نازك محمد إلى أنه "لولا الإعلام الجديد وأعني هواة الصحافة من المواطنين العاديين لما وثقت الانتهاكات والجرائم التي ارتكبت خلال الحرب من خلال نقل الصورة القاتمة والسوداوية لها إلى العالم، مما أدى إلى زيادة الضغط على أطرافها من أجل إيقافها من جهة، وزيادة مناصرة ضحاياها من جهة أخرى، إضافة إلى إسهامه مستقبلاً في إثبات تلك الجرائم والانتهاكات لدى الجهات العدلية المختصة".