ملخص
أثار قرار المحكمة البريطانية العليا الاعتراف بالمرأة صاحبة الجنس الأنثوي بيولوجياً فقط استياء المتحولين جنسياً، فخرجوا ضد الحكم والقضاة بتظاهرات ضمت عشرات الآلاف في مناطق مختلفة، وأثاروا الحديث مجدداً حول نفوذ هذه الفئة في المجتمع، وإلى أي مدى تغلغلت "أيديولوجيا تغيير الجنس" في المملكة المتحدة والغرب عموماً.
ملأ عشرات الآلاف الشوارع في مناطق بريطانية مختلفة أمس السبت احتجاجاً على قرار المحكمة العليا، حصر تعريف المرأة بمن ولدت بهذا الجنس وليس من اكتسبته بعد جراحة حولتها من ذكر إلى أنثى، ثم شرعت بعدها تطالب بحقوق النساء في العمل والبيت والرياضات والمستشفيات الأماكن العامة.
وقالت المحكمة إن قرارها لا يستهدف المتحولين جنسياً، لكن ثمة فارقاً بين المرأة في الولادة والمتحولة جنسياً يأخذه القانون بعين الاعتبار، وعندما تفجرت التظاهرات المعارضة للقرار أصبح القضاة متهمين بالعنصرية وأصحاب القضية التي صدر فيها الحكم مهددين بالقتل، لأنهم "قتلة حقوق يستحقون الموت دون رثاء".
وفي إحصاءات عام 2021 أكد أكثر من 260 ألف شخص في إنجلترا وويلز أن جنسهم اليوم يختلف عن الذي ولدوا به مما يعني أن 0.5 في المئة من السكان متحولون جنسياً، لكن مكتب "الإحصاء" خرج قبل أشهر ليقول إن الأرقام مبالغ فيها لأن أولئك الذين لا يتحدثون الإنجليزية كلغة أولى ربما فهموا السؤال خطأ، وهم يشكلون 30 في المئة من المشمولين في إحصاء من تتجاوز أعمارهم 16 سنة.
وبتحييد نسبة الـ 30 في المئة يصبح عدد المتحولين في إنجلترا وويلز ما يقارب 175 ألفاً، أما في اسكتلندا التي هي أس مشكلة اليوم مع هذه الفئة الجديدة في المجتمع والعالم، فيقدر عددهم وفق إحصاءات 2022 بنحو 0.5 في المئة أيضاً من السكان، أي ما يقارب 20 ألفاً، نصفهم تقريباً تراوح أعمارهم ما بين 16 و 24 سنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جذر الأزمة
وبدأت القصة عندما قررت حكومة ومحاكم أدنبرة منح المتحولات جنسياً حق الحماية التي تتمتع به النساء، فحملت منظمة تسمى "من أجل نساء اسكتلندا" القضية إلى المحكمة العليا في لندن لتثبيت تعريف المرأة الوارد في "قانون 2010" وحصره بمن ولدن مع هذا الجنس بيولوجياً وليس من تبدلن إليه عبر آلية جراحية، ولا يوجد ما يؤكد أن كل المتظاهرين ضد قرار المحكمة أمس هم من المتحولين، لكن بعض الشعارات التي رفعت في تلك الاحتجاجات والتهديدات التي وصلت إلى هواتف وبريد أعضاء منظمة "نساء من أجل اسكتلندا"، تعبر عن "غضب رجال" حرموا من التمتع بحقوق النساء، كما تقول مؤسسة المنظمة سوزان هيل.
ونادى المتظاهرون بحرق المحاكم ورددوا شعارات مثل "تباً للقضاة" و"أيدي القضاة ملطخة بالدم"، كما وضعوا أعلام المثلية الجنسية على تماثيل عدة من بينها تمثال رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ بريطانيا ونستون تشرشل، كما شوهوا تمثال من قادت حملة المطالبة بحق المرأة في التصويت عام 1919 ميليسنت فوسيت.
قرار المحكمة العليا وما تلاه من غضب ظهر في تظاهرات أمس، جدد الحديث حول أيديولوجيا التحول الجنسي التي حاصرت وحاربت كل من انتقدها وأثار التساؤلات حولها خلال الأعوام الماضية، مثل مؤلفة كتاب "هاري بوتر" جي كي رولينج، والرياضية مارتينا نافراتيلوفا، والأكاديمية البروفيسورة كاثلين ستوك، وإلى أين تمضي هذه الفئة في مطالبها ومساعي توسيع حضورها في المجتمع البريطاني وحتى حول العالم؟ فهي كما تصفها كبيرة مراسلي صحيفة "تلغراف" فيونا باركر "عقيدة يسارية تحول أفرادها إلى لوبيات ضغط لم يسلم كل من انتقدها".
كلفة باهظة
شكل قرار المحكمة العليا صفعة قوية للمتحولين لم يواجهوا مثلها منذ بداية الألفية الجديدة، فهو ليس فقط منع "ذكور أصبحوا إناثاً" من الوجود في حمامات ومراحيض النساء وغرف تغيير ملابسهن في نوادي الرياضة وأماكن العمل، وإنما وضع حدا لحوار بات الناس يخافون الخوض فيه في أي مكان خشية المسائلة القانونية، ففي عام 2021 طُردت البروفيسورة ستوك من وظيفتها في قسم الفلسفة بجامعة "ساسكس" بعدما قالت إن "اعتبار المتحولين إلى نساء نساء هو خيال وليس صحيحاً"، أما أيقونة التنس نافراتيلوفا فقد واجهت المصير ذاته عام 2019 لمجرد قولها إن "السماح للرجال المتحولين بالمشاركة في مسابقات النساء غش"، وكذلك الحال مع السباحة البريطانية السابقة شارون ديفيز التي كشفت عن أن الجمعيات الخيرية والمعلنين تخلوا عنها بعد إصرارها على عدم السماح للمتحولين جنسياً بالمنافسة في فئات النساء.
الإصرار على خطأ تجاهل الجنس البيولوجي عند الحديث عن المتحولين كان مكلفاً للساسة أيضاً، إذ واجهت النائبة السابقة في الحزب القومي الاسكتلندي جوانا تشيري كيه سي غضب لوبيات هذه الفئة عندما اعترضت على توجه حزبها الحاكم في أدنبرة لمساواة الرجال المتحولين إلى نساء مع الإناث في الولادة، وفي حزب العمال القائد للحكومة البريطانية استقالت السياسية روزي دافيلد بعد أن انتقدها رئيس الوزراء وزعيم الحزب كير ستارمر لقولها إن "النساء هن فقط من ولدن بهذا الجنس"، حتى إن دافيلد تعرضت للتهديد بالقتل مثل كاتبة "هاري بوتر" وأعضاء منظمة "نساء من أجل اسكتلندا" اللواتي رفعن نخب الفوز قضائياً قبل أيام.
اضطهاد المعارضين
وتشمل قائمة المضطهدين من قبل أيديولوجيا التحول الجنسي أكثر من الأسماء المذكورة أعلاه، فبينهم من أنصفه القضاء وأخريات ابتلعن قهرهن حتى صدر قرار المحكمة الخميس الماضي فشعروا بنوع من العدل، إذ قالت زعيمة حزب المحافظين المعارض كيمي بادنوخ إن "قرار المحكمة العليا شكل انتصاراً لجميع النساء اللواتي واجهن إساءة شخصية أو فقدن وظائفهن بسبب قولهن ما هو واضح".
وتوحي تظاهرات الأمس بأن فرحة النصر لن تدوم كثيراً ولن يقبل فرسان تلك العقيدة اليسارية بهزيمتهم بروح رياضية، والخشية الآن من محاولة الالتفاف على الحكم القضائي وتفريغه من محتواه مثلما يفعل مسؤولون في "المجلس الطبي العام" من خلال محاولة إلغاء شرط توضيح نوع الجنس في ملفات الأطباء المسجلين فيه كي يصعب على المريضات طلب تلقي الرعاية الصحية من الطبيبات، فلا يوجد في بريطانيا ما يتيح للمريضات قانونياً طلب الرعاية من الطبيبات، إلا أن مؤسسات الصحة لم تكن تمانع هذا طالما قبلت المريضة بالانتظار إلى حين توافر الطبيبة أو الممرضة المتخصصة، ووعدّ حزب المحافظين بتحويل ذلك الطلب إلى حق محصن بقانون وتشريع إذا فاز في الانتخابات العامة الأخيرة، ولكنه خسر.
ومعارك لوبيات التحول الجنسي التي يتوقع لها أن تحتد بعد قرار المحكمة بدأت في بريطانيا منذ ستينيات القرن الماضي، واضطرت حكومات إلى إصدار تشريعات تحمي المتحولين وتمهد الطريق أمامهم لمزيد من النفوذ، ولعل قانون "الاعتراف بالجنس" الذي أصدرته حكومة توني بلير العمالية عام 2004 يشكل أكبر انتصارات هذه الفئة، وقد جاء على خلفية خسارة المملكة المتحدة "قضية غودوين عام 2002.
وكريستين غودوين هي بريطانية ولدت عام 1937 وتقدمت إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في الـ 11 من يوليو (تموز) 2002 بقضية قالت فيها إنها "تعرضت للتحرش والتمييز في العمل بعد تحولها، كما أجبرتها الدولة على الاستمرار بدفع تأمين المعاش التقاعدي حتى سن 65 بسبب طبيعتها الأصلية كرجل، فحكمت المحكمة الأوروبية لمصلحتها وقالت إن التشريع في المملكة المتحدة لا يحمي المتحولين جنسياً".
تاريخ متجدد
خسارة لندن لقضية "غودوين" أدت إلى إصدار قانون الاعتراف بالجنس عام 2004، فمنحت الحكومة المتحولين جنسياً اعترافاً قانونياً كاملاً بجنسهم، وسمحت لهم بالحصول على شهادات ميلاد جديدة، وبدلاً من رفض طلباتهم أو فصلهم من العمل بدأ الاعتراف بهويتهم الشخصية الجديدة، وترسخ هذا النصر بصدور "قانون المساواة" عام 2010 الذي حظر التمييز في مكان العمل والمجتمع على أساس تغيير الجنس، ولو حكمت المحكمة العليا لمصلحة المتحولين جنسياً عام 2025 لرأينا التاريخ يعيد نفسه، وربما وجدنا الحكومة العمالية بقيادة ستارمر مجبرة على إصدار تشريع يلغي تقسيم الحمامات وغرف تبديل الملابس بين الذكور والإناث، ويمنع تخصيص البطولات الرياضية للإناث بمفردهم أو للرجال وحدهم دون النساء.
وبصورة أو أخرى أنقذ القضاء البريطاني حكومة ستارمر من أزمة حقيقية وأثبط قلقاً كبر مثل كرة الثلج داخل الأوساط السياسية خلال الأشهر الأخيرة، وما قد يشد أزر الدولة أكثر في المعارك المقبلة مع لوبيات التحول الجنسي هي تلك المواجهة التي يخوضها ضدهم الرئيس دونالد ترمب داخل الولايات المتحدة، وجملة القرارات التي يصدرها لتثبيت الاعتراف بالذكور والإناث على أساس الجنس البيولوجي وحده دون سواه.
وما يحدث في أميركا يشجع "المحافظين" في جميع الأحزاب والتيارات السياسية في الغرب على رفع الصوت أمام أيديولوجيا التحول الجنسي، وحتى انتهاء ولاية ترمب الثانية بعد أربعة أعوام ربما نشهد معارك كبيرة بين الطرفين باتجاه حسم جدال يستعر في العالم الأول منذ عقود، وفحواه باختصار إن كان هناك فعلاً أشخاص لا يدركون حقيقة جنسهم، أم أنها كما تقول مؤلفة كتاب "إمبراطورية المتحولين جنسياً" جانيس ريموند "أيديولوجية مصطنعة انبثقت من بيولوجيا رجعية تدافع في أحدث نسخها عن رجال يدعون امتلاك عقول وأعضاء ذكرية أنثوية، فهي إذا فكرة فاسدة وفلسفة بلا ضمير".