ملخص
كما هو متوقع في عمليات التراشق العنكبوتي ذاتية الاشتعال سريعة التصاعد، تفاقمت حدة التغريدات والتدوينات المتراشقة، التي مثلت أرضاً خصبة لـ"الطرف الثالث" الجاهز دائماً للانقضاض على فرص إثارة الفتنة الاستثمارية التي لا تقدر بثمن في ظل طبيعة العلاقات بين مصر والسعودية، إنه الطرف الذي يسميه البعض "مقاولو الفتن الرقمية"، على غرار "مقاولي الحروب".
تغريدة تثير حفيظة، تتبعها تدوينة تؤدي إلى حريقة، وكلتاهما تحرك كل من في نفسه مشاعر مكتومة أو رغبات مكبوتة، إضافة إلى تنشيط عمل اللجان والكتائب والمكاتب المخصصة لإشعال الحرائق الافتراضية والإبقاء عليها مضطرمة أطول فترة ممكنة، وحين تنطفئ يعود كل إلى عمله وحياته، وذلك في انتظار تغريدة جديدة تتبعها تدوينة تؤدي إلى حريقة.
إنها دورة حياة الفقاعات الرقمية التراشقية، وهي سمة من سمات الآثار الجانبية للتمكين الشعبي الجبار الذي أتاحه عالم المنصات الرقمية، لا سيما تلك التي تعتمد على التواصل الاجتماعي، وفي قول آخر التناحر الافتراضي والتراشق الشعبي الذي يؤكد متخصصون أن جزءاً معتبراً منه موجه ومدبر ومخطط ويلقى دعماً وتوجيهاً، وكذلك مباركة وتمويلاً من "أطراف ثالثة"، منها أنظمة أو جماعات ومجموعات، وكذلك أفراد بعضهم مجهول وبعض آخر معروف.
فقاعة تراشقية
بين الحين والآخر تتفجر بالونات تراشق بين مستخدمين من جنسيات مختلفة لـ"السوشيال ميديا"، ويطلق عليها خبراء "التنمر السياسي"، منها ما يتحول تلقائياً إلى حروب لفظية ومعارك تدوينية وتغريدية، ومنها ما يتلقفه محترفو حرائق الـ"سوشيال ميديا" لأغراض سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، فيعملون على تحويلها إلى حرب شعواء.
على مدى الأيام القليلة الماضية تفجّرت فقاعة تراشقية وصفتها تقارير إعلامية بأنها "تراشقات مصرية - سعودية"، لكنها في واقع الأمر متعددة الجنسيات، وإن بدت في نهاية الأمر "مصرية - سعودية".
بدأت المسألة هذه المرة بتبادل تغريدي على الأثير بين الداعية الإماراتي وسيم يوسف، الذي كتب تغريدة يمدح فيها مصر، وهو المعروف بالتغريد الدائم الداعم والمؤيد لمصر، ورد الأمير السعودي عبدالرحمن بن مساعد بتغريدة طويلة، بدأها باستحقاق مصر للمدح والثناء، وتطرق إلى ما جرى بعد ذلك من رد على التغريدة من مستخدم "من السعودية"، ويبدو من رده أنه لا يحمل مشاعر ودية لمصر، مما دفع الداعية (الذي لم يذكر اسمه) إلى الرد على هذا المستخدم بعبارات مدافعة عن مصر، ويدخل مصريون على الخط منضمين للدفاع عن مصر تجاه ما بدر من "المستخدم"، ومنهم من "أساء" إلى السعودية، مما دفع سعوديين إلى الرد المضاد، واستمرت كرة الثلج في الدوران والاتساع والتدحرج.
من جهة أخرى نبه الأمير عبدالرحمن بن مساعد إلى حقيقة مهمة ويغفلها أو لا يعلمها كثر على أثير الـ"سوشيال ميديا"، ألا وهي وضع علم دولة بعينها أو الإقامة فيها لا يعني أن المستخدم يحمل جنسية هذه الدولة أو يمثلها، وذلك في إطار ذكر احتمال ألا يكون المستخدم "السعودي" الذي رد على تغريدة الداعية الإماراتي ويضع علم السعودية في "بروفايله"، سعودياً بالضرورة، إضافة إلى أنها لا تمثل الرأي العام السعودي تجاه مصر.
لكن ما جرى هو أن الداعية وسيم يوسف رد على التغريدة التوضيحية بأخرى تراوح محتواها بين الدفاع عن ثنائه على مصر وتوجيه انتقادات حادة للأمير بن مساعد، إذ أكد أنه سيواصل مدحه لمصر "التي علمته القرآن واللغة العربية"، وموجهاً انتقادات حادة لبن مساعد.
وكما هو متوقع في عمليات التراشق العنكبوتي الذاتية الاشتعال السريعة التصاعد، تفاقمت حدة التغريدات والتدوينات المتراشقة، التي مثلت أرضاً خصبة لـ"الطرف الثالث" الجاهز دائماً للانقضاض على فرص إثارة الفتنة الاستثمارية التي لا تقدر بثمن في ظل طبيعة العلاقات بين مصر والسعودية، إنه الطرف الذي يسميه بعضهم "مقاولو الفتن الرقمية"، على غرار "مقاولي الحروب".
هذه التراشقات التي تدعي الانتماء إلى السعودية ومصر، أثارت تساؤلات حول مدى تمثيلها الواقع، ورغم ما أحدثته هذه السجالات من ضجيج، فإن محللين يرون أن هذه الظاهرة الرقمية لا تعكس بأي حال من الأحوال عمق العلاقات بين الدولتين، بل تعبر عن سلوكيات فردية وموقتة وغالباً ما تدار من أطراف غير معروفة تسعى إلى تأجيج الانقسام.
يقول الأكاديمي المتخصص في الإعلام محمد الحيزان لـ"اندبندنت عربية" إن حالات التراشق الإعلامي التي تحدث بين الأفراد والجماعات عبر شبكات التواصل الاجتماعي "يجب أن تبقى محصورة في إطارها المحدود، ولا ينبغي أن ينظر إليها كمؤشر إلى وجود خلاف بين الكيانات الكبرى مثل الشعوب أو الدول"، مشدداً على أنها تصنف ضمن الأحكام العامة الخاطئة والمضرة، التي يفترض تجاهلها وعدم التفاعل معها إطلاقاً.
تصرفات غير مسؤولة
ويضيف، "ما حدث أو قد يحدث من حين لآخر من تصرفات غير مسؤولة على المنصات الرقمية، مثل التراشق بين بعض المستخدمين حول العلاقة بين السعودية مصر، يجب ألا يعطى أكبر من حجمه، بخاصة إذا كانت هذه المشاحنات صادرة عن حسابات مجهولة لا يعرف انتماؤها الحقيقي"، مؤكداً أن مثل هذه الحالات، رغم لفتها الانتباه، "لا ترقى إلى مستوى الظواهر التي تستوجب التحقق أو تستدعي تسليط الضوء، بل يجب تجاهلها حتى لا تُسهم في تضخيمها وإيهام الرأي العام بوجود ما لا وجود له أصلاً".
وشدد الحيزان على أن عوامل عدة تؤكد وجوب تجاوز هذه السجالات، من بينها فقدان شبكات التواصل لقيم الاتصال الأساسية، مثل الدقة والموضوعية، إضافة إلى أواصر العلاقة المتينة والتاريخية بين السعودية ومصر، وطبيعتها الإيجابية العميقة، التي تظهر أن البلدين متحدان في الجذور والمصير.
ووصف الأكاديمي السعودي إثارة المعلومات المجهولة المصدر ذات الأهداف الكيدية بأنها تشبه "تسليط الضوء على بقعة صغيرة جداً في ثوب ناصع وجميل، مع أن إزالتها يسيرة"، معتبراً ذلك نوعاً من "الاستقراء الناقص الذي لا يعتد به". ومؤكداً أن العلاقة بين السعودية ومصر، سواء على مستوى القيادات أو المؤسسات أو السواد الأعظم من الشعبين، أعمق من أن تمس أو يقدح فيها أحد، وأن كل المؤشرات والشواهد تؤكد هذا التلاحم الذي لا تنال منه فوضى المنصات.
ويؤكد الحيزان أن مثل هذه السلوكيات من الأسباب التي دفعت إلى نشأة البحوث العلمية، التي تهدف إلى التحقق من صدقية الانطباعات وتفنيد الإشاعات والمغالطات، لكنه أوضح أن اللجوء إلى الأدوات البحثية "لا يصح أن يتم إلا حين تكون الافتراضات مدعومة بأدلة قوية تبرر اختبارها للوصول إلى أحكام دقيقة".
من جانبه يعتبر الكاتب الصحافي المتخصص في الشؤون العربية أسامة عجاج، لـ"اندبندنت عربية"، أن محاولات الوقيعة الرقمية وغير الرقمية بين مصر والسعودية "ليست جديدة ومتوقعة ومتكررة"، مشيراً إلى أن "العلاقات بين القاهرة والرياض أكبر من أي تويتة، والتاريخ والجغرافيا كفيلان بالرد على كل هذه المحاولات والتغريدات والتدوينات، هذه المرة وكل مرة".
واستعرض عجاج المسار المعاصر للعلاقات بين البلدين على مدى نصف القرن الماضي، وعلى رأسها مواقف الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز آل سعود الداعم لمصر بعد حرب يونيو (حزيران) عام 1967، وفي حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، وموقف مصر الداعم للسعودية عقب أحداث الحرم المكي من قبل حجاج إيرانيين عام 1987، وموقف الرئيس المصري السابق الراحل محمد حسني مبارك في أغسطس (آب) عام 1990، وقت غزو العراق الكويت، وتعرض الأمن القومي السعودي للخطر، وأُرسل نحو 34 ألف مقاتل مصري كانوا على رأس القوة الدفاعية في منطقة حفر الباطن للدفاع عن حدود السعودية ضد أي هجوم عراقي من الكويت.
ومضى عجاج قدماً في استعراض طبيعة وتفاصيل العلاقة بين البلدين في الأعوام الأخيرة، التي تعكس ماهيتها غير القابلة للتأثر بما يفعله بعضهم على الـ"سوشيال ميديا"، فذكر الدور الكبير الذي لعبته السعودية في أعقاب التظاهرات الشعبية التي شهدتها مصر في الـ30 يونيو 2013، التي طالبت بإنهاء حكم جماعة "الإخوان المسلمين" لمصر، موقف الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود الداعم لإرادة المصريين، إضافة إلى ما سيذكره التاريخ لوزير الخارجية السعودية الراحل الأمير سعود الفيصل الذي بذل جهوداً مضنية منها سفره إلى كثير من الدول الأوروبية لإيصال رسالة مهمة قوامها أن ما حدث في مصر عام 2013 اختيار شعبي دعمه الجيش.
وتحدث عجاج عن العلاقات التي شهدت نشاطاً وحراكاً "غير مسبوقين" في الأشهر القليلة الماضية، وتجسدت في زيارة رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي العام الماضي، وتأسيس "مجلس التنسيق الأعلى المصري - السعودي"، مؤكداً أن "ما يجمع مصر والسعودية أعظم وأعمق وأبقى من أي تدخلات على شبكات التواصل الاجتماعي من أي طرف كان"، منوهاً بأن "كثيراً من هذه الأطراف تكون جهات تسعى إلى محاولات الوقيعة بين البلدين اللذين تجاوزا الأهمية الاستراتيجية والقوة السياسية والعلاقات الاقتصادية بكثير".
وأضاف أن "هذه الجهات تحاول فك الارتباط العضوي بين البلدين، وهي محاولات نراها تتكرر كثيراً، لكن الرهان يبقى على قيادة كل من مصر والسعودية الواعيتين تماماً بمحورية هذه العلاقة، مع العلم أن طبيعة التطورات في المنطقة تسمح بوجود تباين، ولن أقول خلافاً، بين نظرة البلدين لها"، مشيراً إلى أن قيادة البلدين قادرة على تجاوز التباين بالمشاورات، لا سيما أنهما تمتلكان القدرة السريعة والحرص الدائم على الحفاظ على خصوصية علاقتهما العميقة، سواء على مستوى القيادة أو المسؤولين، وأخيراً وليس آخراً على مستوى الشعبين".
ويقترح الكاتب الصحافي أن تبادر النخب والمثقفون العرب، تحديداً في مصر والسعودية، إلى العمل على مزيد من التواصل والاتفاق على تسليط الضوء باستمرار على معالم وأمارات العلاقات بين البلدين، بشكل يتحول إلى نشاط اعتيادي، لا حملة موقتة للرد على تراشق بعينه، "لا سيما أن مندسين ومتربصين ينتهزون مثل هذه الفرص للنفخ في نيران التغريدات والتدوينات على أمل تحويلها إلى حرائق تدوم آثارها".
حماسة غير منضبطة
ويدق الأكاديمي بكلية الاتصال والإعلام في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، عبدالله مقبول في حديثه مع "اندبندنت عربية" على وتر وحدة الجذور والمصير، قائلاً إن العلاقة بين السعودية ومصر "راسخة ومتجذرة"، بل تزيدها الأعوام تدفقاً وعمقاً، وعلى رغم ما قد يطرأ من تراشق رقمي بين بعض الحسابات التي تدعي الانتماء لأحد البلدين، فإن اللافت في رأيه هو امتناع الحسابات الموثوقة وذات المكانة عن الانزلاق في هذا المستنقع، بل إن كثيراً منها سارع إلى تهدئة الموقف وبث رسائل الوعي والتلاحم.
وأضاف مقبول أن شبكات التواصل الاجتماعي، على اتساعها، باتت أرضاً خصبة للتراشق والتأويلات المضللة، وأن الخطورة تكمن في ما تفرزه هذه المنصات من محتوى يقلل من الصدقية ويشوه الحقيقة، فينجرف خلفه كثير من الناس، مدفوعين بحماسة غير منضبطة إلى ممارسات سلبية قد تفضي إلى نتائج مؤسفة بين بعض الصفحات، لافتاً إلى أن ما رصد أخيراً من تفاعلات حادة على منصة "إكس" التي تزعم الانتماء إلى مصر والسعودية يكشف عن ظاهرة رقمية تتطلب التوقف والتأمل.
ويؤكد الأكاديمي السعودي أن المسألة بدأت بتداول بعض الحسابات الفردية - غير الرسمية أو الموثقة - لمقاطع فيديو تظهر سلوكيات خاطئة من بعض المعتمرين المصريين داخل الحرمين الشريفين، ومع تداولها على نطاق واسع، اتسعت دوائر التفاعل على طريقة "كرة الثلج"، إذ تناقلها المتابعون من دون تحقق، ثم انتقلت إلى مرحلة التعليق والتأويل، فانقسمت التغريدات إلى طرفين أحدهما مدافع والآخر مهاجم.
وتابع مقبول أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تطور إلى ما هو أخطر، إذ قامت بعض الحسابات بإنشاء ما يعرف بـ"المجتمعات الخاصة" ضمن خاصية "مجتمعات X"، لتبادل المقاطع المسيئة أو تقديم محتويات عادية ضمن سياق مشحون بالتحريض، وبعض هذه الحسابات "تبنت سلوكاً رقمياً منظماً يستهدف تأجيج الكراهية" من خلال ما يعرف بـ"الشبكات العنقودية"، إذ "يدار الخطاب بطريقة ممنهجة لإحداث أكبر قدر من التصعيد".
ولفت الأكاديمي السعودي إلى أن التحليل الدقيق لعدد من الحسابات النشطة في هذا التراشق الرقمي أظهر أن بعضها "لا ينتمي فعلياً لأي من الشعبين، إنما تنشط من خارج النطاق الجغرافي والثقافي للسعودية ومصر، في محاولة لإشعال نار الفتنة وترك الآخرين يكتوون بها".
وفي مواجهة هذه الحملات الرقمية المضللة، شدد على ضرورة انتباه جمهور المنصات إلى حقيقة أن كثيراً من الحسابات "الدخيلة" تسعى إلى هدم المودة ونسف روابط الأخوة، وأنها غالباً ما تهاجم من يحاول تهدئة الوضع أو تصحيح المفاهيم، محذراً من الانخداع بالحسابات التي تتغذى على الكراهية، وتنتج محتوى يومياً يبدو في ظاهره تعبيراً عن الانتماء والمحبة، لكنه في حقيقته يهدف إلى الإثارة والتفاعل، ولو على حساب العلاقة بين شعبين تجمعهما روابط تاريخية عميقة، مشيراً إلى أن المقاطع المتداولة عبر شبكات التواصل قد تكون مجتزأة من سياقها، أو تمثل جزءاً من الحقيقة لا حقيقتها الكاملة، مما يجعل تفسيرها على نحو خاطئ أشد ضرراً من مضمونها نفسه.
وعلى رغم ذلك فإن واقع الحال يؤكد أن الغالبية من الشعبين على وعي ومعرفة وتقدير كامل بطبيعة ومعنى العلاقات بين مصر والسعودية، لكن هذا لا يعني أن الأجواء على الأثير ملائكية أو مثالية أو منزوعة السموم تماماً.
بحسب "أور وورلد إين داتا" المؤسسة المتخصصة في بيانات الفقر والصراعات والتهديدات الوجودية وغيرها من المشكلات في العالم، فإن ما لا يقل عن ملياري شخص يتواصلون ويستخدمون منصات أبرزها "ميتا" و"تيك توك" و"واتساب" و"وي تشات" يومياً للاطلاع على الأخبار والتحليلات والتواصل مع مجتمع الـ"سوشيال ميديا".
وحين يكون واحد بين كل ثلاثة من سكان الأرض يتواصل عبر الـ"سوشيال ميديا" يومياً، فإن هذا يعني أن الأثير حافل بكل أنواع وأشكال المحتوى الذي قد يشمل الصالح والطالح، الذي يمارس حق التعبير أو يتعدى عليه، الملتزم والمتنمر، الذي يشارك بصفته الشخصية والذي يتحرك بتوجيهات من دون الإعلان عنها، ولذلك فإن إساءة استخدام منصات التواصل أو إطلاق العنان لسلوكيات غير منضبطة، أو التعبير عن أفكار أو توجهات بطرق غير معاً، وغيرها أمور منفلتة يصعب ضبطها على الأثير.
وضمن هذه الأمور المنفلتة التنمر السياسي، الممارس من قبل أفراد أو جماعات أو حتى حكومات ودول تحت تسميات مختلفة، عرفت دراسة عنوانها "ظاهرة التنمر السياسي عبر المحتوى المرئي في وسائل التواصل الاجتماعي" لأستاذي الإعلام في جامعة بني سويف رشا عادل وممدوح عبدالله وأستاذة الإعلام في كلية الآداب جامعة كفر الشيخ إيمان حلمي (2022)، التنمر السياسي بأنه "ممارسة سياسية هدفها الإقصاء والترهيب ضد أي شخص يحمل فكراً مخالفاً في الرأي أو الرؤية أو الأيديولوجيا السياسية"، وتشير الدراسة إلى أن التنمر السياسي لا يكون بالضرورة صادراً عن تيار فكري أو سياسي ينتمي للغالبية وموجه ضد تيار آخر معارض ينتمي لأقلية سياسية، لكن أحياناً يحدث التنمر السياسي في داخل التيار نفسه أو بين المنتمين للفكر ذاته.
انتصارات وهمية
ويهدف بعض من المتنمرين سياسياً على الأثير إلى لفت الأنظار والانتباه، أو تحقيق انتصارات وهمية أو شعبية زائفة عبر الأثير، ويلاحظ عربياً، بحسب الدراسة، تنامي هذه الظاهرة التي تنمو وتزدهر في ظل عدم وجود سبل ردع أو ضبط أو حساب سياسي أو أخلاقي، وذلك لطبيعة الـ"سوشيال ميديا" التي يصعب أو يستحيل ضبطها، وهناك من دأبوا على التنمر على جيرانهم ومحيطهم وعلى العالم أجمع، وتضيف "استفادت هذه الظاهرة من النزعة الشعبوية الجديدة، مع تأكيد كل المعطيات والأحداث أن التنمر السياسي سيتخذ أبعاداً أكثر تعقيداً، وربما تتشكل صراعات وتفاعلات المستقبل على أساسها".
الـ"سوشيال ميديا" غيرت كيفية وتوقيت وإمكان نشأة النزاعات، فإضافة إلى كونها أداة تواصل، فهي تسهم في تشكيل وتوجيه قيم المستخدمين، وأحياناً حشدهم، بناءً على خبر كاذب أو معلومة مفبركة أو تغريدة ضلت طريقها أو تدوينة أعطيت أكثر من حقها على منصة من منصات التراشق الاجتماعي، أو جميعها.
فرق كبير بين الوطنية والشعبوية، لكن حين يتأجج الاحتقان الناجم عن افتراضات أو افتراءات، ويتصاعد أدرينالين التحركات الجماعية من خلف الشاشات وعبر النقر على الـ"كيبورد"، يسهل تحول الوطنية إلى شعبوية.
بحسب موسوعة "بريتانيكا" فإن الوطنية هي أيديولوجيا أو مشاعر ترتكز على ولاء الفرد أو الأفراد للدولة وإخلاصهم لها بشكل يفوق المصالح الفردية أو الجماعية الأخرى، أما الشعبوية، وعلى رغم عدم الاتفاق على معناها أو المقصود بها، فإنها عادة تستخدم للإشارة إلى الإغراق أو التطرف في الاعتداد بالنفس والجنسية والانتماء الوطني إضافة إلى الشعور بالفوقية بناءً على الانتماء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب أحد التعريفات التي يعرضها الأكاديمي العراقي عقيل عباس لـ"الشعبوية" كما ورد في مقال "الشعبوية إغراء سياسي خطر" (2021)، "الشعبوية خطاب سياسي أخلاقي تحشيدي ومزاج شعبي حاد، من دون محتوى فكري أو نظري معين، والتفاصيل والأرقام هي عدوة الشعبوية الأولى ونقطة ضعفها الكبرى، فالحديث في الأرقام والتفاصيل يحتاج إلى مزاج هادئ وصبور ووعي عالٍ، وهاتان صفتان غائبتان في الحركات الشعبوية".
ووفق ورقة نشرها "مجلس أوروبا" وهو منظمة تعنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان ويضم دول الاتحاد الأوروبي، عنوانها "وسائل التواصل الاجتماعي تساعد على تصاعد الشعبوية مع احتمال زعزعة الديمقراطية" في ديسمبر (كانون الأول) 2024 شهدت الشعبوية صعوداً عالمياً هائلاً في العقدين الماضيين، مدفوعاً جزئياً بتحول جذري في كيفية تواصل المجتمعات وتفاعلها، وأشارت إلى أنه على رغم إضفاء طابع ديمقراطي على المشاركة السياسية بإعطاء أصوات لمن كان لا صوت لهم، فإنها أصبحت أيضاً سلاحاً ذا حدين، إذ أتاحت انتشار المعلومات المضللة والاستقطاب والخطاب المتطرف من قبل الشعبويين".
وفي ضوء الفقاعة التراشقية الأحدث على أثير الـ"سوشيال ميديا"، وتوقعات مؤكدة بأنها لن تكون الأخيرة سواء بين مصريين وسعوديين، أو غيرهم، تتصاعد أصوات عربية مطالبة بالعمل على الوقاية التي هي خير من العلاج، والتوعية التي هي أوقع وأنجع من الحجب والمنع.
في تلك الأثناء، تجتهد كتائب المنتفعين وميليشيات النافخين في النار، عبر منصات الـ"سوشيال ميديا" وأخرى إعلامية تنتمي لجهات أو كيانات معروفة بهواية أو حرفة الصيد في المياه العكرة، لسرعة الاستفادة من فقاعة التراشق، وتوليفات من الأخبار الكاذبة، والمعلومات المفبركة ومعها تنقيب وإعادة تدوير لفقاعات سابقة مع جهد متفرد في انتقاء المفردات التهييجية والتعبيرات التحريضية تُصنع وتُبث لنشرها على أثير التراشق الاجتماعي، والطريف أن عدد المتابعين لبعضها اثنان وعدد معيدي النشر والتشارك أربعة، ثلاثة منهم أنشأوا حساباتهم أول من أمس.