ملخص
تحولت قضية المهندس بشير خالد لطيف إلى رأي عام، فقد أغلقت نقابة المهندسين العراقية بمركزها العام في بغداد وفروعها في كل المحافظات، أبوابها مدة ثلاثة أيام استنكاراً لما وصفته بـ"الجريمة البشعة"، وفتحت القضية الباب أمام الحديث عن انتهاكات تدار من قبل القوات الأمنية في السجون والمعتقلات الرسمية.
محمولاً في بطانية مهترئة ينقل من أحد مراكز الاحتجاز التابع لوزارة الداخلية في جانب الكرخ ليودع مستشفى اليرموك، وليدخل في غيبوبة أياماً ويفقد بعدها حياته، تلك هي قصة بشير خالد لطيف (مهندس) التي بدأت بمشاجرة مع الضابط في الداخلية العراقية (اللواء عباس التميمي) وأحد أبنائه، وعلى أثر هذه المشاجرة اعتقل خالد في مركز شرطة حطين ليتعرض إلى الضرب من قبل ضباط الشرطة في المركز، ثم نقل إلى المستشفى، ورفض الطبيب المعالج السماح له بالخروج بسبب وجود ضربة خلف الرأس قد تؤدي إلى مضاعفات بحسب تقرير المستشفى.
ولم يهتم الضباط المسؤولون بنقله وفق تقرير الطبيب، فقد أُخرج من المستشفى وأودع في سجن الجعيفر ليُعتدى عليه مجدداً ويُضرب بآلة غير حادة في منطقة الرأس، بحسب تقرير الطب الشرعي، ليدخل خالد في حال غيبوبة قبل أن يعلن عن وفاته.
قضية رأي عام
حاولت وزارة الداخلية عبر بياناتها ومؤتمراتها الصحافية أن تنأى بنفسها عن حال الاعتداء المفضي إلى الموت الذي تعرض له بشير خالد لطيف، إذ نشرت عبر موقعها الرسمي فيديو تعرض خالد إلى اعتداء من قبل الموقوفين في مركز الاعتقال، موضحين أن الوفاة كانت بسبب تعرضه للضرب من قبل الموقوفين، ولكن فيديوهات أخرى توضح وجوده في زنزانة بمفرده بعد الاعتداء عليه من قبل الموقوفين وهو بحال جيدة، مما يشير إلى تعرضه إلى اعتداء آخر بآلات غير حادة مع وجود أكثر من 25 ضربة في جسده، الأمر الذي أدى إلى توجيه أصابع الاتهام إلى ضباط في وزارة الداخلية.
تحولت قضية بشير خالد لطيف إلى رأي عام، فقد أغلقت نقابة المهندسين العراقية في مركزها العام ببغداد وفروعها في كل المحافظات، أبوابها مدة ثلاثة أيام استنكاراً لما وصفته بـ"بالجريمة البشعة التي راح ضحيتها المهندس المغدور بشير خالد الذي فارق الحياة إثر تعرضه للتعذيب"، ودعت النقابة "إلى كشف الحقيقة ومحاسبة المتورطين في هذه الجريمة".
وعلى ما يبدو أن تبريرات وزارة الداخلية لم تقنع الحكومة، فقد وجه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بتشكيل لجنة تحقيقية عليا في شأن وفاة بشير خالد لطيف وإعلان نتائجها أمام الرأي العام، كذلك سارع مجلس النواب إلى تشكيل لجنة من ستة نواب تتولى التحقيق في القضية، ووجه النائب الأول لرئيس مجلس النواب محسن المندلاوي لجنة الأمر النيابي رقم 63 باستضافة كل القادة والضباط المعنيين في قضية الوفاة، وتقديم تقرير مفصل إلى رئاسة البرلمان لاتخاذ القرارات المناسبة.
منظمات دولية
أولت منظمات دولية الاهتمام بالقضية، إذ أصدرت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بياناً أوضحت فيه تأكيدها أهمية "أن يكون التحقيق نزيهاً وشفافاً ومستقلاً يفضي إلى محاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لمنع وقوعها مستقبلاً".
إلى ذلك طالب مركز جنيف الدولي للعدالة بفتح تحقيق دولي شامل في كل حالات التعذيب المُرتكبة في العراق، ولا سيما تلك التي أسفرت عن وفاة الضحايا خلال الأعوام القليلة الماضية، وأكد المركز في بيان له "أن استمرار غياب المساءلة سيؤدي إلى تكرار هذه الانتهاكات، كما حدث في حال المهندس الذي فارق الحياة صباح السابع من أبريل (نيسان) 2025، بعد أربعة أيام من الغيبوبة الناتجة من تعرضه لتعذيب مُبرح على يد ضابط كبير في الشرطة العراقية، إضافة إلى عناصر شرطة آخرين".
قضايا التعذيب
"أطلق أوامره بصرخة مدوية فوسَّدني شخصان على السدية بعدما لفاني ببطانية صوفية سميكة، ومن ثم لفا حبلاً من رقبتي حتى أخمص قدمي، ولكي يزيد من وجعي وضع أحدهما قدمه على أعلى بطني ضاغطاً بقوة، وفي الوقت ذاته كان مستمراً بشد الحبل أكثر حتى بدأت أواجه صعوبة في التنفس، ووضعا كيساً غطى وجهي بالكامل وبدآ بالكبس كما يسمونه، وهو أن يضغط الكيس بقوة ليمنع أية جزئية للأوكسجين، ومع مرور الوقت أخذ جسدي في التصلب"، هذا ما سرده علي عدنان في روايته (السدية) التي أرخت تجربته في سجون الاستخبارات مدة عامين ونصف العام، وتحدثت عن طرق التعذيب ومنها طريقة ( السدية)، التي ابتكرها أحد الضباط.
حاولت "اندبندنت عربية" الحديث مع من كانت لهم تجارب اعتقال في السجون والمعتقلات الحكومية، تردد غالبيتهم في الإفصاح عن تفاصيل ما تعرضوا له، من وسائل للتعذيب وعمليات ابتزاز لذويهم من أجل إطلاق سراحهم بمبالغ مالية ضخمة.
حدثنا أحد الأشخاص الذي رفض ذكر اسمه قائلاً "تعرضت منطقتنا لعمليات اعتقال بتهم كيدية على أساس طائفي، فقد أعدم والدي خنقاً بكيس أسود في 2009 في سجن بالمنطقة الخضراء وعمره آنذاك ٧٥ سنة واختفت جثته لنجدها في مستشفى الكرخ ".
يكمل المتحدث قوله "توفي عمي في السجن نتيجة التعذيب وابن عمي قطعت ساقه بعد التعذيب، لدي تسعة من أبناء عمومتي اعتقلتهم الاستخبارات ولا نعلم مصيرهم منذ 2016"، مضيفاً "المفارقة أن والدة أحد المعتقلين وبدافع الخوف على أبنائها التحقت بهم إلى مقر الفوج الذي اعتقلهم مصطحبة ابنها الآخر بسيارتهم الخاصة، فأخذ ضابط الاستخبارات ابنها مع سيارته وأصبح مصيره مجهولاً حتى اليوم".
اعترافات تحت التعذيب
يوضح المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة ناجي حرج أن "القضاء العراقي غالباً ما يصدر أحكاماً اعتماداً على اعترافات تُنتزع تحت التعذيب، والمشكلة أن تلك الأحكام قد تصل عقوبتها إلى الإعدام أو السجن المؤبد، ولعل هذا جانب خطر جداً، بخاصة إذا ما علمنا أن تلك الأحكام تصدر مع علم المحاكم أن الاعترافات قد انتزعت تحت التعذيب، إذ تُتجاهل التقارير الطبية أو الشكاوى المقدمة".
التعذيب ليس ممارسات فردية
عام 2021 وثق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان احتجاز وتعذيب قوات الأمن الرسمية الشاب حسن الطائي في مقر جهاز الاستخبارات بمحافظة كركوك، مما أسفر عن إصابته بتشوهات جسدية بالغة، وأُجبرت عائلته بعد ذلك على توقيع "صلح عشائري" أفلت بموجبه الجناة من العقاب.
الطائي اعتقل بتهمة كيدية من قبل أحد عناصر "الحشد الشعبي"، واستمر اعتقاله 37 يوماً تعرض خلالها لأشكال قاسية من التعذيب، شملت الصعق بالكهرباء والخنق وتكبيل الأيدي بالأصفاد والتعليق في الساحة الخارجية للمركز تحت أشعة الشمس الحارقة، وأصيب الطائي على أثر هذا التعذيب بحروق من الدرجة الثالثة في اليدين وفروة الرأس، وتسبب التعذيب في مضاعفات أدت إلى بتر كفه اليسرى وتشوهات شديدة في كفه اليمنى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أكد ناجي حرج أن التعذيب في العراق لا يزال يمارس على نحو ممنهج في مراكز الاحتجاز والسجون، في تناقض صارخ مع التزامات العراق طبقاً للاتفاقات الدولية التي صادق عليها العراق، وعلى رأسها اتفاق مناهضة التعذيب، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن الدستور العراقي.
حرج يوضح أن التعذيب في العراق ليس ممارسات فردية مثلما تحاول السلطات أن توهم الرأي العام الدولي، وإنما "التعذيب يمارَس على أوسع نطاق في معظم مراكز الاحتجاز والمعتقلات والسجون، وأحياناً يتم بأوامر من الرؤساء الأعلى، إذ يُستخدم كوسيلة لانتزاع اعترافات أو لأغراض طائفية وانتقامية".
آليات التحقيق
ومن المسائل التي تؤدي إلى استمرار وتفاقم ممارسة التعذيب في العراق، بحسب ناجي حرج، هي غياب المساءلة، إذ "أفلت معظم من مارس التعذيب من العقاب حتى الآن، ولم نسمع أن الدولة حاسبت المسؤولين عن التعذيب".
عضو المفوضية السابق لحقوق الإنسان علي البياتي أشار إلى غياب الجهات الرقابية عن السجون العراقية، وعدم وجود آليات واضحة في التحقيق بقضايا التعذيب "على رغم تسلم المفوضية من الجهات الرسمية ما يقارب 14 ألف شكوى خلال عام حول التعذيب وسوء المعاملة، لكن في الوقت ذاته تغيب آليات التحقيق في هذه الانتهاكات، وكل هذا يؤشر إلى خلل واضح في منظومة العدل العراقية".
النظام السياسي يحمي المتورط في التعذيب
"كباحث وراصد سجلتُ ودونتُ وأرشفتُ كثيراً من حالات التعذيب، ولقد شهدتها بنفسي عند اختطافي في 2021"، هذا ما يذكره لنا الباحث المتخصص في القضايا السياسية والتغيير الاجتماعي علي المكدام الذي يرى أن قصص التعذيب في العراق كثيرة ولكن حادثة بشير خالد رفعت شيئاً من اللثام عما كان مستوراً وما كنا نقرأه "أن عدداً ليس بقليل من الضباط هم ديكتاتوريات مصغرة تتلذذ بالتطرف والتعذيب، ضاربين عرض الحائط بكل المواثيق والمعاهدات والقيم والمبادئ وحقوق الإنسان، وهم ظلموا عشرات الأفراد وألصقوا التهم جوراً وانتزعوا الاعترافات بالحديد والنار ".
يرى المكدام أن سياسة الإفلات من العقاب متجذرة في العراق الحديث، كون أن الفاعل بغض النظر عن صفته وموقعه ونوع فعله هناك نظام سياسي يحميه متمثلاً بالحزب الذي ينتمي إليه أو بالجهة المتورطة بالفعل ذاته، وعقابه قد يضر بتلك الجهات، فأفضل وسيلة للتخلص من الضرر هي الإفلات من العقاب.
القانون العراقي
يوضح الأكاديمي والباحث القانوني الدكتور أسامة شهاب حمد الجعفري أن المنظومة التشريعية العراقية زاخرة بالنصوص القانونية التي واجهت فعل التعذيب في السجون ومراكز الاحتجاز، فلم تكتف بحظر التعذيب ومناهضته كما في المادة (37/ ج) من الدستور التي نصت على تحريم كل أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الإنسانية وإنما عدت فعل التعذيب جريمة يعاقب عليها، يسرد لنا الجعفري المواد القانونية التي خصصت لمعاقبة من يمارس فعل التعذيب، ويقول "قررت المادة (333) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل معاقبة الموظف أو المكلف بخدمة عامة بالسجن أو الحبس الذي عذب أو أمر بتعذيب متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو للإدلاء بأقوال أو معلومات في شأنها أو لكتمان أمر من الأمور أو لإعطاء رأي معين في شأنها"، كذلك قضت المادة (117) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23 لسنة 1971 المعدل ببطلان الإجراءات التحقيقية التي استعملت فيها وسائل غير مشروعة للحصول على إقرار المتهم.
مراكز لارتكاب جرائم التعذيب
يرى الجعفري أن المشكلة ليست في النصوص القانونية وإنما في إنفاذها داخل أروقة السجون ومراكز الاحتجاز، و"الخطيئة الكبرى للدولة عندما تكون مؤسساتها الأمنية مراكز لارتكاب جرائم التعذيب بدلاً من أن تكون مراكز لحماية الحقوق والحريات".
تحول هذه المؤسسات إلى مراكز للتعذيب يدل، بحسب الجعفري، على ضعف بنيوي بتلك المؤسسات، وهي تحتاج فعلاً إلى تأهيل وتطوير لتكون بمستوى إدراك وظيفتها الأساسية الأمنية لحماية الحقوق والحريات.
المساءلة الدولية
ويرى الجعفري أن السجون ومراكز الاحتجاز بهذه الأفعال تعرض العراق إلى المساءلة الدولية كونه طرفاً بالاتفاق الدولي لمناهضة التعذيب الذي انضم إليه في السابع من يوليو (تموز) 2011، والعراق ملزم دولياً أن تكون ممارساته الواقعية تدل على حرصه الشديد على مكافحة هذه الجريمة الماسة بحقوق الإنسان، لافتاً إلى أن "المنظومة التشريعية العراقية في أمس الحاجة إلى تشريع قانون مكافحة التعذيب والمعاملة اللاإنسانية في السجون ومراكز الاحتجاز، ويكون مادة تدرس في كل الدورات التي تخرج أفراد الأجهزة الأمنية وتكليف الادعاء العام كجهة تراقب تطبيق هذا القانون".
السجون العراقية انتهاكات من دون محاسبة
وثق مرصد "أفاد" وهو مرصد إعلامي حقوقي يسلط الضوء على الانتهاكات ضد حقوق الإنسان في العراق، حالات التعذيب والابتزاز التي تمارس على النزلاء داخل السجون العراقية، ففي سجن التاجي تُباع قاعات المنام بمبلغ مالي نحو 100 ألف دينار عراقي (ما يقارب 76 دولاراً) بحسب القاعة التي تكون أقل اكتظاظاً أو تلك التي تكون قريبة من الجناح الإداري الذي يسمح بتوفر المكالمات الهاتفية لقاء مبالغ مالية، كذلك تفرض إدارات السجون وارداً مالياً يومياً أو شهرياً بحسب زيارة أهالي النزلاء، ويعاقب من يمتنع عن الدفع بالنقل إلى زنزانات سيئة، كذلك تشهد السجون العراقية عمليات تعذيب تصل إلى حد الوفاة، منها تعليق النزيل من قدميه ساعات طويلة مما يؤدي إلى ارتفاع الضغط وحدوث حالات الوفاة.
المرصد أوضح أن عمليات الابتزاز المالي لا تتوقف على الزيارات بل تمتد حتى على الذين انتهت مدة محكوميتهم، إذ لا يُصادق على قرار إطلاق سراح لمن انتهت مدة محكوميته إلا بعد دفع مبلغ مالي يصل إلى 10 آلاف دولار، كذلك فإن هناك من تسلم جثث ذويهم بأعضاء ناقصة، وهو ما يشير إلى تورط إدارات السجون في عمليات تجارة الأعضاء البشرية.