ملخص
من هي السلاسة النادرة من العاملين التي لن يمسها "تسونامي" الذكاء الاصطناعي؟
يبدو أن المخاوف التي انتشرت مع بدء تثبيت الذكاء الاصطناعي التوليدي حضوره آخذة في الازدياد، فنكاد نسمع كل يوم توقعات من هنا وهناك وتحذيرات من احتمال أن يسحب الذكاء الاصطناعي البساط من تحت أصحاب هذه المهنة أو تلك، بخاصة مع تزايد الشركات المنّضمة إلى حملات التسريح العالمية والتي شملت حديثاً شركات تكنولوجية كبرى مثل "مايكروسوفت" و"غوغل" و"أبل" و"ميتا" التي ارتأت إعادة تعيد توجيه إنفاقها نحو مراكز البيانات وتطوير الذكاء الاصطناعي.
تسونامي الذكاء الاصطناعي
والأكيد أن في هذه التحذيرات شيء من الصحة ولكن يتخللها أيضاً كثير من المبالغة مصحوبة بحملات التخويف من المستقبل الذي سيغدو محتلاً تماماً من قبل الروبوتات، فالحقيقة أن الذكاء الاصطناعي سيحل مكان الفئة من البشر التي ستظل واقفة على حالها متشبثة بما لديها من علم، رافضة أن تغير من طريقة عملها وشكل إنجازها وطبيعة قرارتها ووجودها في سوق العمل، لكن هناك مهناً تبدو وكأنها تجلس متفرجة كيف يسحق غضب "تسونامي الذكاء الاصطناعي" هؤلاء الكسالى النائمين على الشاطئ المهجور.
وها هو مؤسس شركة "مايكروسوفت" بيل غيتس يظهر ليحذر من أن وظائف عدة ستصبح قديمة خلال الأعوام المقبلة بعد أن كشف في وقت سابق عن أن لعب الكريكت والتمريض والأطباء النفسيين من بين الوظائف التي من المحتمل أن تصمد أمام ثورة الذكاء الاصطناعي، إذ وضع افتراضاته هذه من اعتقاد أنه حتى في حال استطاعت الروبوتات أداء هذه المهمات بصورة أفضل إلا أن المجتمع سيختار إعطاء الأولوية للوجود البشري، فبرأيه أن رياضة مثل الكريكت مملة وغير مثيرة للاهتمام وستظل مخصصة للبشر فقط، بغض النظر عن أداء الروبوتات.
أما اليوم فيرى غيتس أن ثلاث مهن فقط لا يزال الذكاء الاصطناعي عاجزاً عن سحب البساط من تحت أصحابها أو حتى منافستهم، فحتى الآن يمكن للعاملين في مجالات الأحياء والبرمجة والطاقة أن يتنفسوا الصعداء، وهنا يقر غيتس بأن توقعاته قد لا تكون مضمونة النتائج وأن تأثير الذكاء الاصطناعي في سوق العمل سيتطور على الأرجح بطرق لا يمكننا التنبؤ بها بعد.
استكشاف الحياة
ربما لا يستغرب كثيراً التوقع الأول للملياردير الأميركي، إذ يجادل بأن علماء الأحياء سيظل لهم دور حيوي في تطوير الطب وفهم التعقيد البيولوجي، في حين لا يزال الذكاء الاصطناعي عاجزاً عن صياغة فرضيات مبتكرة أو تحقيق قفزات حدسية في مجال البحث العلمي، منشغلاً في محاولة تقليد وإجادة الإبداع والحدس والتفكير النقدي عند البشر.
والحقيقة أن الذكاء الاصطناعي يفتقر فعلاً إلى التواصل البشري والمهارات الاجتماعية المعقدة، في حين أن الاكتشافات العلمية تنتج من تعاون فرق بحث متعددة التخصصات، كما أن العلم يعتمد على التجربة والخطأ والتعامل مع الشك واليقين، وهو ما يشكل أمراً بالغ الصعوبة على الذكاء الاصطناعي، علاوة على عدم قدرته على تقليد الحدس العلمي البشري وتفسيراته والإبداع في طرح الفرضيات والإتيان بأفكار خارج الصندوق.
وفي حال حاول الذكاء الاصطناعي منافسة العقول البشرية في هذا المضمار فسيخرج فاشلاً حتماً، إذ لا يزال في طور العلاقة الاعتمادية مع البشر، لكن الذكاء الاصطناعي ماهر في تحليل البيانات والمساعدة في تشخيص الأمراض، فبإمكانه أن يكون إلى جانب البشر أداة مساعدة فعالة في تطوير هذا القطاع ليعزز قدراتهم في تحقيق اكتشافات ثورية، ويمكنه المساعدة في دعم الأبحاث الجينية وتطوير مواد أكثر كفاءة وتسريع الاكتشافات الدوائية، وتحليل البيانات البيولوجية الضخمة والصور الطبية والتنبؤ بالنتائج، واكتشاف الأنماط والعلاقات المخفية والتنبؤ بتأثيرات تغير المناخ في التنوع البيولوجي.
هندسة الذكاء الاصطناعي
أما توقع المهنة الثانية، فعلى رغم تناقضه فإن أصحابها سيزداد الطلب عليهم، فالمبرمجون ومهندسو الذكاء الاصطناعي هم بحسب اعتقاد غيتس سلالة نادرة من العاملين، إذ يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى البشر لبنائه وإدارته نظراً لافتقاره إلى الدقة وتصحيح الأخطاء وتحسين عمله وتطويره، والأهم عجزه في مهارة حل المشكلات اللازمة لإنشاء برمجيات معقدة، فالذكاء الاصطناعي ينافس المبرمجين في توليد الأكواد تلقائياً واقتراحها وتحليلها واكتشاف الأخطاء في التعليمات البرمجية وتصحيحها، لكن لا غنى عن الحلول البشرية للمشكلات المعقدة واتخاذ القرارات الإستراتيجية الذكية التي تتطلب إبداعاً وابتكاراً يفتقر إليها الذكاء الاصطناعي، وفهماً لمهارات التواصل ومتطلبات المشاريع والتكيف مع المتغيرات، ومراعاة القيم الأخلاقية ومتطلبات الأمان وكيفية تأثير التكنولوجيا في حياة الناس، ومن هنا يعمل الذكاء الاصطناعي كأداة خارقة في يد المبرمجين على تحسين إنتاجيتهم وجعل عملهم أكثر كفاءة، لكنه لن يحل مكانهم تماماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا غنى عن متخصصي الطاقة
وأخيراً يعتقد بيل غيتس أنه من الصعب على الذكاء الاصطناعي إدارة قطاع الطاقة منفرداً نظراً إلى اتساع هذا المجال وتعقيده، سواء تعلق الأمر بالنفط أو الطاقة النووية أو مصادر الطاقة المتجددة، ويجادل بأنه في حين يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في التحليل والكفاءة لكن الخبرة البشرية لا غنى عنها في صنع القرار وإدارة الأزمات، إذ يُطلب من خبراء الصناعة التعامل مع اللوائح التنظيمية ووضع إستراتيجيات للحلول المستدامة والتعامل مع الطبيعة غير المتوقعة للطلب العالمي على الطاقة، لذا في الوقت الحالي لا غنى عن متخصصي الطاقة.
ويشهد قطاع الطاقة تطوراً ملحوظاً بفضل دخول الذكاء الاصطناعي في كثير من مجالاته، إذ يمكنه تقليل الكلف وتحسين الكفاءة وتحليل البيانات وتقديم دعم للخبراء، لكنه يواجه تحديات ويفتقر إلى القدرة على اتخاذ قرارات المفاجئة والاستجابة للأحداث غير المخطط لها والتعامل مع الجوانب الأخلاقية والسياسية، والإبداع في اكتشاف وتطوير طرق وحلول جديدة لتوليد الطاقة والتواصل والتفاوض والتفاعل مع البيئة الطبيعية والعمل في بيئات ميدانية صعبة.
لكن هذا القطاع لا يزال يعتمد بصورة كبيرة على الخبرة البشرية في بعض الجوانب الحيوية التي تحتاج إلى فهم عميق للتحديات الاجتماعية والاقتصادية، لذا يصعب على الذكاء الاصطناعي أن يحل محل الإنسان بالكامل في تطوير السياسات البيئية والتحليل الاقتصادي واتخاذ القرارات الاستثمارية والإستراتيجية المتعلقة باكتشاف الحلول والتخطيط للطاقة المستدامة، والاستثمار في التقنيات الجديدة وإجراء عمليات الإصلاح والتكيف مع الأعطال غير المتوقعة على أرض الميدان، على رغم وجود أنظمة ذكية لمراقبة الأداء.
الإبداع سيبقى للبشر
والحقيقة أن المهن الثلاث التي اختارها رجل التكنولوجيا الأبرز تصب كلها في إطار أن الذكاء الاصطناعي لا يزال وربما سيبقى عاجزاً عن الإبداع بمعناه البشري الخالص، وفهم العلاقات الإنسانية وحل المشكلات المعقدة واتخاذ القرارات المناسبة وفقاً للظرف والاستكشاف المستمر، لذا سيظل محدوداً أمام المهن التي تتطلب مهارات إبداعية وحسية دقيقة وحساً فنياً وخلاصة للتجربة الإنسانية، وتلك التي تعتمد على التواصل الإنساني المباشر والاحتكاك البشري واتخاذ القرارات على مستوى الحدس والخبرة وبناء على ظروف متغيرة، أو تلك التي تعتمد على الذكاء العاطفي وفهم المشاعر الإنسانية والاستجابة لها، لكن الأكيد أن تقنيات الذكاء الاصطناعي ستعزز أداء العاملين في كل المجالات على حد سواء، وستعطيهم أدوات خارقة تحدث فرقاً هائلاً في طريقة أداء أعمالهم وسرعة إنجازهم وطبيعة حياتهم ككل.