ملخص
كان "داعش" و"النصرة" أبرز جهتين لاستقطاب المسلحين الأجانب من كل أنحاء الأرض، وكان يسهل دخولهم إلى سوريا عبر الانفلات الحدودي التركي، وأيضاً عبر الشريط العراقي مع تمدد سيطرة "داعش"، وعبر تدفق التهريب، وإن كان بدرجة أقل، من لبنان والأردن.
والعلاقة بين الجهتين مرت بأطوار متباينة من الاتفاق والاختلاف فمن التعاون إلى الخلاف فالانشقاق، ومن ثم الصدام الدموي الهائل.
مع بداية الصراع السوري عام 2011 شكلت البلاد ما يمكن الاصطلاح على تسميته "إسفنجة" لامتصاص الإرهابيين الأجانب الوافدين إلى سوريا من شتى بقاع العالم، مستقطبة عشرات آلاف المسلحين في محصلة لم يتمكن أحد من وضع تحديد دقيق لها نظراً إلى السرية التي كانت تحيط بعمل هؤلاء الذين شكلوا، في جزء من الحرب السورية، القوام الأعظم لتنظيم "داعش"، وبدرجة أقل لـ"جبهة النصرة" فرع "القاعدة" في سوريا قبل فك الارتباط معها، التي مرت بدورها بتحولات وتباينات من تغيير الارتباط والتسمية وصولاً لتصبح "هيئة تحرير الشام".
الدوافع والهجرة المنظمة
هؤلاء المسلحون الوافدون كانوا على شكل جماعات في غاية التنظيم والإدراك، وكانت دوافعهم تراوح ما بين الأيديولوجية المتطرفة والإسلام السياسي ومناصرة المسلمين في سوريا، على سبيل القدس، ومحاربة "طواغيت الشام"، وتكفير الأنظمة العربية والغربية على حد سواء.
وقال الباحث في شؤون الجماعات المتطرفة هاني جاد، "إن آخرين قدموا مدفوعين بدواع اقتصادية، وغيرهم من المهمشين والباحثين عن الذات والمتصورين أنهم قادمون لإقامة دولة تقام فيها حدود الله كما أمرت الشريعة"، وأضاف "أن مغالاتهم في تطبيق النص وتقديمه على العقل، وضعتهم، غير مرة، في صراعات مع أهالي المناطق التي رزحت تحت سيطرتهم، وفي تلك المناطق كانت تقطع الرؤوس والأيادي ويجلد الناس، هذا عن داعش، أما النصرة فقد حظيت بنصيبها من المسلحين الأجانب الذين تباينوا مع رؤية داعش في سبب الجهاد الرئيس، وتأطيره ضمن الحيز الجغرافي المحلي أولاً، خلاف داعش الذي ارتأى ضرورة الجهاد الخارجي كتكليف وواجب شرعي وضرورة حيثية في زمانها ومكانها، كما أن التنظيم كان مغرياً في القوة والعتاد، وسخياً في صرف الرواتب والأموال وتوزيع المناصب مع سيطرته على مساحات شاسعة في ذروة قوته، بلغت تلك المساحات في سوريا فقط 70 في المئة من مجمل جغرافيتها". ومن أجل القضاء على "داعش" تشكل التحالف الدولي من أكثر من 80 دولة بتنسيق لوجيستي بشري - عسكري مباشر مع "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية "قسد" لمحاربة "داعش" في وقت كانت روسيا وإيران و"الحشد الشعبي" والجيشان العراقي والسوري حاضرة، أيضاً، على خط إبادة التنظيم وهو ما تحقق نهائياً عام 2019 في معركة الباغوز الشهيرة شرق سوريا، لتظل بعدها من التنظيم خلاياه المستترة في البادية السورية.
اتفاق فاختلاف فانشقاق ثم حرب دموية
كان "داعش" و"النصرة" أبرز جهتين لاستقطاب المسلحين الأجانب من كل أنحاء الأرض، أوروبا، شمال أفريقيا، غرب المتوسط، آسيا، ومناطق أخرى، وكان يسهل دخولهم إلى سوريا بشكل يسير للغاية عبر الانفلات الحدودي التركي لا سيما في غازي عنتاب والريحانية ومواقع متعددة، وأيضاً عبر الشريط العراقي مع تمدد سيطرة "داعش"، وعبر تدفق التهريب، وإن كان بدرجة أقل، من لبنان والأردن.
العلاقة بين الجهتين مرت بأطوار متباينة من الاتفاق والاختلاف، فمن التعاون، إلى الخلاف، فالانشقاق، ومن ثم الصدام الدموي الهائل، شمال سوريا وشرقها، مما لعب دوراً إضافياً في إضعاف الجماعتين أمام الجيش السوري (جيش نظام بشار الأسد آنذاك) وحلفائه في مرحلة ما من عمر الحرب، إذ إن صدامهما فاق بضراوته ما كان متوقعاً، وهو صدام قام على الزعامة والسيادة، ولم يخلُ من التخوين في المرحلة التي كانت "النصرة" تتجه فيها لتكون أكثر براغماتية وهدوءاً، وهي المرحلة ذاتها التي كان يزداد فيها التنظيم شراسة ودموية وأدلجة مخيفة.
دول المنبع
وبالتفصيل، فقد وفد المسلحون الأجانب بركيزة أساسية، من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وهولندا والدنمارك والسويد والنرويج وإسبانيا، مما أثار قلق السلطات هناك ليتنامى مع الوقت حول معرفة مصير هؤلاء الذين كانوا منتظمين في سياق العيش الطبيعي ضمن دول أوروبا الغربية المتطورة والمتقدمة، وكذلك أمنت دول الشيشان وطاجيكستان وداغستان وأوزباكستان وكازاخستان وفرة في التعداد البشري المقاتل، إلى جانب الفزع الأيديولوجي القادم من دول العرب كالمغرب وتونس والجزائر ومصر وليبيا والخليج العربي، ولم تكن دول جنوب شرقي آسيا بعيدة، فقد وجد مسلحون من إندونيسيا وماليزيا والفيليبين على خط الصراع، لتصبح سوريا واحدة من أخصب أراضي الإرهاب العابر للقارات في التاريخ الحديث.
المغريات
وقد عرض بعض التنظيمات الإرهابية رواتب شهرية تصل لـ3 آلاف دولار، مما شكل إضافية لخوض غمار تجربة الإرهاب الذي لم ينشأ من عدم، إذ اعتمدت التنظيمات على أساليب استقطاب متقنة ومدروسة.
وعلى رأس تلك الأساليب كانت الشبكات السرية التي تدعم النشاط الإرهابي في دول العالم والتي كانت على تنسيق حثيث مع "أولي الأمر" في بلاد الشام، إضافة لنشاط المساجد الدعوية التي دعت للنفير بغية نصر الإسلام والمسلمين على الطغم الحاكمة ضمن سياسة غسل العقول المتعارف عليها. فضلاً عن الدعاية الإلكترونية المرتكزة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي كمثل "فيسبوك"، "إنستغرام"، "واتساب"، "تيليغرام" وغيرها.
ولم يخلُ الأمر من إغراءات تجاوزت الماديات لتشمل العنصر النسوي في التجنيد وصولاً للحديث عن السبايا والعودة بالدين لأصول السلف الصالح بعيداً من بدع المجتمعات، موضع "الجهاد"، أو المجتمعات التي ينتمون إليها، وبهذا تفوق "داعش" من خلال طرح نفسه مدرسة عالمية لا تعترف بالحدود، وليعزز موقفه أمام مناصريه كان أن أصدر بيانات عدة تلغي الاعتراف بالحدود بين الدول وتعيدها كلها إلى سياق التوحد تحت راية "دولة الإسلام".
الخلاف البيني والاعتماد على الفوضى
لم يولد تنظيم "داعش" في سوريا، بل قبل ذلك بكثير في العراق، لكنه استغل الفوضى العراقية بعد سقوط النظام هناك لتطوير نفسه، ومن ثم الحرب السورية ليتمدد، وإن اعتماده الواسع جداً على المسلحين الأجانب، لم يلغ اعتماده على سوريين وعراقيين، لكنهم كانوا أقل شأناً وراتباً، وكان أول إعلان لـ"دولة الخلافة" عام 2014، وعاصمتها مدينة الرقة السورية شرق البلاد.
في الأثناء وبعد ذلك كان "داعش" يجهز كتائب خاصة بالانتحاريين، وتمكن من تنفيذ عمليات أمنية في أوروبا كمثل هجمات باريس وبروكسل وغيرها، وهنا كان مكمن الخلاف الأولي بين "داعش" و"النصرة" الذي أدى لتفضيل مسلحين أجانب، وتباين أسلوب الطرفين في قراءة مجريات الأمور العسكرية.
ففي حين مالت "النصرة" (هيئة تحرير الشام) لاحقاً، إلى أسلوب الحرب التكتيكي والمواجهات المباشرة، مال "داعش" إلى العمليات "الانغماسية" والقتل العشوائي والتضحية بأفراده أكثر مما هو مطلوب، وأدركت "النصرة" ضرورة خوض المعركة بأسلوب الهجمات النوعية المركزة التي تفضي إلى صفر خسائر، مع التركيز على محاولة بناء قاعدة علاقات وتحالفات متينة مع كل فصائل الثورة وضمناً "الجيش الحر"، والفصائل الإسلامية والاتخاذ من إدلب منطلقاً ومستقراً لعملياتها عوضاً عن التمدد الأفقي الذي يقوم به "داعش"، بل ومحاولتها الفكاك من أي ارتباط معه لكونه أصبح واحداً من أكثر التنظيمات الراديكالية المطلوبة في كل دول العالم.
وعليه خرجت "النصرة" من عباءة "القاعدة" وشكلت "هيئة تحرير الشام" عام 2017 من اتحاد مكونات وفصائل وألوية وكتائب ثورية عدة، واتخذت طريقاً براغماتياً جنبها الصراع المباشر والمميت مع حكومات العالم رغم تصنيفها على لوائح الإرهاب حتى اليوم، ورغم إطاحتها أخيراً بالنظام السوري في ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتسلمها مقاليد الحكم، وهو ما يراه مراقبون بعد نظر استراتيجياً خرج من محافظة نائية في شمال غربي سوريا، ليحكم سوريا كاملة، مستفيداً من مساري التهدئة وخفض التصعيد في حوارات "أستانا" و"سوتشي" برعاية روسية - تركية - إيرانية خلال أعوام سابقة.
تطور العلاقة بين الجانبين
وبالعودة قليلاً لمراحل تطور العلاقة بين الجانبين فإنهما قد تعاونا، بشكل وثيق، في عامي 2012 و2013، وخاضا معارك مشتركة شرسة في مواجهة النظام السوري، وألحقا به خسائر فادحة، لكن الخلاف الفعلي نشب مع إعلان أبوبكر البغدادي نفسه خليفة للمسلمين مع إقامة "دولة الخلافة" عام 2014، "النصرة"، آنذاك، رفضت، بشكل قطعي، الانصياع لأوامر البغدادي والقتال تحت رايته ورفضت الاعتراف به خليفةً، فاتهم "داعش" الطرف الآخر بالعمالة لتركيا وتنفيذ أجندات خارجية تضرب الإسلام في عمقه، وتزامناً كان بدأ الصراع على استقطاب الأجانب بين الطرفين، وكانت تلك المرحلة دموية في المعارك والمواجهات المباشرة وقد استمرت منذ عام 2014 وحتى عام 2017.
تزامناً كانت روسيا قد تدخلت، أواخر عام 2015 لدعم النظام السوري في مواجهة خصومه وبخاصة "داعش"، وكذلك كانت طائرات التحالف الدولي لا تعرف الهدوء، كل ذلك الضغط على التنظيم أدى لإضعافه وإرباكه، فسقطت أعداد كبيرة من المسلحين الأجانب في صفوفه قتلى، وهرب آخرون نحو بلدانهم أو بلدان أخرى من بينها ليبيا، كم تعرض آلاف منهم للأسر ولا يزالون محتجزين في سجون "قسد" شمال شرقي سوريا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اضمحلال أسطورة
بعد اضمحلال أسطورة "الخلافة" وشعارها "باقية وتتمدد" كانت ثمة نقمة عالمية ومحلية على التنظيم، ولم تكن "النصرة" بمنأى عنه، ورغم محاولة عديد من مسلحي "داعش" الأجانب والمحليين السابقين الالتحاق بصفوف "النصرة" التي أصبحت "هيئة تحرير الشام"، وباتت أكثر اعتدالاً، وشكلت حكومة لإدارة منطقتها، فإنه لا يمكن القول، أبداً، إنه قُبل بمسلحين سابقين، في الأقل، بشكل جماعات منظمة، إلا أن أفراداً، بعينهم، قد تمكنوا من الوصول إلى "الهيئة" وحجز أماكن فيها، وهذا ما أفاد به أحد المقربين من "الهيئة" "اندبندنت عربية" مستعرضاً بعض تلك الأسماء "القليلة" التي تمكنت من تحويل تبعيتها من "داعش" بعد هزيمته النهائية. وأضاف المصدر نفسه "البعض وجد طريقه إلى الهيئة، وآخرون إلى الجيش الوطني في الشمال، والبعض نسج علاقات مع الأتراك، ومع ذلك فهم قلة قليلة جداً، وقد خضعوا لدورات تدقيق أمني مكثفة للغاية، واشترط عليهم التبرؤ من داعش، ومن أهمهم محمود طه (أبوالمغيرة الشامي)، وعزام الدوسري (أبوعدي الجزراوي) الذي كان مسؤول مكتب السبايا في البوكمال والقائم على الحدود السورية العراقية، وهناك أسماء أخرى بالتأكيد، لكن المقصد أن الهيئة كانت حذرة جداً في التعامل مع بقايا داعش، ومن تعاملت معهم، استفادت منهم جداً في خبراتهم القتالية النوعية ذات الكفاءة العالية، وفي تكتيكاتهم وقدرتهم على صناعة المتفجرات وصيانة الأسلحة". وأكمل المصدر "ولكنها كانت أكثر حذراً من أن تشرع أبوابها لهم كجماعات من بقايا التنظيم فتصبح هي الأخرى تحت سندان التحالف الدولي بعد كل سني الدم والخلافات العميقة بين الطرفين، وخصوصاً أنها كانت شاهدة على خسارة تنظيم تعداده الذي كان، ربما، بلغ عشرات الآلاف من المسلحين في ذروته، وخطورتهم أن معظمهم كان انتحارياً".
وتوقع المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات في دراسة حديثة صدرت عنه وجود مسلحين ألمان، ولكن بأعداد قليلة جداً، ضمن صفوف "هيئة تحرير الشام"، وهم المتبقون من نحو 1150 ألمانياً قصدوا سوريا، وانضموا لتنظيم "داعش" قبل سقوطه خلال عمر الحرب السورية.