Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إلى أي مدى ستنجح "التجربة الإدلبية" في حكم سوريا؟

تواجه الإدارة الجديدة عقبات الفساد المقنن والعقوبات الغربية والاقتصاد المتهاوي

يرى مراقبون أن جوهر التحدي يكمن في الانتقال من حكم إدلب إلى حكم سوريا (أ ف ب)

ملخص

تمكنت حكومة الإنقاذ في إدلب خلال أعوام محدودة من تأمين الدعم لـ1600 مدرسة عامة، تقوم على تخديم زهو 500 ألف طالب، مع إنجاز 400 مدرسة في مخيمات النزوح، و571 مدرسة خاصة، استوعبت 100 ألف طالب.

في أواسط عام 2016 أعلنت "جبهة النصرة" فك ارتباطها بتنظيم "القاعدة" وحل نفسها لتحمل اسماً جديداً هو "جبهة الفتح الشام"، وسرعان ما تخلت عن الاسم الجديد مطلع عام 2017 ليصبح "هيئة تحرير الشام" بعد اندماج الجبهة مع فصائل أخرى من بينها "جبهة أنصار الدين" و"لواء الحق" و"حركة نور الدين الزنكي" وغيرهم، وبالطبع غلبت السلفية المسلحة على الهيئة الوليدة كحال سابقاتها بخلفياتهم الأيدولوجية المتشابهة.

خاضت الهيئة معارك مختلفة مع خصومها السياسيين والميدانيين مدعمة بأسلحة ومعدات جرى تمريرها إليها عن طريق حلفاء أو عبر غنائم الحرب، وفي العام ذاته عقد ما سمي "المؤتمر السوري العام" الذي عنيت به تلك الجماعات لينبثق عنه تشكيل "حكومة الإنقاذ" مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2017.

وكان لتلك الحكومة دور كبير في تطوير الشؤون الإدارية والسياسية والخدمية في إدلب شمال غربي سوريا حتى سقوط النظام السوري في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، إذ جرى حمل تلك الحكومة من إدلب إلى دمشق، وهو ما رتب مسؤوليات أكثر من مضاعفة على عاتقها، فكيف بدا شكل التحول في الحكم من مدينة إلى جمهورية؟

عام حافل بالأحداث

كان عام 2017 حافلاً بالأحداث السياسية التي غلبت على الجانب الميداني، إذ جرى خلالها أيضاً تطوير محادثات أستانا برعاية روسية وإيرانية وتركية، إذ تمكنت من إيجاد مخرجات لوقف إطلاق النار في سوريا وإنشاء مناطق خفض للتصعيد، لتشمل تلك المناطق محافظة إدلب كافة، وأجزاء من محافظات حماة واللاذقية وحلب، ومناطق أخرى.

أتاح ذلك هامشاً من الحرية لحركة حكومة الإنقاذ في المناطق التي تسيطر عليها، ولتركز على إحياء الجوانب التنموية واستعادة تنظيم صفوف قواتها بما يضمن بيئة متجددة لم تحظ بها طوال عمر الحرب، ولعله السبب ذاته الذي أتاح للحركة تنظيم قواعدها من جديد لاختراق دمشق بعد سبعة أعوام من الهدنة التي تخللتها خروق وقصف بين حين وآخر.

استراحة لإعادة الإعمار

تلك الاستراحة سمحت لحكومة الإنقاذ بالاستقرار النسبي الموضعي في أماكن وجودها، والتوجه نحو مراعاة شؤون ساكني المنطقة، فعملت بإصرار على إعادة  تأهيل شبكتي المياه والكهرباء اللتين تضررتا بصورة فادحة خلال الحرب السابقة، مستفيدة من المساعدة اللوجستية والفنية والتقنية عبر استجرار الكهرباء، بما يحقق شبه استدامة من الجانب التركي.

 

 

ونجحت في إدارة ملف توزيع المياه وإيصالها إلى القرى والمنازل، وإلى جانب ذلك أولت عناية خاصة لتعبيد الطرق وإعادة ترميمها. وشهر تلو آخر تمكنت من تطوير خدماتها ومد المناطق العامة بالإنارة، وافتتاح مئات المشاريع التنموية والاقتصادية، مع التركيز على هيكلة مؤسسات "الدولة" الخدمية لتلافي النقص الحاصل من جهة، والمدمر من جهة أخرى، في مسعى بدا واضحاً بالتجلي بين الانسجام والهدوء في إدارة الشؤون الداخلية ما بين العسكر والحكومة.

وإن كانت تعيينات الحكومة تصدر من الجناح العسكري لخصوصية المنطقة وما مرت به من مطبات جعلت شكل الحكم يقوم في مراحل على اختيار الأقرب من الحاكم على مبدأ الولاء لـ"المشروع" والقضية والأيدولوجية من دون المغامرة بالدخول في متاهة "التكنوقراط" بصورة مباشرة، بما قد يهدد السلم الأهلي في منطقة يسودها اللون الواحد الذي لا يمكن التلاعب بهيكليته تلافياً لأية صدامات كانت مرشحة للحصول، وحصلت غير مرة، وجلها كان على شكل تظاهرات في مواقيت مختلفة ولأسباب متباينة.

إنجازات "الإنقاذ" تحت الحصار

تمكنت حكومة الإنقاذ في إدلب خلال تلك الأعوام من تأمين الدعم لـ1600 مدرسة عامة، تقوم على تخديم زهو 500 ألف طالب، مع إنجاز 400 مدرسة في مخيمات النزوح، و571 مدرسة خاصة، استوعبت 100 ألف طالب.

كما أنجزت نحو 700 مشروع طرقي ومشاريع الصرف الصحي و190 مشروع إنارة وتجميل للطرق والشوارع، يضاف إلى ذلك بضع جامعات تمكنت من تخريج دفعات من الطلبة في تخصصات متعددة وإن كانت محدودة. وفي خضم كل تلك النجاحات التي تغدو بمثابة إنجازات في ظل واقع الحرب السورية، وهو فعلياً ما كانت تعجز عنه حكومة دمشق المركزية التي نهشها الفساد، كان المسؤولون في إدلب يعتمدون في سياق عملهم على الإعفاءات الجمركية والحرية الاقتصادية الواسعة التي فاقمت التبادل التجاري وأنعشت الأسواق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يذكر هنا أيضاً أن "السياسة الإدلبية" في الإدارة الاقتصادية كانت على النقيض التام من سياسة دمشق التي أزاحت مشاريع التنمية والتعافي واعتمدت في تمويل نفسها على الاقتصاد الشمولي المرتبط برأس السلطة، الذي كانت من علاماته الجباية التامة ونهب التجار وسلب الناس أموالهم والتلاعب بسعر الصرف، إلى جانب غوصها في الاعتماد على تجارة الحبوب المخدرة وما تؤمنها من عائدات تتوافق مع الإتاوات المفروضة على كل مفصل وشيء، في خلاصة مفادها سقوط الدولة أمام محافظة فيها.

وعلى رغم أن المقارنة هنا تبدو صعبة، لكنها صارت واقعاً بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتفاجأ الواصلين الجدد إلى الحكم من كمية ترهل مؤسسات الدولة وتشابك وتعقيد اقتصادها وترابطه ضمن دائرة يحكمها الفساد المقنن، مع بلد يفتقر إلى أدنى مقومات الصمود والموارد شبه المعدومة لتغذية 14 محافظة، وفوق ذلك عقوبات غربية تحاصر بنوكه ومرافقه وحركته وتجارته وصناعته وتحسب على ساكنيه أنفاسهم، مما جعل المهمة الجديدة في إدارة الجمهورية جد صعبة وتحتاج إلى عقول تستقرئ حجم الكوارث الكثيرة في ظل محيط مضطرب بالأزمات والصراعات.

تسيير أعمال من رحم الإنقاذ

على رغم مضي نحو ثلاثة أشهر على تحرير سوريا من حكم الأسد، والتعيين الفوري لحكومة تسيير أعمال قادمة من رحم حكومة الإنقاذ، أبدت عجزاً شبه تام عن إدارة الملفات الكبرى والصغرى، بل إنها زادت في الطين بلة بتجاوزها صلاحياتها الدستورية والقانونية وصولاً إلى مرحلة التنكيل بالمناهج الدراسية ولقمة عيش المواطنين والتدخل في الحريات الشخصية وممارسة الشخصية الإلغائية استناداً إلى اللون الواحد من جديد.

توجه برره الحكام الجدد بأنه ضرورة مرحلية بغرض التجانس وتلافي الهفوات والتمهيد لتشكيل حكومة انتقالية جامعة قبل تشكيل الدستور الذي سيتطلب كتابته ثلاثة أعوام ثم عام يضاف إليها لإجراء انتخابات رئاسية، خلالها حظي أحمد الشرع بتوافق الفصائل السورية على أن يكون رئيساً لسوريا.

نجاحات وإخفاقات

أحمد الشرع الرئيس الجديد الذي أبدى في كل مفصل وتصريح وحوار كمية ملائمة من البراغماتية السياسية المحنكة سواء الموجهة للداخل السوري أم إلى دول الخارج، وإلى جانبه نجح وزيرا الدفاع مرهف أبو قصرة، والخارجية أسعد شيباني، في إدارة ملفاتهما بجدية مطلقة ونجاح ملفت.

هذه التحركات لم تعف بقية الحكومة من اضطراباتها الواضحة في التعامل مع شؤون بلد كامل، بخاصة أن التعيينات جاءت أيضاً بناء على الولاء قبل الكفاءة في كثير من الأحيان، وهو ما شكل عامل ضغط إضافي للتسريع في تشكيل حكومة انتقالية شاملة تراعي جميع المكونات السورية، وتتمكن مع بعضها من إدارة الملفات المقعدة والخروج بسوريا من الظلمة إلى النور.

مرحلة إنكار واعتقاد

في السياق يمكن القول إن كثيراً من مسؤولي العهد الجديد ما زالوا يعيشون في مرحلة الإنكار وقدرتهم على الإنجاز، وفق ما يقوله المحلل السياسي مهيب جمعة، الذي يرى فرقاً شاسعاً بين نموذجي إدارة إدلب وسوريا. ويضيف "إدلب حكمت بمنطق الاقتصاد الحر كمنطقة خارجة عن سيادة الدولة الأم، لذلك كانت متحررة من عباءة الالتزام والترهل والفساد، خلاف سوريا التي حافظت على قوانينها العرفية والوضعية والتبعية في إدارة شؤونها لعقود مفرزة صراعاً من دول المحيط والإقليم والعالم خارجياً، وداخلياً بالاعتماد على تهميش الدستور وسيادة الفساد وفرز السوريين إلى طبقات بحسب ولائهم، لذلك ستصطدم القيادة الجديدة بملفات شبه معجزة عن الحل، وهذا هو الفارق الدقيق بين الواقع والمأمول".

 

البحث عن تراكم للخبرات

يرى الأكاديمي في العلوم الدبلوماسية سعود ماجد أنه يجب أن تمر مراحل تنقل الأفراد في هيكلية الحكم بتراتبية تسمح ببناء الخبرات وتجميعها وتكثيفها والاعتماد عليها لوضعها في سياق الإدارة الشاملة، ويطرح مثلاً بأن مختار القرية عليه أن يتدرج في مناصب أخرى قبل أن يصير محافظاً لمدينته، بغية اكتساب الخبرة اللازمة، وهذا لا يعني بضرورة الحال افتقار الحكم في إدلب لعوامل النجاح لكن غير الشاملة.

ويوضح أن "إدلب كانت تعتمد على تركيا بصورة مباشرة، وتدير مكوناً من لون واحد، وتستفيد من فترات هدوء طويلة، ولم يكن يلق على عاتقها الخوض في الصراعات الإقليمية بالأصالة عن نفسها، أما اليوم فهي كإدارة انتقلت لتحكم السني والعلوي والشيعي والإسماعيلي والكردي والتركماني والآشوري وكل المكونات سوية".

ويشير الأكاديمي إلى أنها أصبحت تحكم البنك المركزي وبقية البنوك والمصارف والجامعات والمؤسسات والشركات والبنى التحتية والموارد المالية وتمتلك مشكلات خارجية بالجملة، وتلك أسباب ستدفعها لخصخصة بعض القطاعات في إطار عدم التمكن من إدارتها، جازماً أن القيادة السورية الجديدة صدمت بهذا البلد ولم تفهم حتى الآن كيف تدار وكيف لا تزال شبه واقفة على قدميها في ظل مجاعة جماعية يعيشها سكانها بسبب سياسات النظام المخلوع الذي أبى أن يترك البلد لغيره إلا ركاماً.

ويختم حديثه بالقول "هنا جوهر التحدي في الانتقال من حكم إدلب إلى حكم سوريا، ولا بد من نصح القيادة ألا تسمح بإعادة إنتاج نظام شمولي يعتمد على الطاعة، وأن تترك كل شيء لتراعي السلم الأهلي قبل أي شيء في ظل الاضطرابات التي تعيشها المكونات السورية والتي وصلت إلى الساحل والجنوب السوري مع ملف ’قسد‘ والذين جميعهم مع كل السوريين يحتاجون إلى تطمينات جادة وعقد اجتماعي صادق يردم الهوة، ويسعى إلى بناء دولة مواطنة تقوم على الحقوق والواجبات وجسور الثقة لا القلق والخوف من المجهول".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير