ملخص
يؤدي الاكتظاظ في السجون والمعتقلات ذات المعاملة القاسية إلى خلق بيئات عدائية تدفع السجناء إلى البحث عن الحماية والتضامن في مجموعات مترابطة، وغالباً ما تتشكل هذه المجموعات وفقاً للانتماءات الأيديولوجية أو الدينية أو العرقية المتطرفة لشد العصبية في داخلها وبين أفرادها ما يكرس الولاء للجماعة.
تساءلت دراسة حديثة وتفصيلية للاتحاد الأوروبي حول هل تتسبب السجون في التطرف؟ وجاءت الإجابة حاسمة بأن السجون تعتبر بيئة مواتية لانتشار التطرف، أي أنها تدفع السجناء نحو "آراء سياسية أو دينية متطرفة" وهي "بيئة خصبة للتجنيد"، حيث يتواجد "عنصر الشباب الغاضب" المستعد للتلقي ولربط مهارات الإجرام بالقضايا العقائدية.
وعددت هذه الدراسة حالات واضحة تدعم مخاوفها وهي سجن نيو فولسوم في الولايات المتحدة، ومؤسسة فيلثام للشباب الجانحين وسجن وايتمور في إنجلترا، وسجن فلوريميروجيس في باريس، حيث وقعت أحداث بين جماعات متطرفة متعارضة ومختلفة في أيديولوجياتها وأهدافها، وكانت هذه الحوادث القليلة استثنائية لتعزيز الاعتقاد بأن السجون تلعب دوراً في إنتاج التطرف القومي اليميني والسياسي والإسلامي المتشدد أيضاً.
السجون معتزلات التنظيم ونشر الأفكار
برزت في القرنين الـ20 والـ21 قيادات سياسية وعقائدية تؤكد على دور السجون السياسية المكتظة والمعتقلات التي تمارس التعذيب والسجن من دون محاكمة في تخريج العدد الأكبر من قادة وناشطي وعناصر المجموعات السياسية المتطرفة، سواء كانت يسارية أو قومية أو عرقية أو دينية.
هناك شخصيات قيادية كانت متطرفة في الأصل وخرجت من السجن أكثر تطرفاً مثل أدولف هتلر الذي كتب كتابه الشهير "كفاحي" في السجن، وسيد قطب الذي كتب نظرياته الجهادية في سجون جمال عبد الناصر التي كانت مراكز لتبلور الفكر الإسلامي المتشدد، وقبلهما فلاديمير إيليتش لينين قائد الثورة البلشفية في روسيا القيصرية الناجي من عذابات النفي السيبيري.
والأمثلة الحديثة لأبي مصعب الزرقاوي وأبي بكر البغدادي وغيرهما من المتخرجين من سجني غوانتنامو الأميركي وأبو غريب في العراق، وقبلهم كثر من منفذي عمليات المجموعات اليسارية الراديكالية التي برزت في ستينيات وسبعينيات القرن الـ20 مثل الجيش الأحمر الياباني، ومجموعة بادرماينهوف الألمانية.
والمجموعات الفلسطينية المسلحة وكان آخر عناقيدها قائد الجناح العسكري في "حماس" يحيى السنوار ورئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية اللذان أمضيا فترات طويلة في المعتقلات الإسرائيلية قبل أن يُقتلا في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة نتيجة لهذا التشدد الذي اكتسباه في سجون عدوّهم، واشتهر عدد من القيادات العسكرية والفكرية للجيش الإيرلندي الذين ازدادوا تشبثاً بقضيتهم داخل السجون البريطانية.
وهناك قيادات متطرفة في جماعات عرقية أو دينية صغيرة وغير معروفة إلا في الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية، والأمر ينطبق بالطبع على الثوريين أو المتطرفين المتخرجين من سجون البعث السوري في حقبتي حافظ الأسد وابنه بشار الأسد، وسجون النظام البعثي العراقي قبل سقوط نظام صدام حسين.
أهم أسباب ارتفاع منسوب التطرف في السجون بحسب الدراسات الحديثة هو تعاطف المساجين والمعتقلين مع بعضهم البعض خصوصاً في حالات التعذيب، فتصبح السجون مكاناً لتنظيم المجموعات المتطرفة، وقد تصبح الأماكن الأكثر أماناً والأصغر مساحة وقدرة على تثبيت الأفكار مدعومة بالتعاطف والدعم النفسي، وهذا ما أدى إلى ظهور نظريات وأفكار مختلفة حول تطوير السجون والمعتقلات وقواعد التعامل فيها من أجل تفكيك المنظمات الإرهابية والمتطرفة على اختلاف أنواعها وأيديولوجياتها ولمنع تمدد الأفكار المتطرفة وترسخها.
التضامن في بيئة السجن العدائية
يؤدي الاكتظاظ في السجون والمعتقلات ذات المعاملة القاسية إلى خلق بيئات عدائية تدفع السجناء إلى البحث عن الحماية والتضامن في مجموعات مترابطة، وغالباً ما تتشكل هذه المجموعات وفقاً للانتماءات الأيديولوجية أو الدينية أو العرقية المتطرفة لشد العصبية في داخلها وبين أفرادها ما يكرس الولاء للجماعة، ويتمكن السجناء السياسيون، المعبؤون أيديولوجياً والمؤمنون بقضاياهم المتطرفة التي تتغذى على سرديات الاضطهاد والتضحية والصبر.
وأثبتت الأبحاث النفسية، وكثير منها أجرتها إدارات سجون أميركية وأوروبية بعد مراقبة سجنائها ومعتقليها بأن السجناء السياسيين الذين يشعرون بالظلم وبأنهم مسجونون بسبب آرائهم ومواقفهم يصبحون أكثر تطرفاً لأنهم يحوّلون عذاباتهم الشخصية وتضحياتهم إلى دليل على صحة أيديولوجيتهم وعقائدهم وما يؤمنون به، وهنا يصبح التطرف حالة من حالات المقاومة، داخل السجون، ومراوغة مضادة بوجه السجان، ووسيلة لتضامن الجماعة.
السجون الشهيرة بنتائجها العكسية
اشتهرت على مدار القرن الـ20 والـ21 عدة سجون حول العالم تطورت فيها وانتشرت الأيديولوجيات المتطرفة، ومنها خلال الخمسينيات والستينيات اشتهر في مصر سجن طرة وسجون أخرى انتشر فيها الفكر الشيوعي والفكر الإسلامي المتطرف بشكل أكبر بعد حملة القمع ضد جماعة الإخوان المسلمين التي انخرط أعضاؤها في مناقشات أيديولوجية وكتابات ومناظرات أدت إلى تفوق الأفكار الأكثر تطرفاً لتفسير الإسلام، وكان كتاب سيد قطب "معالم في الطريق" أحد أبرز هذه النتاجات، ودعا فيه إلى الجهاد ضد الحكومات غير الإسلامية الذي تبنته مجموعات إسلامية مختلفة وربما متناقضة في أهدافها ومنتشرة على امتداد العامل الإسلامي، وهذا الكتاب كتبه في السجن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واشتهر سجن "المتاهة" في إيرلندا الشمالية في السبعينيات والثمانينيات الذي استخدمه أعضاء الجيش الجمهوري الإيرلندي (IRA) كما ولو أنه معتزل للتخطيط والتفكير والتجنيد والاحتجاج، وقد اشتهرت احتجاجاتهم بالإضراب عن الطعام من أجل جذب الانتباه إلى قضيتهم، وكان أشهر قادتها بوبي ساندز الذي استغل جذب الانتباه الدولي لدعم الجيش الجمهوري الإيرلندي والتأثير في الصراع في إيرلندا الشمالية.
أما في الولايات المتحدة الأميركية عرفت عدة سجون بتعزيز الأيديولوجيات القومية السوداء والتطرف الإسلامي الراديكالي، بعد التوترات العرقية والظلم الاجتماعي في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات من القرن الـ20، وكان لتأثير كاريزما قيادات كثر في الصفين الإسلامي والأسود في أميركا دوره البارز في إعادة الاعتبار لقضاياهم، بل وأسهمت هذه الحركات داخل السجون في ظهور جماعة مثل "أمة الإسلام" Nation of Islam بين السجناء الأميركيين من أصول أفريقية. ومن هذه القيادات مالكوم إكس الذي اعتنق الإسلام في السجن، وكيفن جيمس مؤسس جماعة "الإسلام الصحيح"، إلا أن مالكوم إكس استخدم تجربته في السجن للدعوة إلى الحقوق المدنية بعد الإفراج عنه، بينما قرر كيفن جيمس الانطلاق في أنشطة عنفية.
وهناك قيادات أخرى، كما مالكوم إكس استخدموا السجن كوسيلة لعرض أفكارهم السلمية للتغيير، وكان أشهرهم الزعيم الجنوب أفريقي والسجين السياسي الذي أمضى أطول مدة في السجون بسبب مطالبته بالمساواة والعدالة بين السود والبيض في بلاده، نيلسون مانديلا، ومثله أونغ سان سو تشي في ميانمار، وفاكلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا، والمثال الأول لمثل هذه الطرق السلمية في التغيير مهاتما غاندي الذي دعا إلى مقاومة لا عنفية ضد الاستعمار البريطاني.
في فرنسا اشتهر منذ بدايات القرن الحالي سجن فلوري-ميروجيس الذي أدى اكتظاظ للسجناء المسلمين فيه وبسبب التمييز المنهجي إلى خلق بيئة جيدة لنمو الأيديولوجيات الراديكالية، واشتهر من قيادات هذا السجن أميدي كوليبالي المتورط في هجمات إيل دو فرنس Île-de-France عام 2015.
وأدى التعذيب والاكتظاظ في معسكري بوكاووفي سجن أبو غريب في العراق خلال العقد الأول من القرن الحالي إلى ظهور قادة تنظيم "داعش" الذين أفرزتهم "القاعدة" بعد هزيمتها العسكرية، وتخرج من هذه السجون أبو بكر البغدادي زعيم "داعش" المستقبلي.
في معتقل غوانتنامو الأميركي الذي استقبل منذ عام 2002 قيادات وعناصر القاعدة المتهمين بالتخطيط لأحداث 11 سبتمبر (أيلول) من دون محاكمة، وقد عوملوا بشكل أدى إلى تعزيز السرديات حول الجهاد الفردي والتحمل الشخصي الإيماني ولعب دور الضحية المضطهدة، ما ربط المعتقلين ببعضهم بسبب المظالم المشتركة، وعزز المعتقدات المتطرفة بينهم، وما يؤكد ذلك هو عودة بعضهم إلى الأنشطة العنيفة بعد الإفراج عنهم.
أسباب انتشار التطرف وهل السجن يكافحه
باتت أسباب انتشار الأفكار والأيديولوجيا المتطرفة مهما كان نوعها، معروفة لمعظم العلوم الاجتماعية، وقد نشرت منظمات الأمم المتحدة المعنية مئات الدراسات حول أسباب انتشار التطرف، على رغم اختلاف أنواع التطرف بين منطقة غنية وفقيرة، وبين ثقافة وأخرى سواء كان دينياً أو سياسياً أو قومياً أو عرقياً، وتبين في معظم هذه الأبحاث أن الأنظمة القمعية والاستبدادية أول الأسباب التي قد تدفع الأفراد والجماعات والمعارضة السياسية التي تشعر بالاضطهاد، إلى البحث عن وسائل تعبير قد تكون متطرفة أو عنيفة.
والمشاعر نفسها قد تنشأ تجاه الاحتلال والاستعمار والتدخل الأجنبي، ولهذا السبب ظهرت الكثير من الأيديولوجيات المتطرفة كرد فعل دفاعي أو مقاوم خصوصاً في الدول الهشة أو الفاشلة، كأي حدث في العراق بعد الغزو الأميركي أو في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي عام 2011.
هذا في الأسباب السياسية أما في الأسباب الاقتصادية فإن الفقر والتهميش والبطالة والفساد وغياب العدالة غالباً ما كانت عوامل مساعدة في ظهور الجماعات المتطرفة التي تجد أن فرص تحسين الحياة في داخل النظام القائم غير ممكنة، فتصبح الأفكار العنيفة أو التمرد وسيلة لتحقيق العدالة أو تغيير الواقع، خصوصاً بين فئة الشباب الذين يشعرون بعدم الجدوى وانعدام الأمل بالمستقبل الذين توفر بهم الأيديولوجيات هوية جماعية وتضامنية وقضية يناضلون من أجلها.
أما التطرف العرقي فغالباً ما يبدأ نتيجة إقصاء جماعة عرقية وتهميشها، فيتحول الدفاع عن الهوية الجماعية إلى حركات متطرفة، وهذا هو نفسه سبب نشوء التطرف الديني حين تتعرض مجموعة معينة للاضطهاد أو التمييز بسبب دينها أو مذهبها.
وهناك أنواع من التطرف الاجتماعي الناتج من الانغلاق الثقافي لبعض المجتمعات التي تُنتج أيديولوجيات متشددة بسبب انغلاقها على أفكار جديدة أو رفضها التنوع الثقافي والفكري، ما يدفع لتبني عقلية "نحن ضد الآخرين".
وتوفر الحركات المتطرفة للأفراد إحساساً بالانتماء إلى هوية معينة بخاصة لمن يشعرون بالعزلة الاجتماعية أو النفسية، وهناك بعض الأفراد يلتحقون بالتطرف بسبب الرغبة في القيادة أو الشعور بالتفوق على الآخرين، وقد أسهمت شبكة الإنترنت في نشر الأيديولوجيات المتطرفة، وسهلت التواصل بين المتطرفين.